تحقيق وائل النهيدي…

لا شك في أن عظمة الإمبراطورية القرطاجية وازدهارها قبل أكثر من ألفي سنة لا تزال تدرّس في أعرق كليات التاريخ حول العالم . فهي الإمبراطورية التي حكمت غرب المتوسّط وأنجبت حنبعل برقا أعظم القادة العسكريين على مر العصور .

 سقطت الإمبراطورية القرطاجية سنة 146 ق.م على يد الإمبراطورية الرومانية تاركة خلفها كنوزا أثرية لا تحصى ولا تعدّ لعلّ أبرزها المنطقة الأثرية بقرطاج التي دخلت سنة 1979 قائمة التراث العالميّ لليونسكو لكنّها اليوم أضحت مهدّدة بالخروج منها .

هل يجب تدمير قرطاج مرة أخرى ؟

ربّما لم يكن يخطر ببال سيناتور روما القديمة، “كاتو” أن أحفاد القرطاجييّن سيطبقون مقولته الشهيرة ” يجب تدمير قرطاج”، مقولة كان يستعملها “كاتو” في نهاية كل خطاب يلقيه أمام رجال الكنيسة أو مجلس الشيوخ.

وقد مرّ الموقع الأثريّ بقرطاج بعدد من المحطات منذ دخوله لائحة التراث العالميّ لليونسكو سنة 1979 ، وقد ظنّ الكثيرون أنّ هذا التصنيف سيمكّن من كبح جماح المعتدين، لكنّ العكس صحيح فرغم صيته الذي ذاع في كافّة أرجاء المعمورة إلاّ أن أيادي العابثين من حاشية الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي قد تسلّلت إلى هذا الموقع التاريخيّ.

وبقي الموقع الأثريّ بقرطاج على امتداد السنوات محلّ انتهاكات واسعة، فرغم أن تقرير بعثة منظمة اليونسكو سنة 2012 أكّد أنّ القرارات التي تم اتخاذها بين سنة 1992 وسنة 2005 والتي تنصّ على إلغاء تصنيف عدد من الأراضي التي كانت ضمن الموقع الأثري هي قرارات مقبولة. وكانت البعثات التي أرسلتها اليونسكو بين 1997 و 2002 إلى تونس قد أقرت بأن هذه القرارات ليس لها أثر على الموقع الأثري بقرطاج نظرا لأن الأراضي التي شملتها القرارات ليست أثرية.

لكن منذ سنة 2006 صدر أمران رئاسيّان ( أمر رئاسي عدد 2416 لسنة 2006 و أمر رئاسي عدد968 لسنة 2007)  يقضيان  بإسقاط أراض كانت مدرجة ضمن الموقع الأثري دون أن تتمّ مراجعة المؤسّسات المعنيّة حيث نفت كل من وزارة الثقافة والمعهد الوطني للتراث وبلدية قرطاج ذلك.

وخصصّت هذه الأراضي لإنشاء إقامات فاخرة  ومشاريع سكنية وتقدر مساحة هذه الأراضي ب 12.5 هكتار حيث تم بيع المتر المربع الواحد من هذه الأراضي بحوالي 7 آلاف دينار ما يؤكد شبهات الفساد التي تحوم حول هذه العملية خاصة وأن هذه المشاريع تعود أغلبها إلى حاشية الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي وهي إلى اليوم موجودة ولم يتم اتخاذ أي قرار هدم بخصوصها.

وقد اعتبر تقرير بعثة اليونسكو أن البناء على هذه الأراضي تسبب في تدمير مخزون أثري هام  ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتم إصلاحه . وقد تركّزت الخسائر بالأساس في منطقتي برج بوخريص وبئر فتوحة . وعند التعمّق في تقرير بعثة اليونسكو نكتشف أن الأضرار قد لحقت بأغلب المعالم التاريخية انطلاقا من الصهاريج المعلقة في قرطاج بيرصا التي تم استغلال الأراضي المحاذية لها لإنشاء مطعم ضخم تسبب في تشويه المنطقة الأثرية، وصولا إلى الميناء البونيقي.

