بقلم العميد عبد الستار بن موسى

إن الآمال معلقة على تحمَل الضمائر الحيَة والقوى الوطنية والسياسية المسؤولية والإسراع في تبني خطة وطنية مستعجلة لإنقاذ البلاد من شرَ العباد وإنقاذ الاقتصاد من الركود والفساد ودفع الاستثمار وخلق مواطن شغل. خطة يجب أن توضع بدقة وحكمة بعيدا عن التجاذبات السياسية والحزبية، بعيدا عن المصالح الذاتية وفي وقت قياسي لتفادي الانهيار والبليَة . خطة توفر للوطن السلامة وللاقتصاد التنمية المستدامة وللمواطن الكرامة .

إن الترقب طال والأمل في خطة الإنقاذ كدنا نفقده

إلا أنَ الأهداف المنشودة لا يمكن تحقيقها بمجرد خطة الإنقاذ التي تبقى جرعة أكيدة ومفيدة للإنعاش ولكنها غير كافية . إذ يجب التفكير مليا في الإصلاحات الهيكلية التي يجب أن تشمل كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية . يجب استنباط الحلول الجذريَة للقضاء على أصل الداء وتوفير العلاج والدَواء. لنبدأ بالمجال السياسي ونقدم بعض المقترحات للمساهمة في إصلاح منظومة الانتخابات أولا وإطار الأحزاب والجمعيات ثانيا لنتطرق لاحقا إلى مسألة تعديل الدستور بما هو مفيد والتفكير في تصوَر للنظام السياسي المنشود الذي يخلَص البلاد والعباد من التخلَف والرَكود.

مراجعة المنظومة الانتخابية

يتفق أغلب الخبراء في مجال القانون وخاصة في مجال الانتخابات بان تعديل النظام الانتخابي المعمول به بموجب المرسوم عدد 35 لسنة 2011 المؤرخ ف 10 ماي 2011 والمتعلق بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي أصبح الآن ضرورة ملحة فهو نظام تمَ اعتماده سنة 2011 بصفة استثنائية حتى لا تتغوَل أي قوة سياسية لتمسك بمقاليد البلاد وحتى لا يستحوذ أي حزب سياسي على الأغلبية النيابية في المجلس التأسيسي وبفرض دستورا على مقاسه ووفق توجهاته التي قد لا تتفق مع مطالب الثورة في الحرية والكرامة والتنمية المستدامة.

بفضل ذلك النظام الانتخابي وبفضل ضغط المجتمع المدني ورد الدستور الجديد توافقيا ضامنا للحقوق والحريات الفردية والجماعية رغم هناته على خلاف المسودَات الأولى التي لم تستجب لمطالب الثورة وجوبهت برفض واسع النطاق.

إن المرسوم عدد35 لسنة 2011 أرسى في الفصل 32 نظام اقتراع يجري بموجبه التصويت على القائمات في دورة واحدة ويتمَ توزيع المقاعد في مستوى الدوائر على أساس التمثيل النسبي مع الأخذ بأكبر البقايا وهو نفس النظام الذي تبناه الفصل 107 من القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 الؤرخ في 26 ماي 2014 والمتعلق بالانتخابات والاستفتاء.

إذ ذلك النظام الانتخابي يستند إلى آليات تمنع وجود أحزاب ذات تمثيلية قوية تمكنها من إدارة الشأن العام ومن تحمَل المسؤولية ونتائجها في انتخاب لاحقة . لقد اتضح جليا وعلى امتداد عشر سنوات أنَ ذلك النظام الانتخابي ولد صعوبات كبيرة في تكوين التحالفات وفي تشكيل الحكومات وفي إرساء الهيئات وحتى في إصدار القوانين التي بقيت جلَ مشاريعها في مهب التجاذبات . كما ساهم ذلك النظام في شل الدستور وعدم تركيز الهيئات الدستورية المستقلة.

إنَ التمثيل النسبي مع الأخذ بأكبر البقايا أثبت حسب عديد المحللين والخبراء في المجال الانتخابي عدم جدواه لأنه عوض أن يفرز برلمانا قويا به أغلبية متماسكة مستقرة ومعارضة قوية وناجعة وفعالة يِوَلد برلمانا فسيفسائيا تكثر فيه الملل والنَحل وتتبدل فيه التحالفات والكتل . برلمان كلَه جدل وغوغاء وتبادل شتم واعتداء. برلمان لا يستقرَ على قرار خلق في المجال الحكومي عدم استقرار مما عطل الإصلاحات الجذرية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.

ولَد ذلك المشهد الدرامي الذي ينقل مباشرة عبر القناة الوطنية بل وأيضا عبر وسائل التواصل الاجتماعي لدى الجمهور وخاصة الشباب حيرة ونقمة على الأحزاب السياسية وعزوفا عن المشاركة في المحطات الانتخابية سواء كانت بلدية أو تشريعية أو رئاسية .

