بقلم العميد عبد الستار بنموسى
إن الانتقال الاقتصادي والاجتماعي يفترض مراجعة منوال التنمية وإصلاح المنظومة البنكية والشركات الوطنية وحوكمة النشاط الفلاحي.
-I- منوال التنمية عليل وضرورة البحث عن بديل :
1) منوال التنمية الحالي : منوال لا يوفّر التنمية
ما انفك المجتمع المدني في بلادنا يقاوم مظاهر الاستبداد ويناضل من أجل الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية. تعددت محطات النضال وتنوعت أساليبه من منتديات فكرية إلى مسيرات واعتصامات ومظاهرات وعانى مناضلوه بسبب ذلك من الإيقافات والمحاكمات الصورية.
انخرط في الحراك الثوري الذي أدّى إلى الإطاحة برأس النظام السابق في 14 جانفي 2011 وبرهن منذ 2013 على قدرته على المساهمة الفعالة في تحقيق الانتقال الديمقراطي في المجال السياسي من خلال تنظيمه للحوار الوطني عبر اقتراح خارطة طريق وافقت عليها الأحزاب المشاركة في الحوار وتمّ انجازها عبر الحوارات الساميّة والتحركات النضالية، فتمت المصادقة على دستور جديد توافقي في 26 جانفي 2014 يضمن الحقوق والحريات ويؤسس لديمقراطية تقطع مع ديمومة الكراسي وتعوضها بالتداول على المسؤولية في إطار انتخابات دورية ديمقراطية وشفافة.
ولئن واصل المجتمع المدني الضغط على الأحزاب والقوى السياسية قصد المحافظة بعسر على مسار الانتقال الديمقراطي وتجنيبه الانتكاسات والمطبات وما أكثرها، فإن الحراك السياسي شهد عدّة انزلاقات وتجاوزات كادت تعصف بالمسار الانتقالي جملة وتفصيلا . لم يسع المجتمع المدني وتوازيا مع الحوار السياسي إلى تنظيم حوار وطني حول الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وحول منوال التنمية الساري. لم يسع إلى بلورة استراتيجية وضبط برنامج إصلاح اقتصادي واجتماعي يتم عرضه للنقاش والإثراء وصياغة خارطة طريق واضحة لإنجازها مرحليا قصد تحقيق الانتقال الاقتصادي والاجتماعي فالانتقال الديمقراطي في المجال السياسي يبقى مهددا إذا لم يدعمه انتقال اقتصادي واجتماعي.
إن الدول التي ظلّ اقتصادها متدهورا أثناء المرحلة الانتقالية ولم تشهد تحولا اقتصاديا واجتماعيا إيجابيا مثل الجمهوريات السوفياتية السابقة أصبح الانتقال السياسي فيها مهددا بالفشل.
إن النظام الرأسمالي العالمي يسعى إلى فرض سيطرته عبر السياسة الاقتصادية النيولبرالية على أكثر عدد من دول العالم لجعلها أسواقا استهلاكية لمنتجاته وسلعه.
خلال السنوات الاولى منذ 1956 لم تفلح النخب السياسية الحديثة الحاكمة في البلاد في صياغة مقاربة اقتصادية تنسجم مع حاجيات المجتمع الذي انهكته فترة الاستعمارـ مالت الكفة منذ 1956 إلى نزعة ليبرالية غير مدروسة لم تتمكن من وضع حدّ لحالة الانهيار والتفكك الهيكلي التى عقبت خروج المحتلين الفرنسيين من تونس نتيجة لذلك الوضع المتعثر تمّ تغيير وزراء الاقتصاد 4 مرات بين 1956 و 1959. ثم بعد ذلك حلت مرحلة التعاضد الفلاحي والتجاري وتأميم الملكيات الزراعية (1964-1969) وهو اختيار اقتصادي مرتجل قسري وغير منظم. لقد كانت تجربة التعاضد شكلا من أشكال رأسمالية الدولة التي سيطرت عليها البيروقراطية الإدارية وهياكل الحزب الحاكم رغم أنها كانت تهدف إلى تعميم الأراضي وتجاوز تشتتها وتدعيم الانتاج الزراعي ومراقبته وتطوير مردوديته. إلا أن التجربة فشلت ولم يقع تقييمها منذ 1970 عادت تونس إلى تبني المنوال التنموي الليبرالي ورغم ذلك بقيت السياسة الاقتصادية تهدف إلى مقاومة البطالة وبجعل النمو يعتمد على الطلب الداخلي بالأساس واعتبار التشغيل والأجور من أهمّ مكونات ذلك الطلب الداخلي.