وخلص تقرير اليونسكو إلى أن الأضرار التي لحقت بهذه المناطق الأثرية يمكن تصنيفها إلى نوعين: الأول تعلق بتحقيق منافع مادية وتطوير البنية التحتية والثاني إهمال السلطات الأثرية المسؤولة.

ومن بين التوصيات التي أطلقتها اليونسكو والتي اعتبرتها من أوكد الأولويات هي تحديث ومراجعة خطة الحماية والتعزيز التي تم إعدادها في نهاية التسعينيات. هذه الخطة، التي لم تتم الموافقة عليها مطلقًا من طرف السلطات في تونس  و لم يتم إرسالها أيضًا إلى مركز التراث العالمي.

2011 هدنة لم تدم طويلا

بعد التحوّل السياسي الذي عاشته تونس سنة 2011، استبشر المجتمع المدنيّ في جهة قرطاج وتحرّكت الجمعيات والنشطاء لإيقاف الخراب الذي استهدف تاريخ إحدى أعرق الحضارات في العالم القديم وهدّية الجمهورية التونسية للتراث الإنسانيّ، لتتشكّل لجنة ويعهد لها النظر في وضعية العقارات التي استولت عليها عائلة بن علي وصدر مرسوم يقضي بإلغاء كافة المراسيم الرئاسية التي بموجبها تم إلغاء تصنيف عدد من الأراضي الأثرية، لكن كغيرها من اللجان في تونس، لا نتيجة تذكر بسبب الخلافات بين أعضاء اللجنة. وتم قبر الملفّ دون أن تحرّك رئاسة الحكومة آنذاك ساكنا.

وتنص مجلة حماية التراث الأثري والتاريخي والفنون التقليدية التي تم إصدارها سنة 1994 على غرامة مالية أقصاها 10 آلف دينار وتتراوح العقوبة السجنية بين شهر واحد وسنة لكل شخص يقوم بالبناء فوق الأراضي المصنفة أثرية غير أن هذه النصوص القانونية بقيت مجرّد حبر على ورق حيث أكد لنا أحد المختصين في القانون الذي رفض الكشف عن هويته أن كل الأراضي التي نزعت عنها صفة الأراضي الأثرية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتم معاقبة من قام بالبناء فوقها حيث أن عملية البناء تعتبر قانونية وذلك ما يحول دون استرداد الأراضي التي تم البناء عليها خلال فترة حكم بن علي.

أزمة الموقع الأثري : الاعتداءات متواصلة

وتواصل مسلسل الاستهانة بمكانة الموقع الأثري بقرطاج في التراث الإنسانيّ، جمال الموقع يثير لعاب العابثين ومطامع المتنفذين حيث استغل العديد منهم غفلة السلطات ليواصلوا البناء على الأراضي الأثرية عبر الاستيلاء عليها وضمها لمنازلهم الأصلية أو مطاعمهم التي بنيت منذ سنوات، ليشوهوا بذلك ما تبقى من مشاهد طبيعية وهذه بعض الصور لعدد من التجاوزات في مناطق مختلفة من مدينة قرطاج.

و أكدت الناشطة بالمجتمع المدني في مدينة قرطاج، السيدة سلوى الجزيري أن التهديدات أصبحت خطيرة وجدية فالتجاوزات التي بدأت في عهد الرئيس بن علي ” تواصلت في السنوات التالية لتنتشر البناء ات الفوضوية دون ترخيص مسبق أو احترام الإجراء ات القانونية”.

