إصلاح المنظومة الحزبية
بقلم العميد عبد الستار بن موسى
إن إصلاح المنظومة الانتخابية غير كاف لوحده باعتبار أن الهنات التي تتعلق بالمنظومة الحزبية أعمق وأدق وهي التي تؤثر سلبا على المسارين الانتخابي والسياسي. هنات تتمثل في النقائص التي شابت القوانين المنظمة للحياة الحزبية وفي السلوكيات الخاطئة للعديد من ممثلي وناشطي الأحزاب وخاصة خلال الحملات الانتخابية.
إن هذه السلبيات تستوجب إصلاح المنظومة الحزبية نصا وممارسة.
إن الدستور التونسي الذي صادق عليه المجلس القومي التأسيسي في 25 جويلية 1957 لم يضمن في فصله الثامن المنقح بمقتضى القانون الدستوري عدد 65 لسنة 1997 حرية تكوين الأحزاب السياسية بل ضبط فقط أهدافها وشروط تكوينها واقتصر على ضمان حرية الفكر والتعبير والصحافة والنشر والاجتماع وتأسيس الجمعيات وجعلها تمارس حسبما يضبطه القانون، إلا أن القوانين قيدت في الواقع تلك الحريَات.
إن القانون الصادر بعد ذلك والمنظم للأحزاب قيد تأسيس الأحزاب بشروط مجحفة من بينها الحصول على رخصة من وزارة الداخلية، على أساس ذلك تحكمت وزارة الداخلية في مصيىر الأحزاب منذ ولادتها. إلا أن الدستور الجديد الصادر في 27 جانفي 2014 ضمن حرية تكوين الأحزاب السياسية في الفصل 35 ونصَ على التزامها في أنشطتها بأحكام الدستور والقانون و بالشفافية المالية ونبذ العنف.
تشكل الأحزاب السياسية مؤسسة هامة ومفصلية في الحياة الديمقراطية فالحزب هو بمثابة المدرسة السياسية لتأطير المواطن وترسيخ روح المواطنة لديه وتدريبه على المساهمة في الشأن العام وممارسة حقوقه المشروعة دون خلل والقيام بواجباته دون ملل، ذلك ما أشار إليه الفصل الثاني من المرسوم عدد 87 لسنة 2011 المؤرخ في 24 سبتمبر 2011 والمتعلق بتنظيم الأحزاب السياسية.
ألزم الفصل الثالث من ذلك المرسوم الأحزاب السياسية في نظامها السياسي وفي نشاطها وتمويلها احترام مبادئ الجمهورية وعلوية القانون والديمقراطية التعددية والتداول السلمي على السلطة والشفافية والمساواة وحياد الإدارة ودور العبادة والمرافق العامة واستقلال القضاء وحقوق الإنسان كما ضبطت بالاتفاقيات الدولة التي صادقت عليها البلاد التونسية .
إن هذه المبادئ تضمنتها جلَ دساتير وقوانين البلدان الديمقراطية واستفادت منها الأحزاب وعملت على ترسيخها على أرض الواقع فشكلت إطارا لاستقطاب الأفراد حول أفكار سياسية وإيديولوجية معينة وتمكينهم من التعبير عن آرائهم قصد صياغة برامج واضحة والسعي إلى تنفيذها عند المشاركة في الحكم وتبعا لذلك تحمل المسؤولية.
هكذا عززت الأحزاب السياسية الممارسة الديمقراطية في مختلف أنحاء العالم، أما في بلادنا فإن الأحزاب السياسية التي انتشرت بعد الثورة كالفقاقيع شوهت الممارسة الديمقراطية، لقد شهدت بلادنا منذ سنة 2011 ميلاد أحزاب عديدة إلى حد الانفلات وهو أمر طبيعي في دولة عاشت نصف قرن في ظل نظام استبدادي يسمح بتعددية محدودة ومشروطة تحت قيادة الحزب الحاكم الحزب الواحد.
