لعل أحداث العنف التي عاشتها تونس بعد 2011 من تهجّم على دور السينما والعروض الفنية (العبدليّة)، أدّى إلى وعي بحالة الهشاشة التي تعيشها الحريات في تونس مما دفع بالمشرّع إلى إيلائها الأهمية اللازمة في نص الدستور سنة 2014.
لكن في الواقع، وفي غياب المحكمة الدستورية بقيت عدة فصول قانونية سارية في حين أنها تتعارض مع روح الدستور على غرار المنشور الذي يمنع فتح المقاهي في أيام رمضان.

“أحرار على الورق”

أطلق نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي خلال السنوات الثلاث الماضية حملة باسم “موش بالسيف” للمطالبة بالحق في الإفطار في رمضان تُرجمت بوقفات احتجاجية منددة بالقوانين التي تفرض عدم المجاهرة بالإفطار وغلق المقاهي، وأصبحت تقليدا سنويّا يرفع شعار “الحريّة في دولة مدنيّة”.

وفي هذا الإطار، يقول أحد نشطاء حملة موش بالسيف نوفل.ف لـ”JDD”، إنّ وضع الحرّيات الفردية عموما في تونس مقلق لكن منسوب انتهاك هذه الحريات في شهر رمضان من كل سنة يرتفع بشكل مخيف في حين أنه في الأصل شهر التسامح، حسب قوله.

يضيف نوفل أن هذا الشهر تحول في مخيلة جزء من التونسيين إلى كابوس باعتبار إمكانية تعرضهم إلى التنكيل والإيقاف والاحتجاز لمجرد شرب الماء في الشارع أو وجودهم داخل مقهى نهارا بتهمة “المجاهرة بما ينافي الحياء” وشبيهاتها من التهم الأخلاقية، حسب تعبيره.



يعتبر محدّثنا أنّ التونسيين أحرار فقط على الورق أي في النصوص القانونية فقط، ففي الوقت الذي ينص فيه الفصل السادس من الدستور على أنّ “الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية (..)” والفصل 21 على أن” تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريات الفردية والعامّة، وتهيئ لهم أسباب العيش الكريم”، ما زالت عدّة نصوص تقف عائقا أمام مدنية الدولة مما يجعل الأجهزة التنفيذية تستغلها للتنكيل بالمواطنين، حسب قوله.

وأضاف أنّ الأزمة لا تتعلق بشهر رمضان فقط فيوم الجمعة وخلال الأعياد الدينية الإسلامية تُغلق الحانات وأماكن بيع المشروبات الكحولية وقد يتعرض أي شخص مخمور خلال هذه الأيام إلى الاعتداء اللفظي والمادي من أعوان الأمن الذين يتحولون إلى رجال دين ووعّاظ، حسب قوله.

جدل سياسي

لم تقف مسألة حرية ممارسة الشعائر الدينية من عدمها، عند هذا الجانب فهي امتداد لصراع سياسي إيديولوجي فوزارة الدّاخلية التي تطبق “منشور مزالي” نسبة إلى قرار الوزير الأسبق محمد مزالي سنة 1981 الذي يقضي بحظر فتح المقاهي في شهر رمضان كانت ردّت على سؤال تقدمت به النائب بالبرلمان هاجر بالشيخ أحمد سنة 2018، حول مدى وجوب صحة أو إلغاء المنشور.

اعتبرت الوزارة في ردها أن “السماح بفتح مقاهي في نهار رمضان يمكن أن يمثل وسيلة لبعض الجماعات المتطرفة للتحريض على الدولة ولارتكاب أعمال إرهابية، خاصة أن شهر رمضان يعرف ارتفاعًا لوتيرة التهديدات الإرهابية من مختلف التنظيمات التكفيرية”، هذا الرد ساهم في ارتفاع المشادات بين طرفي النقاش المختلفين حول ما إذا كانت للحرية الفردية حدود متعلقة بالدين، باعتبار أنّ جزءا من التونسيين يرى أنّ المجاهرة بالإفطار وضرب مقدسات الشعب ومعتقداته باسم حرية الضمير أو التصدي لطرف سياسي ذا مرجعية إسلامية، فيه تطاول على هوية الشعب ومقدساته.



وفي السياق ذاته، تعتبر أطراف سياسية أخرى أن مسألة احترام الحريات تهمة، فالنائب عن كتلة ائتلاف الكرامة محمد العفاس كان أكّد في مداخلة له يوم 27 فيفري 2020، في جلسة منح الثقة للحكومة، أنّ رئيس الحكومة حينها إلياس الفخفاخ فاشل لأنّه يدعو إلى فتح المقاهي في رمضان.
وما زال تأويل الدستور في غياب المحكمة الدستورية يثير عدة قضايا خاصة فيما يتعلّق بطبيعة المجتمع والدولة التي لا تستمد تشريعها من النص الديني، وفقا للدستور، لكن ممارساتها تستند إلى الهوية الإسلامية.