منذ سنة 1986 وفي إطار تطبيق برنامج الاصلاح الهيكلي طبقا لإملاءات البنك العالمي وصندوق النقد الدولي وبقية المؤسسات المالية الدولية، تحول المنوال التنموي إلى مرحلة اقتصاد السوق الذي يعتمد أكثر عل الصادرات أي على الطلب الخارجي وأهمل الطلب الداخلي وبفعل ذلك أصبح المنوال التنموي النيوليبرالي في مهب تقلبات الأسواق العالمية فكلما حدثت أزمة من ازمات العولمة النيوليبرالية إلا وانعكست سلبا على الاقتصاد الوطني خاصة في ظلّ المنافسة الشرسة مع الاتحاد الاوروبي الذي توسع جغرافيا وتطور اقتصاديا وأصبح الشريك الأساسي للبلاد التونسية التي تعاني من الركود الاقتصادي.
بفعل السّعي إلى مقاومة التّضخّم عوضا عن مقاومة البطالة وذلك طبقا لتعليمات الدوائر المالية العالمية، انتشرت عقود العمل الهشّة كالمناولة والعمل الظرفي أو الموسمي وتم تنقيح مجلة الشغل في هذا الاتجاه سنتي 1994 و 1996.كما أصبحت العلاقات الدولية تخضع لمبدأ التعامل بالمثل إذ تمّ التخلي عن الاتفاقيات التفاضلية التي كانت تنتفع بها الدول النامية لدعم اقتصادها نظرا للعلاقات الغير متكافئة بين بلدان الشمال والجنوب.
شهد النسيج الاقتصادي بفعل ذلك اهتزازا كبيرا فارتفعت نسبة القيمة المضافة لقطاع الخدمات من الناتج المحلي فيما انخفضت القيمة المضافة للصناعات التحويلية وغيرها وبسبب ذلك تراجعت نسبة الاستثمار لدى القطاع الخاص مقارنة بنهاية السبعينات رغم التشجيعات الحكومية والامتيازات الجبائية العديدة. كما أن الاقتصاد الموازي فاق في انشطته ومعاملاته الاقتصاد المنظّم.
لئن تحسنت التوازنات المالية وتقلص عجز الميزانية العمومية وتراجعت نسبة المديونية وانخفضت نسبة التضخم المالي وتراجعت نسبة المديونية وارتفع حجم الاستثمارات الأجنبية خلال الفترة الممتدة بين 1990 و 2010 فإن نسبة النمو بقيت بطيئة ولم تتجاوز في أقصى الحالات 5 بالمائة حسب الإحصائيات الرسمية التي تكون في العادة مضخمة. إن تلك النسبة لم تمكن من خلق الثروة ولم تقلّص من نسبة البطالة، كما أنها لم تحّد من الفوارق الاجتماعية والفئوية. لقد توجهت الاستثمارات الاجنبية إلى مجال انتاج السلع المعدّة للتصدير واستقرت أساسا بالشريط الساحلي لقربه من المواني البحرية.
لقد كان نصيب الجهات الداخلية وخاصة الشريط الغربي من الاستثمارات قليلا جدّا. أدّى كل ذلك إلى تراجع دور الدولة في انتاج الثروة وتوزيعها الأمر الذي عمّق الفوارق الاجتماعية وزاد في نسبة الفقر والبطالة.
لقد اختارت بلادنا المضي في المنوال التنموي النيولبرالي وكان حرصها على الاندماج العالمي على حساب الاندماج الوطني والاقليمي سواء الافريقي أو العربي وظلت الاستثمارات الاقتصادية والمبادلات التجارية بين تونس ومحيطها العربي الافريقي ضئيلة جدّا إن لم تكن منعدمة.
إن الاندماج الكلي في الاقتصاد العالمي وخاصة الاوروبي أدّى في إطار التقسيم الدولي للعمل إلى حصر الاقتصاد التونسي في استغلال الموارد الطبيعية كالفسفاط والبترول وفي المجال السياحي أو في الصناعات التحويلية كالصناعات الغذائية والخياطة وصناعة الاحذية وهي صناعات تشغل يدا عاملة غير مختصة وبأجور رخيصة وفي إطار علاقات شغلية هشّة كالمناولة.