أطلق المرسوم عدد 87 لسنة 2011 العنان للأحزاب وفكَ القيود التي كانت مفروضة عليها من وزارة الداخلية وأصبح التكوين يتم بمجرد إعلام إلى رئاسة الحكومة فتضخَم عدد الأحزاب ليتجاوز 211منذ سنة 2014 ووصل العدد الآن إلى 282 حزب، إلا أن حضور الأحزاب في الساحة السياسية وفي البرلمان بقي محدودا ولا يتجاوز العشرين حزبا في كل دورة برلمانية.
إن عديد الأحزاب كانت وليدة اللحظة نشأت بمناسبة الانتخابات من أجل أن تفوز وتساهم في الحكم جمعت الشتات، وما أن فشلت في الانتخابات حتى غابت عن المشهد السياسي وأفلت.
حتى التي فازت في الانتخابات سرعان ما هوت وشهدت هزات وانشقاقات، إن الأحزاب التي تتشكل بمناسبة الانتخابات سرعان ما تندثر لأنها لا تنظم مؤتمراتها قبل الانتخابات لضبط هيكلتها وصياغة برامجها كما أنها لا تجري بعد الانتخابات تقييما شاملا للوقوف على أخطائها وإصلاح أوضاعها قصد تبني إستراتيجية قويمة وضبط برامج سليمة.
لقد أثر ذلك المشهد الحزبي الفسيفسائي سلبا على المشهد السياسي سواء داخل البرلمان أو خارجه، إذ انطلقت السيَاحة الحزبية وتواصلت طبقا لمقاييس لا تتعلق بالمصلحة الوطنية بل بالمنافع الشخصية الضيقة كقبول مناصب حكومية وإدارية أو حتى منافع مادية وعينية. إن المصالح الفردية أضعفت القيم الجماعية داخل أغلب الأحزاب لتصبح عبارة عن باتيندة لفلان وفلتان تسيطر فيها الولاءات والعلاقات الشخصية والمنافع الزبونية.
كما أن السياحة البرلمانية أصبحت مشهدا مألوفا من كتلة برلمانية إلى أخرى ومن ائتلاف برلماني إلى آخر، فخلال الدورات البرلمانية المتتالية مست السياحة البرلمانية قرابة ثلث مجلس النواب بل أن البعض من النواب انتقل 4 مرات من كتلة برلمانية إلى أخرى خلال الأربع سنوات التي سبقت الانتخابات الأخيرة.
هذا وقد شهدت الأحزاب السياسية استقالات وانقلابات في التحالفات ومما زاد الوضع سوءا تفشي العنف المادي واللفظي والهرج والمرج والتصرفات المشينة والمهينة وتقلص الثقة بين السياسيين وانعدامها لدى اغلب الفئات الشعبية وخاصة الشبابية.
إن هذه الظواهر الغريبة والممارسات العجيبة تجد لها مرتكزا في الدستور والمرسوم المنظم للأحزاب وكذلك في ضعف الرَقابة والمساءلة.
أما بالنسبة للدستور فإن أعضاء المجلس التأسيسي الممثلين في أغلبيتهم للأحزاب السياسية حرصوا على تحصين أنفسهم ضد كل تتبع قضائي . لقد نص الفصل 68 من الدستور بأنه لا يمكن إجراء أي تتبع قضائي مدني أو جزائي ضد عضو بمجلس نواب الشعب لأجل آراء و اقتراحات يبديها أو أعمال يقوم بها.
لكنه اشترط أن يكون لها ارتباط بمهامه النيابية، إن الحصانة التي يتمتع بها نواب المجالس البرلمانية في العالم إنما تتعلق بأداء مهامهم النيابية وهو ما تضمنه الفصل68 المذكور، إلا أن المؤسسين لم يكتفوا بذلك بل أضافوا الفصل 69 الذي يخول للنائب الاعتصام كتابة بالحصانة الجزائية حتى لا يقع تتبعه وإيقافه طيلة مدة نيابته في أي تهمة جزائية ما لم ترفع عنه الحصانة.
إن هذا الفصل حرَر النواب من كل تتبع جزائي وأطلق أياديهم يفعلون ما يشاءون دون رقيب ولا حسيب ويفلتون من أي تتبع أو عقاب جزائي.