 وتؤكد الجزيري أن هذه التجاوزات شملت ” سرقة أراضي مصنفة ضمن التراث الإنساني لليونسكو من طرف أشخاص وحتى أصحاب مشاريع كالمقاهي والفنادق وذلك أثر بشكل كبير على المدينة التي أصبحنا نشهد دمار تاريخها أمام أعيننا ” وقد تواصل عبث السياسيين بالموقع الأثري بقرطاج ما بعد 2011، حيث تظهر الوثيقة التي تحصلنا عليها،  أن أحد السياسيين التونسيين وهو نائب في مجلس النواب المجمّد، قد تحصل على ملكية عقار يمسح 3671 متر مربع في 20 فيفري 2013 بمنطقة المعلقة المصنفة ضمن الموقع التاريخي بقرطاج، وتحصل النائب المجمد على رخصة بناء بتاريخ 15 مارس 2017 من قبل رئيس النيابة الخصوصية لبلدية قرطاج ما يطرح عديد التساؤلات حول قانونية عملية شراء العقار والحصول على رخصة البناء.

وقد حاول المجتمع المدني مراسلة رئيس النيابة الخصوصية آنذاك بخصوص عدد من الانتهاكات الجسيمة التي طالت شبكات التطهير في الأراضي المصنفة أثرية، حيث قام عدد من المسؤولين في البلدية بتشييد بناء ات فوقها دون أن تحرك البلدية ساكنا وبقيت هذه الشكايات دون رد منذ ما يزيد عن الخمس سنوات.

المنطقة الأثرية بقرطاج : الدولة أيضا متورطة في الاعتداءات

قد يكون الموقع الأثري بقرطاج عرضة للاعتداء من السياسيين ورؤوس الأموال وغيرهم من النافذين، لكن أن تنخرط مؤسسات الدولة في ذلك هو أمر مستبعد، لكن الواقع يؤكد ذلك حيث عمدت وزارة الداخلية إلى تشييد مركب رياضي حذو مدرسة تكوين الإطارات الأمنية بقرطاج صلامبو في قلب الموقع الأثري ما تسبب في فقدان جزء كبير من ميناء يعود إلى العصور الغابرة .

وقد تحرك المجتمع المدني ممثلا في جمعية أصدقاء قرطاج التي بادرت بتوجيه رسالة عاجلة إلى مديرة اليونسكو أودري آزولاي بتاريخ السابع من جوان 2021، للمطالبة بالضغط على الدولة التونسية لإيقاف البناء في هذه المنطقة الأثرية وإثر ذلك تم إيقاف مشروع البناء وهدم ما تم بناؤه لكن الدمار الذي لحق الأرض الأثرية لا يمكن إصلاحه حسب أحد الخبراء الذي رفض الكشف عن هويته.

كما استنكرت نقابة الباحثين بالمعهد الوطني للتراث قيام بلدية قرطاج بإعلان طلب عروض قصد تهيئة واستغلال المنتزه الأثري بقرطاج عبر احداث مركب ترفيهي واعتبرت النقابة في بيان موجه للرأي العام أن مثل هذا المشروع من شأنه الإضرار بالمنطقة الصفراء ويمثل تجاهلا لخصوصية المنطقة الأثرية والتاريخية لمدينة قرطاج من طرف المجلس البلدي المنتخب والذي يعد مؤتمنا على الحفاظ على الموقع التاريخي بقرطاج وحق الأجيال القادمة خاصة وأن المنتزه يقع في المنطقة التي يحجر فيها البناء والإشغال لكونها تمثل مخزونا أثريا هامة ودعت النقابة في بيانها وزارة الثقافة للتدخل في الموضوع.

هل يكون مثال حماية الموقع هو المنقذ؟

وفي ظل وجود هذه التجاوزات وتواصلها على امتداد سنوات، يبرز مثال الحماية و تثمين الموقع الأثري بقرطاج كمنقذ لهذه المدينة التاريخية من الاندثار حيث أكدت رئيسة بلدية قرطاج الدكتورة حياة بيوض أن البلدية في انتظار مصادقة وزارتي التجهيز والثقافة على المخطط النهائي للمدينة الذي يضبط حدود الموقع الأثري بقرطاج بعد أن تم عرضها في اللجنة الوطنية للتراث وهي المرحلة الأولى من مشروع حماية وتثمين قرطاج وهو ما سيحميها مستقبلا من كل محاولة اعتداء.

