بقلم العميد عبد الستار بنموسى

            تكمن أهمية القضاء المالي في دوره الرقابي على كيفية التصرف في الموارد المالية من لدن أعوان وإطارات الدولة والمؤسسات التي تدير مرافق عمومية أو مؤسسات خاصة التي تشارك الدولة في رأسمالها.

            كما تكمن أهمية القضاء المالي في دوره العقابي بجزر المخالفات المتعلقة بالمال العام بغية مكافحة الفساد ووضع حدّ لظاهرة الإفلات من العقاب.

            تزداد أهمية هذا الدور أثناء مرحلة الانتقال الديمقراطي حتى لا يقع إهدار المال العام لفائدة مصالح شخصية أو حزبية أو فئوية.

            تمّ الاهتمام بالقضاء المالي منذ السنوات الاولى من الاستقلال في بلادنا  إذ خصّص الباب السادس من دستور غرة جوان 1959 لمجلس الدولة الذي يتكون من المحكمة الإدارية ومن دائرة المحاسبات، ونظرا لأهمية القضاء المالي فقد أصبحت دائرة المحاسبات منذ ذلك الوقت مؤسسة دستورية. إلا أن القانون المنظم لتلك الدائرة لم يصدر إلاّ سنة 1968 بموجب القانون عدد 8 المؤرخ في 8 مارس 1968 والذي جعل دائرة المحاسبات بمثابة المحكمة التي تبت في حسابات المحاسبين العموميين إلى جانب قيامها بالأعمال الرقابية على التصرف  العمومي.

لقد كان مجال تدخلها في البداية محدودا إلا أن المشرّع تدخل لاحقا لتوسيعه  وإسناد الدائرة اختصاصات قضائية جديدة من ذلك أن القانون عدد 74 لسنة 1985 المؤرخ في 30 جويلية 1985 خوّل لقضاة محكمة المحاسبات التحقيق في أخطاء التصرف التي يتم ارتكابها ضدّ الدولة والمؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية والجماعات  المحلية والمشاريع العمومية وأحدث ذلك القانون دائرة الجزر المالي وخصّ قضاة دائرة المحاسبات برئاستها وبالمشاركة في تركيبة الهيئة الحكمية.

أما بعد سنة 2011 فقد صدرت بعض القوانين المتعلقة بالزجر المالي منها القانون المؤرخ في 26 ماي 2014 والمتعلق  بالانتخابات والاستفتاء والذي اشتمل على النزاعات المتعلقة بتمويل الحملات الانتخابية وبين دور دائرة المحاسبات فيها وكذلك القانون المؤرخ في 9 ماي 2018 المتعلق بمجلة الجماعات المحلية والذي تضمن مختلف النزاعات المحلية  التي هي من الاختصاص الحكمي للهيئات القضائية بمحكمة المحاسبات المختصة ترابيا.

أما الدستور الجديد الصادر في 26 جانفي 2014 فقد خصّ الفرع الرابع من الباب الخامس المتعلق بالسلطة القضائية إلى القضاء المالي الذي يتكون حسب الفصل 117 من محكمة المحاسبات بمختلف هيئاتها.

هكذا تم تغيير التسمية لتصبح الدائرة محكمة للمحاسبات ترجمة لدروها الحقيقي كما تمت دسترة  نظام أخطاء التصرف.

بعد أكثر من خمس سنوات من إصدار الدستور، صادق مجلس نواب الشعب  بتاريخ 19 أفريل 2019 على القانون الأساسي عدد 41 المتعلق بمحكمة المحاسبات  الذي جاء في شكل مجلة من 166 فصل تشتمل على آليات التصرف والمحاسبة في المال العام والخطايا والإجراءات المتعلقة  بالتقاضي و الأحكام والعقوبات.

نصّ  الفصل الثاني من ذلك القانون بأن “محكمة المحاسبات تكوّن بمختلف هيئاتها القضائية والمالية وهي الهيئة العليا للرقابة على التصرف في المال العام وتمارس مهامها وفقا لمبادئ  الشرعية والنجاعة والشفافية والمساءلة و النزاهة”.

أما ابالنسبة للتنظيم الهيكلي لمحكمة المحاسبات فقد تمّ اعتماد اللامركزية  إذ بالإضافة إلى المقرّ الرئيسي بتونس العاصمة توجد حسب الفصل 26 أقسام ودوائر ابتدائية مركزية وجهوية ودوائر استئنافية  وهيئة تعقيبية  كما نصّ الفصل 20 بأن النيابة العمومية لدى محكمة المحاسبات جزء  من القضاء المالي ويؤمن وظائفها وكيل الدولة العام ووكلاء الدولة المساعدون وتسهر على تطبيق القانون وتمارس صلاحياتها عن طريق تقديم طلبات أو بإبداء ملحوظات  وهي التي تثير التتبعات  من تلقاء نفسها أو بطلب من عدّة  اطر عددها الفصل 117 من القانون الاساسي (رئيس الجمهورية، رئيس أو أعضاء مجلس نواب الشعب، رئيس الحكومة + وزير المالية + الوزراء + رؤساء المجالس و الجماعات المحلية – رؤساء  الهيئات الدستورية والتعديلية. أما قاضي التحقيق فيمكنه القيام بجميع الابحاث والتحقيقات  لدى كل  الجهات العمومية أو الخاصة ذات العلاقة في القضية.

