في الوقت الذي تعيش فيه تونس على وقع ركود اقتصادي زاد الوضع الصحي من تأزيمه مما جعلها تتعثّر في سداد ديونها المالية، تحتدم أزمة الشرعيّة بين رئيس الجمهورية قيس سعيد ومجلس نواب الشعب إلى حدّ شل المؤسسات.
أزمة غير مسبوقة تدعو لظهور زعيم ينقذ الفترة العصيبة، لكن يبدو أنه لا يوجد مرشح للقيام بهذا الدور على الأقل في الوقت الحاضر.
الارتطام بحائط التداين
جاءت الموجة الرّابعة من فيروس كورونا لتعرّي حقيقة نظام الرعاية الصحية في تونس ولتفتتح صيفا دمويا بسبب عدم قدرة الدولة على إدارة الأزمة لغياب بعد النظر واتخاذ قرارات ارتجالية.
وتتزامن هذه الأزمة مع ارتطام تونس بجدار الديون ، فبعد عقد من التدهور المالي ارتفع حجم الدين العام من الناتج المحلي الإجمالي من 45 بالمائة في عام 2010 إلى حوالي 100 بالمائة حاليًا.
ومازالت الحكومة بصدد التفاوض بشأن الظفر بقرض رابع من صندوق النقد الدولي، لكن الاقتصاد التونسي ظلّ عالقا بين مفترق طرق فلا إصلاح ليبرالي ، ولا نموذج اقتصادي بديل، ممّا جعل الدولة تضع السلم الاجتماعي وعلاقاتها بالشركاء الأجانب على المحك، بعد خفض التصنيف السيادي لتونس ثماني مرّات على مدى العقد الماضي ، وصنفته وكالة موديز في فبراير عند B3 مع نظرة مستقبلية سلبية ، كما فعلت فيتش في 8 جويلية ، وهي المرحلة الأخيرة قبل التخلف عن السداد.
ومع ذلك، في صيف 2021 ، يتعين على تونس سداد قسطين بقيمة 500 مليون دولار لكل منهما ، لسداد قرض السندات. ولا تزال تبحث عن 12 مليار دينار اللازمة للوفاء بهذه المواعيد ودفع رواتب الأشهر الثلاثة المقبلة، وطبقا لكل هذه العثرات فمن المحتمل أن تتخلّف عن السداد وتذهب إلى نادي باريس لإعادة جدولة الديون ، وبعبارة أخرى، تضع نفسها تحت الوصاية الدولية.
حرب التموقع والصلاحيات
يصف أنطونيو غرامشي ماتعيشه تونس بـ”أزمة الهيمنة” أو “الأزمة العضوية” حيث الانهيار الاقتصادي ، وانقسام النخب وعدم قدرتها على الحفاظ على الظروف السياسية لإعادة إنتاج النظام ،وتفكك المؤسسات و”خلو الأحزاب من المحتوى الاجتماعي”. هذا “التوازن الكارثي للقوى” يهيئ الظروف لـ “لحظة قيصرية” (césariste) لإعادة التأسيس يتولاها قائد يتمتع بسلطة كاريزمية.
تأتي “أزمة الهيمنة” بسبب صراع المعسكرين الذين يقودهما من جهة رئيس الجمهورية ومن جهة أخرى رئيس الحكومة الذي سعى لفرض استقلاليته في جانفي الماضي بالإعلان عن تحوير وزاري أزاح من خلاله وزراء محسوبين على الرئيس الذي عطّل بدوره موكب أداء اليمين الدستورية معتبرا التحوير مخالفا لأحكام الدستور إلى جانب شبهات الفساد التي تحوم حول المسؤولين الجدد.
كما رفض سعيّد ختم مشروع القانون المتعلّق بالمحكمة الدستورية بحجة انتهاء الآجال المنصوص عليها بالدستور بانقضاء 5 سنوات دون تركيزها، ويشتبه سعيد في سعي الأحزاب إلى السيطرة على المحكمة الدستورية. وفي 7 جوان الماضي أقال رئيس الحكومة رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد فاستقبله سعيّد في اليوم الموالي قائلا ” إنهم يحاربون من يكافح الفساد”. كلّ هذه المؤشرات توحي بانهيار وشيك لمؤسسات الدولة.
وفي الواقع فإنّ الانتخابات ونتائجها سنة 2019، أفضت إلى هذا المشهد الذي يصعب فيه تعقّب الأغلبية البرلمانية واقتفاء أثرها من جهة، وانفصال رئيس الجمهورية عن الأحزاب السياسية من جهة أخرى.
سعيّد والنظام السياسي
كلّف رئيس الجمهورية نفسه منذ انتخابه بمهمة تحصين للدولة وضمان سيادتها ضد أعداء لم يكشف عن هوياتهم أبدا، وفاسدون يعملون وراء الكواليس لضرب الدولة، وغالبا ماتكون حركة النهضة المستهدف من هذه الهجمات ضمنيا.
