تونس، ديمقراطية، ثورة، تاريخ، قيس سعيد، الغنوشي

قد يبدو من الوهلة الأولى أننا إزاء سؤال بديهي، ولكن عندما نطرح أسئلة فرعية مرتبطة بمبدأ البرهنة بالخلف، فإنّنا نجد أنفسنا أمام استفهام، هل يمكن للدولة الديمقراطية أن تكون الحرية فيها دون حدود أو ضوابط؟  

من الأكيد أنه لا وجود لدولة ديمقراطية يكون المواطنون فيها غير أحرار، ولكن لا تعني حرية المواطنين أننا بصدد دولة ديمقراطية.

مبدئيا لا مجال للحديث عن الديمقراطية خارج إطار الدولة، وهذا مبدأ يدحض نظرية الفوضويين والبرودينيين (نسبة الى برودون Proudhon)، الذين يعتبرون أنّ الدولة هي جهاز قمعي لخدمة طبقة أو فئة دون غيرها، وبالتالي يجب تدمير أسسها وإيجاد حالة اجتماعية سياسية خارج دائرة تاريخ الدولة في اتجاه بناء تاريخ حرية الانسان في مواجهة القسر والطبيعة.

هذه النظرية التي تتبناها بعض المدارس السياسية التونسية خاصة الفوضوية تستند الى مقاربة معادية للتاريخ وممهدة لمنطق غياب الدولة، ليس كجهاز بل كمعيار يمكن من خلاله ابرام العقد الاجتماعي الذي يجعل من كلّ فرد يتنازل عن جزء من ارادته وقوته لفائدة وازع يزع بعضهم عن بعض، لتفادي حالة النفي والالغاء بين الناس، اذ عندما يغيب المعيار تغيب ثنائية الصواب والخطأ وبالتالي تحضر القوة كعنصر حسم فتكون الغلبة للأقوى. في هذه المقاربة يكون الاكراه والالغاء حاسما في مواجهة التعايش والبقاء.

في حين أنه تاريخيا ووجوديا حالة السلم العادلة أفضل من حالة الحرب.

وجود الدولة أهم من غيابها

اذن يمكننا أن نعتبر أنه منطقيا وتاريخيا وجود الدولة أفضل وأسلم من غيابها أو انعدامها. لقد تطورت نظريات الفلسفة السياسية في اتجاه اعتبار الدولة جهازا لإدارة البقاء وحسن البقاء بين الناس، فيتم اعتماد دستور يحدد العلاقة بين المواطن والدولة وبين المواطنين فيما بينهم ويجعل لكلّ منهم حدودا، وهي الاستناد النظري لمبدأ تنتهي حريتك بمجرد بداية حرية غيرك.

وتدير الدولة سلطة سياسية تكوّنها الأحزاب الفائزة في الانتخابات باعتبارها الآلية الأفضل تاريخيا لترسيخ العدالة السياسية وتمّ تكوين البرلمان لإدارة الاختلاف والتشريع للدولة والمجتمع وأصبحت هناك مؤسسات وهيئات…

لقد تمكنت مدارس الفلسفة السياسية والعلوم السياسية وعلوم الإدارة وعلماء الاقتصاد من تطوير مفهوم الدولة ومؤسساتها، وأصبحت هي الخيار التاريخي الأفضل والأقدر على تحديد العلاقة بين المواطنين وحمايتهم وخدمتهم والدفاع عن مصالحهم.

اذن ليس بالإمكان الحديث عن فعل سياسي ديمقراطي خارج إطار الدولة، ولكن هل يضمن وجود الدولة الممارسة الديمقراطية؟

لقد أثبتت التجربة التاريخية أنّ وجود الدولة لا يعني وجود الديمقراطية، اذ وُجِدَت السّلطة بشتى أصنافها السلطوية والتوتاليتارية والبونابارتية والوراثية العائلية… ونشأ مفهوم الديكتاتورية القمعي، ووجدت أيضا الدولة الديمقراطية، أي الدولة التي يصل الحاكم فيها عبر الانتخابات الحرة والمباشرة وتكون فيها حرية التعبير والمعتقد مضمونة ويتمتع المواطنون فيها بكلّ حقوقهم ويؤدون واجباتهم.

العقد الاجتماعي التونسي

يعتبر دستور الجمهورية التونسية لسنة 2014 عقدا اجتماعيا بين كلّ التونسيين، الذين استطاعوا في انتخابات 2014 أو سنة 2019 أن يختاروا برلمانا ورئيسا للجمهورية. وقد كانت انتخابات حرة مارس فيها المواطنون حقهم الانتخابي بشكل مخالف لما قبل الثورة اذ لم تتدخّل إدارة الدولة لتغيير النتائج لفائدة شخص أو حزب بعينه، فاختار التونسيون رئيسا جامعيا مثقفا من أبناء الطبقة الوسطى التي أنهكتها الخيارات السياسية والاقتصادية.