أما المرسوم عدد87 لسنة 2017 المتعلق بنظام الأحزاب السياسية فقد مرت عليه عشرية كاملة ولم تفكر الحكومات المتتالية في تقديم مشروع قانون جديد ولم تتحرك الكتل النيابية لتقديم مبادرة تشريعية لأن كل الفاعلين السياسيين وجدوا راحتهم في ذلك المرسوم والحال أن الفصل 65 من الدستور ألزم تنظيم الأحزاب السياسية بموجب قانون أساسي.
إن ذلك المرسوم لم يضبط العدد الأدنى الواجب توفره في المؤسسين لأي حزب سياسي في مرحلة التكوين بحيث يمكن طبق المرسوم الحالي لثلاثة مواطنين فقط إرسال مكتوب مضمون الوصول إلى رئاسة الحكومة يتضمن تصريحا يشتمل على اسم الحزب وبرنامجه وشعاره ومقره ونسخة من بطاقة التعريف الوطنية لمؤسسي الحزب ونظير من النظام الأساسي للحزب .
إن هذه السهولة في تكوين الأحزاب أفرزت تضخما في العدد حتى أن بعض الأحزاب السياسية تأسست على علاقات عائلية وصداقات شخصية والعديد منها لا تستند إلى قاعدة شعبية بل إن بعضها ليست لديها مقرات.
لم يمنع المرسوم عدد 36 لسنة 2011 رؤساء الأحزاب السياسية من ترأس جمعيات وهي نقيصة كبيرة سهلت الحصول على التمويلات المشبوهة وساعدت بعض الأحزاب على استغلال الجمعيات للحصول على موارد مالية وأصوات انتخابية.
لقد خُصَص الباب الثالث من المرسوم عدد 87 للأحكام المالية. إذ نصَ الفصل 17 على حق الأحزاب في الحصول على المساعدات والهبات والوصايا الصادرة عن أشخاص طبيعيين لا تتجاوز قيمتها 60 ألف دينار لكل مانح وحجَر الفصل 19 على الأحزاب للحصول على تمويل مجهول المصدر أو صادر عن أي جهة أجنبية.
خصص الباب الرابع للسجلات المالية والتثبت في الحسابات بواسطة مراقبي حسابات يتولون رفع تقاريرهم إلى رئاسة الحكومة كما ألزم الفصل 22 كل حزب سياسي بفتح حساب بنكي أو بريدي وحيد، تضمن الباب الخامس العقوبات المتعلقة بالمخالفات والتي تتراوح بين الخطايا الماليَة أو تعليق نشاط الحزب وحلَه بموجب حكم قضائي.
كما ألزم المرسوم كل حزب سياسي بنشر قوائمه المالية بإحدى الجرائد اليومية الصادرة بالبلاد التونسية وبالموقع الالكتروني إن وجد في ظرف شهر من تاريخ المصادقة على القوائم المالية.
إن المرسوم عدد 87 لم يلزم الأحزاب السياسية بضرورة إحداث موقع الكتروني لنشر أنشطته وحساباته المالية كما لم يتعرض إلى كيفية مراقبة البنك المركزي ومحكمة المحاسبات للعمليات المالية التي تقوم بها الأحزاب في إبانها قصد الكشف عن التمويلات المشبوهة، كما أنه لم يضبط كيفية مراقبة التجاوزات المتعلقة بالحصول على تبرعات وهبات ووصايا من أشخاص طبيعيين وعدم تجاوزها مبلغ ستين ألف دينار لكل مانح.
لقد أعلنت مصالح وزارة العلاقات مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني مرارا وتكرارا بأنها ستنطلق في الإجراءات القانونية اللازمة تجاه الأحزاب السياسية التي تم التنبيه عليها سابقا سواء التي تخلفت عن تقديم تقارير مراقبة حساباتها وقوائمها المالية إلى رئاسة الحكومة أو التي تخلفت عن تقديم تقريرها المالية إلى دائرة المحاسبات وذلك عبر إحالة ملفات المخالفين إلى مصالح المكلف العام بنزاعات الدولة.
