مرحلة أخرى وجبهة أخرى هي الأخطر ربما في الصراع بين أجنحة السلطة في تونس منذ انتخابات 2019. مرحلة استهلّها مساء أمس الرئيس قيس سعيد بأداء زيارة إلى مقر الداخلية. فكانت زيارة دون إعلام الوزير.

 المعركة اليوم باتت أكثر في ملعب القوات الأمنية. فقد كانت منذ حوالي شهر محل تجاذب بين وزير الداخلية بالنيابة ورئيس الجمهورية. تجاذب بين وزير،بالقانون وبمنطوق الدستور القائد الأول لها ورئيس متشبث بأحقيته في قيادة القوات المدينة وإلحاقها بالقوات العسكرية، ولو قفزا على الدستور.. واليوم انتقلت المعركة بكل وضوح إلى بهو وزارة الداخلية.

أنت وزير الداخلية وأنا قائدها

نشرت رئاسة الجمهورية على صفحتها الرسمية بفيسبوك مقطع فيديو مدته سبع دقائق حضر فيه الاستعراض والتصوير الجوي بالاعتماد على طائرة الدرون. لكأننا أمام رئيس بصدد استعراض قوته وحضوره ونفوذه في الوزارة الأولى والأكثر نفوذا في تونس، رغم غياب المشرف الأول عليها هشام المشيشي.

انصبّت كلمة الرئيس سعيّد أمام عدد من القيادات الأمنية على ترديد أحقيته بقيادة القوات المسلحة دون غيره. فلمّح إلى أن القوات الأمنية هي بالضرورة قوات مسلّحة لها قائد واحد هو رئيس الجمهورية.

هذه الزيارة إلى الوحدات الأمنية ليست الأولى. فقد سبق لسعيد أن أفطر مع قوات الحرس الوطني بمنطقة التضامن في أفريل المنقضي. وشدّد على نفس الخطاب. وأرسل ذات الرسائل .

يقول أستاذ العلوم السياسية الصحبي الخلفاوي في تصريح لـ JDD :”  أراد رئيس الدولة بالتنقل إلى وزارة الداخلية، أن يقول بصريح العبارة إن القوات الأمنية تحت إمرتي ولو كان هشام المشيشي وزيرا للداخلية بالنيابة.”

ويضيف: “السؤال الأخطر في هذا السجال المحتدم بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة، كيف ستتصرف القيادات والأجهزة الأمنية إزاء هذا التجاذب؟ نحن صراحة إزاء معركة بين رئيس للدولة له شخصية خاصة جدا. ولا يمكن التكهّن بما قد يقدم عليه ورئيس لحكومة فاشلة جدا في إدارة الشأن العام، خاصة وان الأزمة الحادة التي نعيش على وقعها، في كل المستويات الاجتماعية والاقتصادية وخاصة الصحيّة.”

الرئيس مجرّد ضيف لا غير

قانونيا يبقى الجدال قائما ومحتدما. فرئيس الجمهورية يصر على أن يلوّح بيمينه قراءة مختلفة لمسألة القوات العسكرية. ويحمل بيسراه باستدلال بدستور 1959 الذي يجمع كل القوات الحاملة للسلاح سواء كانت عسكرية أو مدنية تحت امرة قائد وحيد وهو رئيس الجمهورية. بينما يكتفي رئيس الحكومة بالإلتزام بدستور 2014 الذي ينص على أن تكون وزارة الداخلية تحت إشراف وزير الداخلية العائد بالنظر إلى رئيس الحكومة.

“لا سلطة لرئيس الجمهورية على قوات الأمن الداخلي ولا على وزارة الداخلية.” هكذا يوضّح أستاذ القانون العام شكري عزوز هذا الإشكال القانوني. ويشدّد على أن وزارة الداخلية لا تعود بالنظر لرئيس الجمهورية لا من الناحية الهيكلية ولا حتى الوظيفية. و لا يمكن له إسداء أي تعليمات أو إرشادات أو اتخاذ إجراءات أو قرارات تخص منتسبيها.

ويضيف: “قد نتفهم زيارته إن كانت بحضور وزير الداخلية. ولكن يبقى الرئيس مجرد ضيف مرحب به. دون ذلك فهو خرق للدستور.”

بداية تفكّك الدولة

وبينما ترتفع وتيرة التشنّج وتتصاعد حدة الخلاف بين رأسي السلطة التنفيذية، تتسع الهوّة يوما بعد يوم بين هذا الجدال السياسي وبين الواقع اليومي المرير للتونسيين. واقع يعكس أزمة اجتماعية واقتصادية خانقة وشبه انهيار للمنظومة الصحية ونقص فادح للتلاقيح وتزايد مطرّد لضحايا فيروس كورونا.

في هذا الصدد، يشير الصحبي الخلفاوي إلى بداية تمرّد العديد من الأطراف على قرارات الدولة. ابرز مثال على ذلك ما بدر من جامعة كرة القدم بمواصلة فعاليات البطولة. كما رفضت الغرف الجهوية للصناعة والتجارة إغلاق المحلات التجارية. وسبق لها أن تحركت في السابق. وأعادت الكرة بعد إعلان الحجر الصحي الأخير.

بل يشدّد الخلفاوي على أن ما يجري الآن من “صراعات صبيانية في أعلي هرم للسلطة قد يؤدي إلى انقسام أهم جهاز في الدولة التونسية وهو وزارة الداخلية لنكون إزاء ما يشبه جبهتين. نحن اذن إزاء امكانية تكرر سيناريو الشقيقة ليبيا حين انقسمت السلطة إلى حكومتين واحدة في طبرق والثانية في طرابلس. هذا السيناريو قد يكون بداية النهاية الحقيقية للدولة التونسية”.

من جهته يستغرب شكري عزوز، استماتة الرئيس سعيد في خوض معارك غير ملتصقة بمشاغل التونسيين، قائلا: “ألم يكن من الأفضل لسعيد أن يعلن نفسه قائدا للقوات الحاملة للقاح ضد الفيروس، عوض القوات الحاملة للسلاح؟ لماذا لم يعر أي اهتمام للفشل الكبير الذي صاحب إدارة الأزمة الصحية الحالية، مقترحا البدائل ومساعدا على توفير اللقاحات؟ ألا يعنيه قيادة المعركة الاقتصادية بالتصدي للاحتكار وارتفاع الأسعار؟ كل هذا قد يولّد خشية لدى الكثيرين من النوايا الانقلابية لرئيس الدولة. فقد أصبح يمثل خطرا حقيقيا على تونس.

هكذا إذا يكون المشهد السياسي بمثابة المسرح الكبير. على خشبته ينهمك ممثلون في التحرّك، محدثين جلبة هائلة وغير مفهومة أمام مقاعد هجرها الجمهور، باحثا عما يسد رمقه وما يروي ظمأه وما يسكّن ألامه وأوجاعه.