لقد تراجعت نفقات الدولة في التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية وبفعل ذلك شهد قطاع التعليم منذ نهاية التسعينات انحدارا في المستوى خاصة بعد إقرار احتساب نسبة 25 بالمائة من المعدّل السنوي في نتائج البكلوريا ممّا أدّى إل تضخم عدد الناجحين في البكالوريا وتخريج أفواج من المتحصلين على الشهائد العليا والمعطلين عن العمل. لقد أصبح النسيج الاقتصادي ولازال غير قادر على استيعاب حتى الكفاءات من الدكاترة أو المهندسين والتقنيين.
يتضح جليّا أن منوال التنمية الواقع اتباعه قد اثبت قصوره عل تحقيق التنمية بالبلاد ومع ذلك تواصل العمل به منذ سنة 2011 فزادت تأثيراته السلبية المتمثلة في تردّي الخدمات وتراجع الحماية الاجتماعية وارتفاع نسبة الباطلة وتفاقم العجز المالي لدى الصناديق الاجتماعية والشركات الوطنية على غرار شركة تونس الجوية أو شركة السكك الحديدية.
كما تراجعت قيمة العملة الوطنية وانحدرت إلى أدنى مستوى لها مقارنة بالعملات الاجنبية وخاصة اليورو عملة الاتحاد الاوروبي أهم شريك اقتصادي لبلادنا وهو ما أدّى إلى ارتفاع الأسعار وانهيار الطاقة الشرائية.
لقد انهار القطاع السياحي على إثر موجة العنف والاغتيالات التي حدثت منذ سنة 2012 وخاصة بعد العمليات الارهابية التي جدّت بالأماكن السياحية سنتي 2015 و
2016. كما أن الاوضاع الامنية المتدهورة في ليبيا أدّت إلى فقدان السوق الليبية. لقد تراجع أيضا إنتاج الفسفاط والنفط بسبب سوء الحوكمة داخل الشراكات التابعة للدولة مثل شركة فسفاط قفصة والمجمع الكيمياوي.
لقد تراجع انتاج الفسفاط بنسبة 52 بالمائة بين 2010 و2016 حسب الاحصائيات الرسمية، أما قطاع النفط فقد سجّل خلال نفس الفترة تراجعا بنسبة 47 بالمائة. تراجع أيضا انتاج الشركات الكبرى خاصة في المجال الكيمياوي بنسبة 30 بالمائة، كما أن تردي البنية التحتية من موانئ ومطارات و طرقات قلّل كثيرا من انتاج القطاع الخاص.
لقد أصبحت بلادنا تنفق أموالا طائلة بالعملة الصعبة لاستيراد المواد الغذائية الأساسية وخاصة الحبوب إذ سجّلت واردات الحبوب خلال الأشهر الثلاثة الأولى من سنة 2021 حاجز 500 مليون دينار وفق بيانات رسمّية صادرة عن الدوائر الفلاحية. يتضح جليا من تقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أنه بين 2011 و 2018 ارتفع الانفاق العام كثيرا من 24 بالمائة إلى 30 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي في حين ارتفعت العوائد الضريبية بنسبة أقل خلال نفس الفترة أي من 23 بالمائة إلى 25 بالمائة. كما أن الانفاق كان لصالح الاستهلاك إذ ارتفعت كتلة أجور الموظفين العموميين من 11 إلى 15بالمائة بين 2010 و2018. تولد عن ذلك تفاقم نسبة العجز بالقطاع العام والتي فاقت 5 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي في كل سنة خلال الفترة الممتدة من 2015 إلى 2018 وهو ما أدى إلى تقليص الاستثمارات المحلية وتضخم الدين العام الذي ارتفع بنسبة 40 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي سنة 2010 إلى 73 بالمائة سنة 2019 وإذا أضفنا إلى ذلك الخسائر التي تتكبدها سنويا الشركات الوطنية والعجز المتفاقم في منظومة التقاعد تقفز نسبة الدين العام إلى 150 بالمائة من إجمال الناتج المحلي .
لقد أدّى الاختلال الكبير في ميزان الدفوعات إلى ارتفاع الدين الخارجي من 40 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي سنة 2010 إلى 85 بالمائة سنة 2019. وستخصص مستقبلا نسبة هامة من القروض إن وجدت إلى تسديد فوائد القروض التي حلّ أجل دفعها. لقد تسبب المنوال التنموي إلى تراجع تصنيف تونس الانمائي 8 مرات منذ سنة 2011 وهو ما سيعسّر على البلاد حتى مجرد الاقتراض ويجعلها مهددة بشبح الافلاس إذا لم يقع إعادة النظر في منوال التنمية الحالي والتفكير جيّدا في تبني منوال تنموي جديد يخلق الثروة ويحقق التنمية المحلية ويضمن العدالة الاجتماعية.