حاولنا الاتصال بالمعهد الوطني للتراث لكننا لم نتحصل على أي رد إلى حدود نشر هذا التحقيق.

مرّت منطقة قرطاج بالعديد من التحوّلات التّاريخية منذ استقلال تونس سنة 1956، ولعلّ أبرزها دخول قرطاج في قائمة التراث العالميّ سنة 1979، التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو).

وهي  خطوة تاريخيّة جاءت إثر تحرّكات وطنيّة عديدة توّجت بدخول ثلاث مواقع أثرية تونسية في مرحلة أولى ضمن هذه القائمة وهي المدينة العتيقة ومدرج الجمّ الرومانيّ وموقع قرطاج الأثريّ .

وتمّت المصادقة على اتفاقية حماية التراث العالمي الثّقافي والطّبيعي المبرمة في العاصمة الفرنسيّة باريس سنة 1972 وانضمّت إليها 190 دولة من بينها تونس ولعلّ أهمية هذه الاتفاقية تتلخص في المادة الرابعة منها حيث “تعترف كل دولة من الدول الأطراف في هذه الاتفاقية بان واجب القيام بتعيين التراث الثقافي و الطبيعي المشار إليه في المادتين 1 و 2 الذي يقوم في إقليمها، و حمايته، و المحافظة عليه، و إصلاحه، و نقله إلى الأجيال المقبلة، يقع بالدرجة الأولى على عاتقها. و سوف تبذل كل دولة أقصى طاقتها لتحقيق هذا الغرض و تستعين عند الحاجة بالعون و التعاون الدوليين اللذين يمكن أن تحظى بهما، خاصة على المستويات المالية، و الفنية و العلمية، و التقنية.”

وتكمن أهميّة الموقع الأثري بقرطاج نظرا للثراء الذي يتسم به، حيث ترك أجدادنا القرطاجيون مكوّنات فريدة من نوعها اجتمعت في مكان واحد لتشكل لوحة فسيسفائية من المستبعد أن نجد نظيرا لها في العالم ما جعلها تلتحق بالتراث الإنساني الذي وجب الحفاظ عليه لا من طرف التونسيين فقط بل العالم كله.

ومن بين أبرز هذه المعالم التاريخية  نجد الموانئ البونية والصهاريج المعلقة (مالغا)، والحي البوني، وحمامات أنطونيوس، وكاتدرائية القديس لويس التي تم تشييدها سنة 1884 وتعرف أيضا بالأكروبوليوم.

وتحصّلت تونس منذ سنة 1980 بعد سنة من ضمّ الموقع الأثري بقرطاج على هبات مالية هامة، حوالي 650 ألف دينار (214 ألف دولار) في شكل أقساط تم توزيعها على عدد من المشاريع الخاصة بالعناية بالموقع وترميمه وفقا للمعايير الدوليّة. وكان آخر الأقساط التي تحصلت عليها تونس سنة 2001.

كما استفادت تونس من الخبرات العالمية في مجال العناية بالمناطق الأثرية وترميمها وهو ما مكّنها من تكوين عدد من التونسيين في هذا المجال.

يبدو أن قرطاج التاريخية التي كانت قبل ألفي سنة حلبة صراع بين امبراطورية قرطاج والإمبراطورية الرومانية والتي انتهت بتدمير قرطاج، تحولت اليوم إلى حلبة صراع بين المدافعين عن التراث الانساني وبين المطالبين بالتعمير فكيف سينتهي هذا الصراع ؟ وهل سيكون مثال الحماية هو المنقذ؟