كما أوضحت خلال شهر أفريل 2019 بان عدد الأحزاب التي لم تقدَم تقارير مراقبة حساباتها أو تقاريرها السنوية تجاوز المائة والخمسين أي أغلبية الأحزاب السياسية فيما اكتفت بعض الأحزاب بتقديم تقاريرها المالية السنوية إلى دائرة المحاسبات، أعلنت منظمة يقظ منذ شهر جانفي 2017 أن 8 أحزاب فقط من مجموع 205حزبا قدمت تقريرها إلى دائرة المحاسبات إلى حدود 31 ديسمبر 2016 وفق مراسلة تحصلت عليها من هذه الدائرة.
هكذا اتضح جليا أن عديد الأحزاب لها علاقات مع الجمعيات التي تلقت تمويلات أجنبية مما يؤكد تواصل التمويل الأجنبي للأحزاب عبر الجمعيات دون رقيب أو حسيب، إن أنشطة الأحزاب وتمويلاتها ظلت دون رقابة فاعلة وناجعة ودون مساءلة بسبب تقاعس الجهات المعنية عن القيام بدورها الرقابي والبطء القضائي في المجال العقابي وحتى تقارير محكمة المحاسبات لم يقع تفعيل القرارات التي تضمنتها، على إثر هذه الإخلالات التي شابت القوانين وكيفية إنفاذها عبر المراقبة.
أعدت الحكومة مجرد مسودة قانون يتعلق بتنظيم الأحزاب السياسية وكيفية تمويلها يشمل 5 أبواب و69 فصلا بنص الفصل 33 من المشروع على أنه ” يحجر على الحزب السياسي أي تمويل أجنبي أو تمويل مباشر أو غير مباشر لا يمكن أثبات مصدره ويحجَر على الحزب الحصول على أي مساعدات أو تبرعات أو هبات صادرة عن الذوات المعنوية خاصة أو عمومية باستثناء التمويل المحمول على ميزانية الدولة وتبرعت وهبات ووصايا صادرة عن أشخاص طبيعيين”، كما نص الفصل 36 على أنه “يتولى الحزب السياسي نشر كل المساعدات والتبرعات والهبات والوصايا على المنصة الالكترونية في أجل شهر من تاريخ قبولها ويتضمن النشر وجوب قيمتها وهوية مقدمها وتاريخ الحصول عليها ” .
هذه بعض الإصلاحات التي يجب إدخالها في التشريع الحالي ويجب دعمها بإصلاحات جوهرية كإلزام كل حزب بإنشائي موقع واب يتضمن كل المعطيات والإحصائيات المتعلقة بالمنخرطين والأنشطة والميزانية والتمويلات مع بيان مبالغها ومصادرها وكذلك التقارير السنوية الأدبية والمالية، كمنع الجمع بين المسؤولية الحزبية والمسؤولية صلب جمعية.
يجب أيضا إلزام الأحزاب السياسية بعقد مؤتمراتها الدورية وتكريس الآليات الديمقراطية، كما أنه لابد أيضا من وضع إجراءات دقيقة للمراقبة المستمرة لأنشطة الأحزاب السياسية لرصد الخطابات والأعمال التي تحرض على العنف والكراهية أو تخرق الواجبات التي ألزم الدستور والقانون الأحزاب السياسية التقيد بها كالشفافية والمساواة وحياد الإدارة ودور العبادة والمرافق العامة واستقلال القضاء.
لا بد أيضا من تشديد آليات المراقبة على تمويلات الأحزاب السياسية وتعزيز قدرة الهيئات الرقابية وخاصة البنك المركزي ومحكمة المحاسبات لضمان رقابة ناجعة على تمويل الأحزاب حتى لا تبقى القوانين المنظمة لهذه المسألة حبرا على ورق.
كما يتجه اتخاذ الإجراءات القانونية والقرارات القضائية بناء على المخالفات الواقع رصدها في إبانها وحتى لا تبقى تنابيه الكتابة العامة للحكومة أو قرارات محكمة المحاسبات في سلة المهملات إن تعديل الإطار التشريعي وتعزيز المنظومة الرقابية مسالة أوليَة وعاجلة لإصلاح المنظومة الحزبية وجعلها في خدمة الديمقراطية والوطن.
بقلم العميد عبد الستار بن موسى