سياسيا استطاع التونسيون اختيار دستور وإرساء مؤسسات وحسم خلافاتهم بالانتخابات وليس بالعنف والقوة، وفي أقسى الوضعيات وأقصاها لجأوا الى الحوار الذي أشرفت عليه منظمات المجتمع المدني التي لعبت دورا أساسيا في مراقبة المجتمع السياسي.

واستطاع المواطنون أيضا الحصول على حريتهم اذ لا قوة تمنعهم من التعبير، كما لا سجون لمن ينتقد رئيس الحكومة الذي يدير السلطة التنفيذية أو رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة، كما لم يعد انتقاد الوزير مؤديا الى السجن أو الحرمان من الخدمات العامة مثل العمل.

لقد استطاع المجتمع التونسي أن يتجه بشكل صحيح نحو فرض حريته، ولكن هل استطاعت تلك الحرية تأمين أو ضمان دولة ديمقراطية؟

اعتمدت الإنسانية، ضمن المعايير الكونية، على نظرية ضوابط الحرية حتّى لا تتمّ عملية الصدام بين المواطنين عندما تتضارب مصالحهم وتتصادم حرياتهم وقدراتهم، وهي المبادئ المنصوص عليها في المادة 19 من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وفي الميثاق العالمي لحقوق الانسان وكل المواثيق الدولية وهو نفس التوجه الذي اختاره المشرع التونسي في الفصل 49 من الدستور اذ وضع خمسة ضوابط أو حدود للحرية وهي احترام حقوق الآخرين ومقتضيات الأمن العام والدفاع الوطني والصحة العامة والآداب العامة، ووضع شروطا لذلك حتى لا يتم النيل من جوهرها.

هل يحترم التونسيون تلك الضوابط الخمسة؟ من الواضح أن المجتمع التونسي بصدد مراكمة احترامه لحقوق غيره اذ لم يتحقق المبدأ بعد، كما أن احترام بقية الضوابط لم يكتمل بعد بل يمكننا أن نعتبر أحيانا أن التونسي لا يخضع لمقتضيات الأمن العام والدفاع الوطني…

قد يقول فقهاء القانون ومناضلي حقوق الانسان إنه يجب تحديد تلك المفاهيم، ولكن في الواقع لا أحد اتجه الى ذلك، حتى المحكمة الدستورية التي من المفترض أن تراقب أعمال البرلمان ورئيس الجمهورية وأعماله، ظلّت مجرّد مطلب دستوري لم تشأ الإرادة السياسية أن تعلنه على أرض الواقع وأن تأخذه من الوجود بالقوة الى الوجود بالفعل.

إنّ غياب المحكمة الدستورية مع عدم اكتمال احترام الضوابط الخمسة مع وجود أسئلة حول مستطاع الدولة منع غير المسلم من الترشح لرئاسة الجمهورية، ومستطاعها أيضا منع الإفطار بصورة علنية خلال شهر رمضان، يجعلنا أمام إشكاليات حقيقية.

طبعا لا يمكننا أيضا في ظل حضور نسب فقر مرتفعة أن نتحدث عن دولة ديمقراطية، اذ تتجاوز في بعض المناطق نصف السكان (حاسي الفريد أكثر من 53 بالمائة) ونسبة الأمية قرابة 18 بالمائة.

هل يمكن القول إنّ تونس دولة غير ديمقراطية؟

لا يمكن لدولة يتم اختيار حكامها بالانتخاب وتقوم فيها الهيئات المستقلة بإدارة الشأن العام مثل الإعلام والانتخابات وحقوق الانسان والتنمية والحوكمة… ويمكن فيها ممارسة النقد ضدّ رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان والوزراء والمسؤولين بكلّ حرية أن توصف بأنها دولة سلطوية أو توتاليتارية …كما لا يمكن لدولة يعاني مواطنوها الفقر والأمية والجريمة والأمراض البدائية، ويتم فيها التمييز بين المواطنين على أساس الدين، وتكون فيها الحرية الفردية مضمونة لمدّة 11 شهرا فقط في حين يتم فيه ممارسة كلّ المحرّمات على فئة من الناس خلال شهر وهو شهر رمضان، أن نقول عنها إنها ديمقراطية.

اذن، دولة ليست قمعية ولا سلطوية ولا توتاليتارية من جهة، وليست ديمقراطية من جهة أخرى ماذا نطلق عليها؟

مادامت المؤسسات قائمة والمنظومة القانونية بصدد البناء والوجود، ومادامت الحرية مضمونة ومادام المجتمع المدني يقوم بدور تعديلي في مواجهة المجتمع السياسي، فإنّه يمكننا أن نعتبر أن تونس هي دولة ديمقراطية بصدد التشكّل، أي أنها في مرحلة تاريخية بنائية قد تؤدّي بها الى الممارسة والتفكير الديمقراطيين كما يمكن أن تؤدّي بها الى مسارات أخرى.

منجي الخضراوي