العميد المختار بن نصر
الجمعية الدولية للاستشراف والدراسات الاستراتيجية والأمنية المتقدمة
تعيش بلادنا منذ الثورة على وقع ازمة سياسية مستفحلة رمت بظلالها على المناخ الاجتماعي والاقتصادي والتنموي وولدت أزمات حقيقية وأخرى مفتعلة في عديد المؤسسات والإدارات ، وانتهت بالتردي في مأزق سياسي وازمة قيادية لم تشهد لها البلاد مثيلا منذ استقلالها جعلت الطبقة السياسية والمجتمع المدني والمنظمات والهيئات في حيرة من الامر،و يتساءل الجميع هنا وهناك في منابر مختلفة حول إمكانيات الخروج من هذا الوضع باخف الاضرار قبل فوات الأوان ؛ ويتفق الجميع تقريبا على تشخيص الازمة المركبة بانها ازمة سياسية بالأساس ،لكن يختلف الكثيرون حول الحلول ويمثل ذلك بحد ذاته ازمة يمكن تسميتها بازمة الفاعلية السياسية .لماذا استفحلت الازمة السياسية في البلاد ؟ وأين تكمن مواطن الخلل ؟ وما العمل ؟.
تؤكد الدراسات الإنمائية الحديثة انه اصبح من البديهي و من المحتم على السلطة السياسية ان تمارس أساسا الدور الإنمائي الذي يقاس به مدى نجاحها او فشلها ،ويتطلب ذلك توفر عنصرين أساسيين لتحقيقه ،استعدادات النظام السياسي للقيام بهذا الدور، و توفر الشروط والظروف الذاتية والموضوعية لضمان حد ادنى من الفاعلية السياسية كشرط لتحقيق الحد الأدنى من الفاعلية الإنمائية، ولتقييم فاعلية النظام السياسي ينظر له عادة من الزوايا الأساسية المكونة له وهي :الزاوية البنيوية المتعلقة بهيكلة النظام ، والزاوية الوظيفية المتعلقة بوظيفة النظام والزاوية العلائقية التي تهتم بعلاقات النظام ؛ ويتم النظر في ظاهرة التوازن العام للنظام السياسي والسلطة السياسية على المستوى الداخلي والخارجي. ولتقييم النظام السياسي القائم في بلادنا منذ الثورة وعلى امتداد عشرية كاملة يجب تفحص زواياه الثلاث المذكورة.
الزاوية البنيوية: بالنظر للدراسات المقارنة في مجال النظم السياسية نجد ان التشكل الهيكلي للسلطة وأجهزتها يعتمد أساسا على عاملين ، طبيعة النظام السياسي وايديولوجيته وطبيعة القوى المختلفة في المجتمع ودرجة التكافؤ والتوازن بينها، وان تحقيق التوازن البنائي يفترض توفر دعامتين أساسيتين ، وحدانية السلطة العامة بشكل يضمن وحدة المسؤولية وعدم ضياعها ،إضافة الى ما يترتب عنها من اندماج وطني واجتماعي وسياسي، والوحدانية هنا لا تتناقض مع تعدد مراكز السلطة ،كتجسيد لمبدا الديمقراطية الشعبية وتكامل أجهزة السلطة المختلفة ومؤسساتها وتمتعها بدرجة عالية من الاستقرار والوحدة التنظيمية والتوازن العام فيما بينها سواء كانت أجهزة تشريعية او قضائية او سياسية او إدارية 1 ،وما ميز النظام السياسي في بلادنا بعد الثورة هو تعدد القوى السياسية المختلفة والتي تفتقر الى انتظام العلاقة بينها ما يمنع بروز اطار معين من التوازن الذي يعمل على تحقيق الوحدة الوطنية ،وان تلك القوى برغم ضعفها تطرح نفسها على السلطة القائمة ضمن فرضية “الاحلال محل ” وليس “المشاركة مع”، من اجل السيطرة على السلطة.