لقد ارتفعت بعد انتخابات 2014 الأصوات المنادية بتعديل نظام الاقتراع باعتبار أن القانون عدد 7 لسنة 2017 المؤرخ في فيفري 2017 لم يغير في الأمر شيئا. أصدر المجتمع المدني في هذا المجال عريضة خلال شهر مارس 2018 أمضى عليها العديد من السياسيين والخبراء المختصين للمطالبة بتبني نظام انتخابي جديد يقوم على الأغلبية في دورتين.

إلا أن أصحاب تلك العريضة عبروا عن استغرابهم لمشروع السلطة التنفيذية الذي قدم آنذاك والذي يهدف إلى الترفيع في العتبة من 3 إلى 5 بالمائة واعتبروه لا يرمي فقط إلى المحافظة على مساوئ النظام الانتخابي المعمول به بل سيفرز مزيدا من السلبيات التي سيكون لها سيئ الأثر على المسار الديمقراطي.

قدمت السلطة التنفيذية قبل إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية2019 ببضعة أشهر مشروع قانون جديد يتضمن بالإضافة إلى رفع العتبة الانتخابية من 3 إلى 5 % عدة استثناءات وشروط جديدة تمنع من الترشح الأشخاص الذين ترصد هيئة الانتخابات مخالفتهم للفصول 18 و 19 و 20 من القانون الانتخابي أو الذين قدموا امتيازات للمواطنين أو تلقوا تمويلات أجنبية أو تبرعات من داخل البلاد. اعتبر العديد من الفقهاء في القانون أن تلك التعديلات ظرفية وصيغت على مقاس واضعيها قصد إقصاء خصوم سياسيين.

كما اعتبرتها الجمعية التونسية من أجل نزاهة الديمقراطية في غير محلها لأن تغيير قواعد اللعبة الانتخابية في المسافة الأخيرة من العملية الانتخابية يضرَ بمصداقية الانتخابات ويمس من نزاهتها. إلاَ أن مشروع القانون الذي تمت المصادقة عليه لم يقع ختمه.

إن للنظام الانتخابي طرق متعددة  معمول بها في مختلف أرجاء العالم

إما الاقتراع بالأغلبية أو نظام التمثيل النسبي أو النظام المختلط. إن نظام الاقتراع بالأغلبية يمكن أن يولد سيطرة لبعض الأحزاب على المشهد السياسي والبرلماني وبالتالي التحكم في المسار التشريعي والحكومي وطمس دور المعارضة وقد يشكل في نهاية المطاف نسفا للديمقراطية.

أما نظام التمثيل النسبي فهو يهدف إلى توزيع مقاعد البرلمان بحسب حصة كل قائمة انتخابية من عدد الأصوات. هناك طريقتان معمول بهما. الأولى توزيع المقاعد مع الأخذ بأكبر البقايا وهو نظام يساهم في تمثيلية نيابية متنوعة ولا يمكن أية قائمة من الحصول على كل المقاعد في دائرة واحدة وبالتالي لا يمكن لأي حزب الحصول على الأغلبية داخل البرلمان.

إنه النظام الذي اعتمدته بلادنا خلال انتخابات 2011و 2014 و2019. فإذا كان مفيدا بالنسبة للمرحلة التأسيسية وخاصة عند إعداد الدستور وعند إنشاء الهيئات الدستورية كما سبق أن وضحنا فإنه يتقلب إلى مصدر للتشتت والتشرذم داخل البرلمان وعدم الاستقرار الحكومي والسياسي نتيجة تقلب التحالفات وتغير التكتلات بما يصعب معه القيام بالإصلاحات.

أما النظام النسبي الثاني الذي يعتمد أكبر المتوسطات فإنه يساعد على تفادي المشهد ألفسيفسائي داخل البرلمان ويمكن من تحقيق أغلبية وائتلاف برلماني أغلبي مستقر داخل البرلمان مما يساعد على الاستقرار الحكومي.

أما النظام المختلط فله أشكال عديدة يمكن أن يجمع بين الأغلبية والنسبية أو بين التصويت على القوائم والأفراد. كما يمكن أن يستند إلى دوائر مزدوجة وطنية ومحلية وتكون فيه القوائم مغلقة أو مفتوحة.