كما يستغل التنقاضات التي بني عليها الدستور للحصول على صلاحيات إضافية على حساب رئيس الحكومة، ومن بين هذه المساعي إدعاؤه امتلاك سلطة قوات الأمن الداخلي بمقتضى تفسيره الذاتي للفصل 77.
تثير المواقف الغامضة للرئيس عدة تساؤلات حول مساعيه السياسية والدبلوماسية، خاصة بعد أن أكد الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نورالدين الطبوبي أن سعيد يريد العودة إلى دستور 1959، فلا يبدو أنه تخلى عن المشروع الذي بنى عليه حملته الانتخابية: “انعكاس هرم السلطة” ، شكل جديد من التمثيل يتجاوز بنائه الأحزاب السياسية ، بدءًا من المستوى المحلي إلى الصعود إلى الوطني. وقال خلال اجتماع مع رؤساء الحكومات السابقين في 15 جوان “أسعى خلال عهدتي إلى مواصلة الانفجار الثوري مع الاحترام الصارم للمؤسسات”. وبهذه المناسبة ، كان أكثر وضوحا بشأن النتيجة التي ينوي تقديمها للأزمة.
الرئيس المنعزل
يعتمد قيس سعيد على الديناميكيات المزدوجة لشرعيته الشعبية المباشرة وتآكل الشرعية البرلمانية لفرض نفسه ، في أكثر اللحظات دراماتيكية ، باعتباره الملاذ الوحيد الممكن لنظام فاشل. لكن شركاء تونس الأجانب حذرون منه باعتباره رجلا مستنيرا خطير لديه دوافع قاتلة للحريات. كما أنه لايتمتع بدعم فكري لمشروعه وسائل إعلام ولا حزب ولم تجسّد شعبيته في أي حشد ما عدا عشية انتخابه والحملة المدنية التي أعقبته التأييد الشعبي الذي يستفيد منه.
اللجوء للمؤسسة العسكرية
دعماً لرغبته في تجسيد الدولة ووحدتها ، يظهر قيس سعيد بانتظام في حضور الجيش الذي يسعى إلى دعمه بشكل واضح لتشكيل حصن ضد “نظام الحزب”. لكن الجيش الوطني لا يزال محايدا وفرضية التدخل العسكري المباشر في الساحة السياسية في تونس غير مرجحة على عكس الجزائر أو مصر ، حيث لديه مصالح حيوية لبقاء النظام، في المقابل يفضل الجيش في تونس ، في أوقات الأزمات الحادة ، تشجيع السياسيين على العمل من أجل استقرار المؤسسات.
في غضون ذلك، يعد الجيش أكثر من مجرد أيقونة رمزية ، وملاذا آمنا ، إذ يحاول المرشحون الآخرون لدور قيصر استخدامه لصالحهم فخلال الحملة الرئاسية لعام 2019 ، عقد عبد الكريم الزبيدي ، آخر وزير دفاع للباجي قائد السبسي ، اجتماعه الرئيسي أمام صور عملاقة لكبار المسؤولين لكن لم تكن الرمزية ناجحة بشكل خاص بالنسبة له ، فقد وصل إلى المركز الرابع بنسبة 10.7٪ من الأصوات.
من ناحية أخرى لا يخفي الأميرال كامل عكروت المستشار العسكري السابق للباجي قائد السبسي طموحاته السياسية ويسعى إلى اللجوء إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة. لكنه في الوقت الحالي يكتفي بدعوة الرئيس قيس سعيد لاستخدام صلاحياته وخاصة مجلس الأمن القومي لإيجاد مخرج من الأزمة.
ومن الناحية الفلكلورية ، لا تتردد عبير موسي ، زعيمة حزب الدستور الحر ، في التباهي بملابس مقلدة بالزي العسكري أثناء مظاهرات الشوارع، في المقابل تمنحها مغامراتها سمعة سيئة بما في ذلك بين العديد من الدستوريين السابقين الذين يعتبرونها انتهازية.
إذا دعت اللحظة إلى قيصر ، فلا يبدو أن أي مرشح يظهر كحل للانسداد الحالي الذي تعيشه تونس، فمنذ عام 2015 ارتفعت الأصوات لصالح إعادة تمركز النظام لدى رئاسة الجمهورية ليس بالطريقة الأمريكية ، حيث يتعين على الرئيس أن يتعامل مع كونغرس فيما يتمتع بوسائل تحكم قوية، بل بالأحرى إعادة تشكيل قصر قرطاج مكان التوجيه الرسمي للدولة وغير الرسمي للتحكيم السياسي والاقتصادي، من أجل استعادة السلطة والكفاءة. ومع ذلك ، فقد أظهر الوباء بوضوح أن النظام الرئاسي يضخم أخطاء القائد أكثر مما يضمن فعالية العمل.
(المصدر: Tunisie. Un « moment césariste » sans César (orientxxi.info))