رغم أن موريتانيا تعتبر ثاني أغنى شاطئ في العالم نظرا لثروتها السمكية الهائلة التي تستمدها من إطلالتها على المحيط الأطلسي على امتداد يقدر بـ 750 كيلومتراً، إضافة إلى ثروات أخرى كالحديد والذهب والنحاس، إلا أن معدلات الفقر والبطالة في البلاد مرتفعة جدا مقارنة بالدول المجاورة ما جعل المراقبين للشأن المحلي يتساءلون عن سبب حصول هذه المفارقة التي جعلت البعض يصف موريتانيا بأنه البلد الأغنى في العالم والأفقر في العالم في الوقت ذاته.

لا شك أن الفساد المستشري في عدد من دول العالم الثالث قد يكون عاملا مفسرا لهذا التناقض، لكن الثروة الموريتانية تواجه مهددات أخرى أكبر من ذلك، وفسادا من نوع آخر حيث أن أعين الدول الأجنبية ظلت مسلطة عليها منذ الاستقلال وإلى الآن، ابتداء بالعملاق الصيني مرورا بالاتحاد الأوروبي وانتهاء بتركيا.

وفي هذا الإطار وصلت ثاني أكبر سفينة صيد في العالم للمياه الإقليمية الموريتانية قبل أيام قادمة من إسبانيا بعد تم طردها من أستراليا بسبب استنزافها للثروة السمكية ما أثار ضجة كبيرة في البلاد.

لكن بغض النظر عن هذه الحادثة.. كيف وصلت موريتانيا إلى هذه الوضعية، وما الذي يجعل السفن الغربية تصول وتجول إلى اليوم في المياه الإقليمية للبلد مستنزفة ثروته السمكية؟.. ولماذا لا تتجه نواكشوط إلى جاراتها من الدول المغاربية والإفريقية لتسويق أسماكها؟.

سفن أجنبية تستنزف الثروة الموريتانية

تأتي حادثة وصول ثاني أكبر سفينة في العالم إلى المياه الإقليمية الموريتانية في إطار الاتفاقيات التي أبرمتها البلاد مع عدد من الأطراف أبرزها الاتحاد الأوروبي والصين وتركيا، إلا أن المثير للجدل أن هذه الاتفاقيات تم إمضائها قديما وحتى عند تجديدها فإن النظام الموريتاني يبقي عليها غالبا بنفس الطريقة أو يقوم بتعديل فصول صغيرة منها.

سفينة الصيد العملاقة التي طردت من إسبانيا

فمثلا في نوفمبر 2020 قامت موريتانيا بتجديد اتفاقية التعاون في مجال الصيد المبرمة منذ العام 1987 بينها وبين الاتحاد الأوروبي بالشروط نفسها بنفس البنود السابقة، وبنفس المقابل المادي الذي يدفعه الاتحاد الأوروبي مقابل الصيد في المياه الموريتانية الذي يقدر بـ 57 مليون أورو، وفي المقابل يتم السماح للسفن الأوروبية بصيد 300 ألف طن من الأسماك الموريتانية ذات الوفرة السمكية العالية.

وفيما يتعلق بالصين تعود الاتفاقية المتعلقة بالصيد البحري إلى عام 1991 ليتم تعديلها في 2010 لمدة 25 عاما مع تجديد بروتوكولها التطبيقي كل خمس سنوات، لكن هذه التفاهمات أثارت الكثير من الجدل في البلاد خاصة بعد اكتشاف اتفاق في عام 2019 بين نظام الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز وشركة “بولي هوندونغ” الصينية الناشطة في مجال صيد الأعماق، خاصة أن هذه الشركة تستخدم آلية صيد تدمر الشعب المرجانية الموجودة في أعماق المحيطات، التي هي الضامن لاستمرار الحياة البحرية بشكل دائم، إضافة إلى استهدافها لأنواع نادرة مهددة بالاقراض.

ومؤخرا دخلت السفن التركية على الخط حيث تنتهج معايير غير مشروعة لممارسة الصيد خارج بنود الاتفاقية البحرية للصيد السطحي كما تتهم بالصيد الجائر عن طريق استخدام أساليب تنتهك معايير اتفاق الصيد المبرم بين البلدين.

ثروة كبيرة وفقر مدقع

ورغم هذه الثروة الضخمة التي كان باستطاعتها منفردة أن تساهم في انتشال الاقتصاد الموريتاني مما يعانيه من مشاكل إلا أن تواصل نشاط هذه السفن الأجنبية إضافة إلى الفساد الذي ينخر بعض مؤسسات الدولة جعل البلاد تستورد بعض أنواع السمك معلبة وبثمن أغلى رغم توفرها على هذه الأنواع بكثرة في شواطئها.. مفارقة تحيلنا إلى معدلات الفقر التي تشير الأرقام الرسمية إلى أنها في حدود 31 بالمائة، إلا أن منظمات غير حكومية تؤكد أنها تتجاوز الـ 46 بالمائة، ما جعل مراقبين يصفون موريتانيا ببلد المليون فقير بدل بلد المليون شاعر التي تشتهر بها البلاد.

وإضافة إلى معدلات الفقر تنتشر البطالة بشكل واسع في البلاد حيث تقدر بـ 30% ما يجعلها تصنف كواحدة من أعلى النسب على المستوى العالمي، الأمر الذي يثير الكثير من التساؤلات حول تسيير الثروة في البلاد و”نهب” بعض الدول الأجنبية بالقانون وبغير القانون لثروات البلد وخيراته في الوقت الذي يعاني سكانه الأمريّن من أجل توفير أبسط الأساسيات.

الانفتاح على أفريقيا

بدلا من الاستمرار في الاتفاقيات القديمة بين البلدان الإفريقية ودول بعيدة مثل الصين وتركيا أو بلدان الاتحاد الأوروبي وببنود لا تخدم سوى الطبقة السياسية وبعض رجال الأعمال، ألا يمكن لدول أفريقيا أن تنفتح على بعضها البعض، خاصة فيما يتعلق بالتعاون الاقتصادي المشترك، فأفريقيا هي مصدر الثروة من خلال ما تتمتع به من موارد ضخمة وهي في نفس الوقت السوق المناسبة لبيع هذه الثروة بحكم عددها سكانها الكبير.

وفي هذا الصدد، وبالنسبة للحالة الموريتانية التي تجمعها اتفاقية مع دول المغرب العربي فإن نسبة التبادلات التجارية داخل هذا الاتحاد أقل من 5 في المائة من إجمالي التجارة الخارجية للبلدان المغاربية ما يجعل هذه المنطقة إحدى المناطق الأقل اندماجا في العالم سياسيا واقتصاديا حسب تقرير صادر عن المعهد المغاربي لتحليل السياسات في 2020.

وفي أفريقيا لا تتجاوز نسبة التجارة البينية بين دول القارة 16 بالمائة في حين أن تبادلات هذه البلدان مع الدول الأوروبية يقدر بـ 65 بالمائة ما يعتبر مفارقة عجيبة وعنصر تحليل قد يؤدي طرف الخيط الذي يفسر الوضعية التي تعيشها القارة الأفريقية حاليا.

الطموحات الاقتصادية وحدها لا تكفي في ظل غياب إرادة سياسية حقيقية تؤمن بما تقتضيه مصلحة القارة الأفريقية على غرار ما حدث في قارات أخرى مثل تجربة الاتحاد الأوروبي أو “النمور الآسيوية”.. فمتى تدرك أفريقيا أن تقدمها وازدهارها واستقرارها موجود داخل أفريقيا نفسها وليس خارجها؟.

بقلم الصحفي الذهب عفان