وذلك ما دفع الى نشأة علاقات تناحرية تضرب مقومات الفاعلية السياسية ،مع عدم وجود تقاليد سياسية راسخة يمكن على أساسها تشكيل وبناء هيكل السلطة .ونتج عن ذلك عدم الاستقرار السياسي وضرب القوى السياسية لبعضها البعض مع ضعف فادح للسلطة ، مما خلق شعورا عاما لدى المواطنين منفرا من الاحزاب السياسية ،واصبح الابتعاد عنها لدى الشباب والنخب يعتبر اسهل الحلول وأكثرها امانا.فاصبحت بذلك اجهزة الدولة عديمة الفاعلية وعجزت عن تحقيق التكامل بين بعضها البعض وعجز القطاع الخاص بحكم تلك الظروف على التطوروالنمو . الزاوية الوظيفية:بمتابعة مختلف اشكال الوظيفة التي تمارسها السلطة السياسية ( السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والاتصالية وغيرها ) فان تحقيق درجة عالية من الفاعلية الوظيفية يعتمد على مدى تمتع السلطة السياسية بعدد من القدرات الأساسية أهمها ، القدرة القيادية وهي التي تؤهل السلطة للتعامل الفعال مع مختلف المطالب الشعبية حسب رؤية استراتيجية ،والقدرة التعبوية التي تضمن حشد الموارد المادية والبشرية داخلية وخارجية وتطويعها لاغراض السياسة العامة ،2 ونظرا لعدم استقرار الحكومات(12 حكومة في عشر سنوات) وتعدد التوجهات والاختيارات تصبح المهمة في غاية الصعوبة وتظل السلطة عاجزة عن إيجاد توازن بين تحقيق الأهداف التنموية والامكانيات المالية والبشرية والفنية المتوفرة ويتردى الوضع السياسي والاقتصادي وتنعدم الرؤية.
الزاوية العلائقية:يعتبر موضوع علاقات السلطة من اكثر المواضيع حساسية ودقة سواء لطبيعة التداخل والتشابك بين العلاقات، او نظرا لدرجة تاثير هذه العلاقات وتحكمها في مقومات التوازن الأساسية للسلطة ويمكن النظر له من ناحيتين، علاقات السلطة الداخلية وعلاقاتها الخارجية، هل علاقات السلطة الداخلية في بلادنا علاقات تعاون او تنافس ام صراع ؟ وما علاقة ذلك باساليب تشكيل السلطة ؟ وما هي افضل الظروف العلائقية اللازمة لتحقيق مطلب الفاعلية؟.
لقد ارتكزت قاعدة المشاركة السياسية في بلادنا ، على الائتلاف السياسي بحكم تعدد الأحزاب وتعذر حصول احدها على الأغلبية بمفرده. فأدى ذلك الى مواقف مواجهة بين مختلف القوى واثرعلى تجانس السلطة المركزية الشرط الأساسي لتحقيق توازنها العضوي ووحدتها الداخلية. وتبرز العلاقات الخارجية لهذا النظام كمؤجج للصراع والصدام بين مختلف القوى؛ وان من اهم القواعد الأساسية التي تتحكم في انتظام سيرالعلاقة تبعا لشروط الفاعلية نجد قاعدة القانونية (الشرعية) بناء على أسس دستورية وقانونية؛ تمثل اهم المحددات لنمط العلاقة بين السلطة والمجتمع .وقاعدة المشروعية (الموافقة والقبول) لقواعد الاكراه او الاجبار المادي والمعنوي التي يتم استخدامها لتسييرعملية الحكم .و كذلك مدى انتماء السلطة للمجتمع(الانتماء الوطني والاجتماعي) وذلك يفرض ان تكون السلطة المركزية ذاتية المركز، يعني عدم تعدد الولاءات داخل مركز السلطة وبروزها كوحدة يكون توجهها الأول والأخير نحو المجتمع ككل وليس نحو فئة او طائفة او طبقة محدودة داخلية كانت ام خارجية. وهذا يفرض تحرر قيادات السلطة من روابط التبعية للجهات المصلحية الضيقة والروابط الخاصة اوغيرها كالارتياط بالدول والشركات الأجنبية ، ثم حجم الثقة والولاء للسلطة ومدى تعبير تلك الثقة عن موقف أوسع القطاعات الشعبية. فكلما تحقق ذلك تحققت المشروعية أي القبول العام للسلطة ولممارساتها وتحققت الفاعلية السياسية.