على إثر الانتخابات التشريعية والرئاسية سنة 2019 وبعد تكلَس المشهد ألفسيفسائي في الفضاء البرلماني وبعد التعثر في المسار الحكومي تقدمت بعض الأحزاب بمبادرات تشريعية جديدة تهدف إلى تعديل كل جوانب المنظومة الانتخابية التي ظلت محل جدل مستمر بين الأطراف السياسية. تعلقت بمسألة العتبة وبمسالة المرور إلى أوسط البقايا في النظام النسبي أو ضبط معدل وطني للأحزاب، يجب في إطار التعديل تحقيق تمثيلية عادلة ومنصفة للناخبين عند تحديد الدوائر الانتخابية، والتخلي عن التنفيل غير العادل في توزيع المقاعد النيابية المنصوص عليه بالفصل33 من مرسوم الانتخابات والذي نصَ بأنه يسند مقعدان إضافيان للولايات التي يقل عدد سكانها عن 270 ألف ساكن كما يسند مقعد إضافي إلى الولايات التي يتراوح عدد سكانها بين 270 ألف و500 ألف ساكن. لقد أدى ذلك إلى إسناد بعض الدوائر الانتخابية عددا إضافيا من المقاعد لا يرتكز على المعيار الموضوعي والعادل الذي يستند إلى العدد الفعلي للسكان .

كما أنه من الضروري الترفيع المعيار المحدد لعدد المقاعد بما ينتج عنه التقليص من عدد النواب وتحسين وضعية ممارستهم لمهامهم كتوفير الظروف اللازمة لحوكمة المؤسسة التشريعية. إن نظام الاقتراع المعمول به حاليا شكل عائقا أمام ترسيخ التعامل الديمقراطي. يجب أن يتجذَر الوعي بضرورة تعديله قبل الانتخابات المقبلة وفي متسع من الوقت وإلا فإن مرحلة الاضطراب السياسي ستطول وستكون لها الآثار الكارثية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية.

إن التعديل لا يمكن أن ينحصر في نظام الاقتراع فالمعضلة الأساسية تكمن في القصور الواضح في رصد التمويلات المشبوهة في الحملات الانتخابية والمخالفات المالية والانتخابية. لقد نص الفصل 98 من القانون الانتخابي بأنه في صورة عدم إيداع الحساب المالي لقائمة أو مترشح أو حزب في أجل 30 يوما من تاريخ التنبيه والإمهال أو عندما يتجاوز سقف الإنفاق على الحملة الانتخابية 75 بالمائة. يجوز لمحكمة المحاسبات أنَ تصرَح بإسقاط عضوية كل فائز ترشح عن إحدى تلك القائمات. كما نصَ الفصل 93 بأن رقابة محكمة المحاسبات على تمويل الحملة الانتخابية تهدف إلى التثبت من إنجاز المصاريف المتعلقة بالحملة من خلال الحساب البنكي الوحيد المفتوح للغرض المصرَح به لدى الهيئة ومسك كل مترشح أو حزب سياسي أو قائمة مترشحة حسابية ذات مصداقية والتثبت من أن المداخيل أتت من مصادر مشروعة. كما نص الفصل 98 بأن البنك المركزي يشرف على عملية فتح الحسابات البنكية ويسهر على عدم فتح أكثر من حساب بنكي لكل مترشح ويتولى مد الهيئة ومحكمة المحاسبات بكشف في هذه الحسابات.

إن القانون الانتخابي لم يضبط الآليات الدقيقة لتفعيل هذه الإجراءات ورصد الإخلالات في إبانها. كما أنه لم يضبط آجالا مقتصرة لمحكمة المحاسبات لتصدر العقوبات خاصة الانتخابية في إبانها وقبل انعقاد أول جلسة برلمانية، ذلك أن انتظار صدور التقرير العام لمحكمة المحاسبات حول نتائج الرقابة للعملية الانتخابية في ظرف 6 اشهر من الإعلان عن النتائج النهائية طبق الفصل 97 من القانون سيفرغ قرارات محكمة المحاسبات من محتواها في هذا المجال، لا بد من تنقيح القانون المنظم لمحكمة المحاسبات وبعث دوائر جهوية لها . يجب أيضا إخضاع الحملة الانتخابية في الفضاء الالكتروني إلى رقابة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وتمكين المواطنين المقيمين بالخارج من التصويت عن بعد أو بالبريد ، نظرا لتدني نسب التصويت الناجم عن بعد المسافة التي تفصل مراكز التصويت عن المقترعين.

لقد أصبح تنقيح القانون الانتخابي ضرورة قصوى للحدَ من التشتت السياسي إلا أنه لابد من مراجعة المنظومة الانتخابية برمتها بما في ذلك القانون عدد23 لسنة2012 المتعلق بالهيئة العليا للانتخابات وكذلك قانون سبر الآراء والقانون المتعلق بتقسيم الدوائر الانتخابية.

إن تعديل القانون يجب أن يكون محل حوار مستفيض جاد وبناء ولابد من الاستئناس بآراء الخبراء والمجتمع المدني المختص في المجال الانتخابي حتى يكون التعديل ناجعا ومفيدا لا يخدم مصلحة الأحزاب والأفراد واللوبيات والزعامات بل يخدم مصلحة الوطن والشعب.

إذا كان نظام الانتخابات في حاجة إلى مراجعة فإن الإطار القانوني والواقعي للأحزاب والجمعيات في حاجة أكيدة إلى التقييم خاصة في باب الخطاب والتمويل.

بقلم العميد عبد الستار بن موسى