المطالبة بالمساواة بين الرجل والمرأة في الميراث مطلب قديم يتجدد بين الحين والآخر، متجذر في الأصول التاريخية والعادات التي عهدناها منذ الأزل، مقترن بالنص القرآني في أحكامه، تتوارى حوله العديد من الإشكاليات والتساؤلات المتأرجحة بين طرح تقدمي وآخر ديني.

علمانية الدولة وأسلمة الأحكام

“من الضروري تطوير قوانين الأحوال الشخصية في العديد من المجالات لتكريس المساواة، ومواكبة التشريع للسياق الزمني والحضاري لمتطلبات الواقع المتغير” هذا ما قاله الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي في حديث له حول المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، مفاده أن تونس دولة مدنية ضامنة للحقوق والحريات والمساواة أمام القانون بين مختلف الجنسين، وهذا الجدل المحموم لا يزال قائما وسط مشهد ضبابي خاصة بعد ترأس زعيم حركة النهضة للبرلمان، كذلك وصول العديد من النواب الذين لم تتضح مواقفهم بعد، مواقف تتباين بين إبقاء قانون الميراث على ما هو عليه أو المصادقة على مشروع قانون المساواة في الميراث بين الجنسين، الذي يعتبر مسارا تقدميا نحو تحقيق خطوة تاريخية تمنح مثل هذا الحق وتقوم بإلغاء التمييز الجندري.

إن جوهر قضية المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة واضح: فهو يتمثل في عدم الرغبة في رفض ما يقدم على أنه من القطعيات في الإسلام، أي أنه للذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا يطرح طبعا السؤال عن ماهية نظرتنا للدين وكيف نقرأ أحكامه وطريقتنا في تأويله.

موضوع اختفى بين قضايا أخذت نصيبا أكثر من مشاغل الناس، قضايا هامة فرضت نفسها قبل غيرها، كالفقر ومشاكل التعليم والصحة، غير أن هذا لا يمنع أن الحل للخروج من الوضع المزري الذي تعيشه البلاد رهين الشجاعة في أخذ القرارات المسؤولة والجريئة التي من شأنها رفع العراقيل في المخيال الشعبي للمساعدة على تجاوز تلك المشاكل بإيجاد حلول لها.

د

لقد بدأت الدعوة الصريحة إلى المساواة بين الرجل والمرأة في كتاب”امرأتنا في الشريعة والمجتمع” للطاهر الحداد، إذ رأى أن الإسلام في جوهره لا يمانع في تقرير المساواة بين الرجل والمرأة من جميع وجوهها متى انتهت أسباب التفوق وتوفرت الأسباب الموجبة بتطور الزمن ولقد حاول الحبيب بورقيبة “أول رئيس للجمهوريّة التونسيّة” بعد استقلالها أن يحوّل هذه النظريّة التي يؤمن أصحابها بالمساواة إلى قانون من خلال سنّه لمجلّة الأحوال الشخصيّة، ولكنّ مسألة الميراث ظلّت عقبة في طريق ما كان ينشده من مساواة، فقد كانت تلك المساواة “محفوفة بصعوبات كثيرة، منها ما يتعلّق بالعقليّة التونسيّة والعقليّة الإسلاميّة العربيّة وأيضًا وجود مشكلة قانونيّة، ربّما تكون أقوى الأسباب التي دفعت بورقيبة إلى الصمت في هذه القضيّة والتراجع.

حقوق المرأة

لا تزال المرأة التونسية تواجه التمييز في الميراث بموجب “مجلة الأحوال الشخصية” لسنة 1956 التي تنص على أن يرث الابن ضعف ما ترثه البنت، في 2017، تم اقتراح مشروع قانون تاريخي، استنادا إلى توصية صادرة عن “لجنة الحريات الفردية والمساواة” التي عينها الرئيس، كان الهدف منه جعل المساواة في الميراث هي الأصل، مع تمكين الراغبين في غير ذلك من اختيار توزيع ميراثهم طبقا للإطار القانوني الحالي، ولم ينظر البرلمان في هذا المشروع بعد، وفي هذا الإطار قال الرئيس سعيّد يوم 13أوت، بمناسبة العيد الوطني للمرأة في تونس، إنه يعارض المساواة في الميراث، وكان سلفه الباجي قائد السبسي قد أكد في نفس المناسبة تبنيه للتوصية المتعلقة بالمساواة في الميراث.

مجلة الأحوال الشخصية لسنة 1956، التي كانت تعتبر تقدمية في وقتها في المنطقة وسابقة حتى لبعض الدول الأوروبية، تميّز ضدّ المرأة من خلال اعتبار الزوج “رئيس العائلة”، ومنحه امتيازات قانونية في النزاعات المتعلقة بالأسرة، ولا تزال تحتوي على عدد من الأحكام التمييزية.

وقد نصّ الفصل 21 من الدستور التونسي لسنة 2014 على التالي: “المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز”، وينص الفصل 46 على أن “تلتزم الدولة بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة وتعمل على دعمها وتطويرها”، وهذا ما جاء معارضا لما ورد في مجلة الأحوال الشخصية.

تناقضات مضمنة تشوبها العديد من الاحتدامات في الآراء والمواقف، وهو ما صرح به الناشط في المجتمع المدني “عمر الوسلاتي” لـ “JDD” حيث تحدث عن الإخلالات الجسيمة في القوانين المنطبقة، مما جعلها محل انتقادات، بما فيها من تباينات، كما أن القراءة الذكورية للنص القرآني الذي تقول إنه ما إن تعمقنا فيه إلا واستنتجنا أنه لا يميز بين الجنسين، ودعا الوسلاتي كذلك الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني إلى التكاتف من أجل توعية المواطنين وإقناعهم حيث اعتبر أن دور الإعلام مهم جدا في هذه القضية.

وهكذا يستمر اللغط الذي يهز الجميعُ فيه راية إنصاف المرأة والانتصاف لها من الرجل ومن القوانين ومن العادات، ولكن يبقى السؤال المطروح: “هل إنصاف المرأة وتحقيق راحتها وكرامتها يكون بمساواتها مع الرجل في المغارم والمغانم فقط؟” أم يتحقق ذلك بتحقيق العدل الاجتماعي والسياسي والمادي بين المرأة والرجل ما يعني إعطاء كلٍّ من الجنسين حقوقه وإلزامه بواجباته بعد ترسيخ المساواة في الكرامة الإنسانيّة؟.