ان مظاهر عدم الاستقرار السياسي و ضعف المشاركة المدنية في صنع السياسات العامة والإنمائية ومناقشتها والانتهاء بتنفيذها ومتابعتها وتقييمها والتي تعتبر مقياسا للعلاقة بين السلطة والمجتمع ، مع الإهدارالغريب والمؤسف للطاقات بعدم الاستفادة من خبرات( 1,2) مليون متقاعد كان لهم شرف الاسهام في بناء الدولة، مع التمزق البنوي والتشتت والغموض الأيديولوجي والثقافي، عمق الاضطراب داخل أجهزة السلطة وادى الى استفحال ازمة الفاعلية السياسية و ضاعف ازمة التنمية، لذلك لا غرابة اذا راينا تعطيلا للإنتاج وللبرامج التنموية ،فالاتجاه العام لمختلف الدراسات الإنمائية يؤكد على أهمية الدور الريادي الذي يجب على السلطة السياسية ان تمارسه كمدخل وحيد لكسر حلقة التخلف المفزعة التي يعاني منها المجتمع.ويصبح من الضروري مباشرة الإصلاحات اللازمة على هذا النظام السياسي من زواياه المختلفة لكي يصير قادرا على أداء وظيفته الأساسية في إنجاح التجربة الديمقراطية الناشئة والحفاظ على السلم الاجتماعية وتحقيق اهداف الثورة.
هناك حقيقة مفادها ان المجتمعات التي اعتمدت فيها القيادة السياسية على فرق خاصة لادارة الازمات تتحلى بالمعرفة والمهارة، كانت اصلب عودا واكثر قدرة على الاستمرار من تلك التي انتهجت أسلوب التصدي المرتجل والتعاطي بطرق غير مدروسة سلفا ما أدى الى ضعفها وتفككها، في الاحداث التاريخية الكبرى نجد انه بين كل مرحلة وأخرى جديدة تنشأ ازمة تحرك الاذهان وتشعل الصراع وتحفزالابداع وتطرق فضاءات بكر تمهد السبيل الى مرحلة جديدة غالبا ما تستبطن بوادرازمة أخرى وتغييرا آخر مقبلا، من هنا نشأت أفكار جديدة من اجل دراسة وتحليل الازمة ومحاولة الخروج منها باقل الخسائر وتاخير الازمة اللاحقة ان تعذر تعطيلها.في بلادنا اليوم تتعاطى السلط مع الازمات المتعددة والمعقدة بأسلوب عمل الظروف العادية، بينما يتطلب العمل في حالة الطوائ وحالات الازمات طرق عمل استثنائية تماشيا مع الظروف الاستثنائية .ومن الغريب الاعتقاد انه يمكن أن يكون هناك حلول بسيطة لازمات مركبة ومعقدة، وذلك دليل عن قصور في الفهم او رفض للفهم ،وهو نوع من الكسل الذهني الشائع والذي تغذيه الثقة الزائدة في النفس.
نحن بحاجة اليوم وبصفة مستعجلة ،لاطلاق حواروطني مع كل من يضع المصلحة العليا للبلاد فوق كل اعتبار والعمل على إيجاد صيغة عقلانية لاقناع رئيس الجمهورية المسؤول على الوحدة الوطنية وعلى الامن القومي ان يسعى لايجاد الحل لهذا المازق ، وان تعذر ذلك يكون على مجلس نواب الشعب المبادرة والسعي الى إيجاد الحل .ثم يتم ضبط رؤية استراتجية ، تتعلق بالمصالح العليا للدولة فى الحاضر والمستقبل. وأحسب أن أحد المفاتيح المهمة لذلك يكمن فى التفرقة بين النظام والدولة. وهى التفرقة التى يتجاهلها كثيرون سهوا أو عمدا بحيث يختزلون الدولة فى النظام، فى حين أن الدولة كل والنظام جزء. والأولى ثابتة والثانى متغير.
هذا الاختزال يعطي نتيجة سلبية تتلخص فى أن أي خلاف أو نقد للنظام يصبح عداء للدولة وسعيا إلى تقويضها. وهو خطأ فادح يفسد الرؤية الاستراتيجية لأنه يورط السلطة فى مواقف تتبنى فيها إجراءات تستهدف الدفاع عن النظام فى حين أنها تضر المصالح العليا للدولة فى المدى البعيد.
ختاما إن اختزال الدولة والوطن فى النظام أو قيادته منطق ينتمى إلى مفهوم القبيلة. “فشرف القبيلة وكرامتها من كرامة شيخها الذى هو قدرها. أما الدولة فلها حسابات مختلفة، ” لأن ثمة مجتمعا يعيش على أرضها ومصالحه ليست مرتبطة بالضرورة بنظامه أو برئيسه الذى اختاره الشعب وله أن يغيره إن شاء. ومن المفارقات ان الفهم الحقيقي للدولة غائب عند البعض الذي بوعي او بدونة يضرب في الصميم المصلحة العليا للوطن من اجل مصالح ذاتية ضيقة ، ويبرز ذلك في العجز عن إدارة الخلاف إذا تباينت أو تعارضت وجهات النظر.
ان التردي في هذه الازمة وهذا الارتباك وهذا المأزق حتمية موضوعية لسلطة الرؤوس الثلاثة التي لم تضبط آليات عملها بالدقة المطلوبة وتلك مآلات الفوضى التي ولدتها المصالح الضيقة وانعدام الرؤية الاستراتيجية في ظرف متأزم أصلا، ستفضي هذه الازمة المستفحلة ما لم يتم تدارك الوضع بسرعة الى التدخل الأجنبي لان هناك من الدول من له مصلحة في استقرار البلاد ولا يسمح بان تصير تونس دولة فاشلة على الحدود الجنوبية للحلف الأطلسي، وها ان صندوق النقد الدولي بادر بالدفع نحو التدخل في الشأن التونسي حينما لم يعد يكتفي بتوجية النصح اوالضغط لاصلاح الوضع الاقتصادي والمالي وبات يطلب ضمانات من اطراف دولية تتعاون مع تونس، والامل كل الامل ان يسمع ناقوس الخطر قبل فوات الأوان، فتهرع القوي الوطنية الصادقة الى انقاذ ما يمكن إنقاذه.
فاعراض الدولة الفاشلة بدأت تظهر و تتطور امام اعين الشعب و أصحاب القرار ويكفي التمعن في تعريف الدولة الفاشلة لنقف على حقيقة خطورة الوضع ومرارته ” فالدولة الفاشلة هي تلك التي تتفكك فيها السلطة الشرعية وتصبح غير قادرة على اتخاذ قرارات موحدة مما يفقدها القدرة على بسط سلطة القانون والسيطرة على وسائل العنف الخارج على الاطار القانوني،وتصبح عاجزة عن تحقيق الامن والاستقرار لشعبها وفرض السيطرة على أراضيها او جزء منها وعلى ممارسة وظائفها السيادية في كنف الاستقلالية والالتزام بالمسؤولية الاجتماعية ولا تستطيع ضمان النمو الاقتصادي وتوفير السلع والخدمات الأساسية لسكانها او التوزيع العادل للثروات ويسودها عدم المساواة والمنافسة غيرالقانونية للسيطرة على الموارد والثروات”3.
المراجع:
1-ازمة الفاعلية السياسية في البلاد العربية.د عبد المعطي محمد عساف
2-نفس المرجع١
3-مفهوم الدولة الفاشلة ،كيف نشأ وتطور (راي اليوم )-نسيم خوري
بقلم العميد المختار بن نصر