وسعّ القانون الأساسي عدد 41 من صلاحيات محكمة المحاسبات :

إذ نصّ الفصل السابع على أن : “تمارس اختصاصاتها  إزاء :

  1. الدولة والمؤسسات العمومية التي تكون ميزانيتها ملحقة ترابيا بميزانية الدولة والجماعات المحلية.
  2. 2-              المؤسسات العمومية التي لا تكتسي صبغة إدارية والمنشآت العمومية وكل الهيئات مهما كانت تسميتها والتي تساهم الدولة أو الجماعات المحلية أو المنشآت العمومية في رأس مالها بصفة مباشرة أو غير مباشرة. الهيئات الدستورية المستقلة وغيرها من الهيئات العمومية المستقلة.
  3. 3-              الهيئات التعديلية”   كما نصّ الفصل 111 على ما يلي : “تتولى محكمة المحاسبات زجر أخطاء التصرف المرتكبة من قبل أعوان الدولة والمؤسسات والمنشآت العمومية والجماعات المحلية ومن قبل أعوان ومتصرفي وممثلي المؤسسات التي تمتلك الدولة أو الجماعات المحلية مباشرة أو غير مباشرة نسبة 50%   أو أكثر من رأسمالها. كما تتولى زجر أخطاء التصرّف المرتكبة من قبل رؤساء وأعوان الهيئات الدستورية المستقلة و غيرها من الهيئات العمومية”.

إن مجال تدخل محكمة المحاسبات أصبح شاسعا ويستوجب فيلقا من القضاة المختصين وأعوان مختلف الهيئات الحكمية التابعة لها أما فيما يتعلق بالقضاء في حسابات المحاسبين العموميين فإن القانون الأساسي اختصر الآجال من خلال إلغاء آلية المقرر الثاني المعتمد في التحقيق وثنائية الحكم ما كرّس  الفصل بين سلطة التتبع وسلطة التحقيق وأقرّ مبدأ مسؤولية المحاسب صلب  الفصل 45 الذي نصل بأنه “في صورة ما إذا تسبب الخطأ المرتكب من المحاسب في ضرر مالي للدولة أو المؤسسة العمومية أو الجماعات المحلية فإن محكمة  المحاسبات تقضي بتعمير ذمة المحاسب في حدود الضرر الحاصل. وفي صورة انتفاع المحاسب العمومي بالعفو وفقا لأحكام مجلة المحاسبة العمومية فإنه يتمّ في جميع الحالات تحميله مبلغا لا يقل عن ضعف المقدار المحدد طبقا لأحكام الفصل 44”.

إلا أن الإطار التشريعي الجديد رغم أهميته  كان بمثابة  إطار عام للقضاء المالي تجاهل  عديد المشمولات القضائية ذلك أنه لم يعكس  النفس الثوري  الذي تضمنه الدستور الصادر في 26 جانفي 2014 الذي دستر القضاء المالي شكلا ومضمونا  وجعله حجر الأساس في الحفاظ على المال العام.

فالقانون الأساسي لم يجعل من محكمة المحاسبات التي تعتبر أعلى هيئة قضائية مالية الحلقة الأساسية والمرجعية في مجهود مكافحة الفساد ولم يمكنها من آليات ناجعة للتصدي للمال الفاسد إذ اقتصرت رقابة المحكمة على الاحزاب التي  تتجاوز مساهمة الدولة في ميزانيتها 50 بالمائة وهو ما يساعد على الافلات من المساءلة والعقاب عبر الحصول على أموال مشبوهة مقابل عدم الحصول على دعم الدولة وتفادي رقابة محكمة المحاسبات.

كذلك الشأن بالنسبة للجمعيات خاصة وأن المرسوم عدد 88 لسنة 2014 خوّل لها الحصول على تمويلات أجنبية وقد أثبتت الممارسة أنها تساهم في تمويل الأحزاب والحملات الانتخابية. كما أن القانون الأساسي المتعلق بالقضاء المالي لم يستوعب الصلاحيات الراجعة بالنظر لمحكمة المحاسبات والمستندة إليها بموجب قوانين خاصة مثل القانون الاساسي للانتخابات والاستفتاء ومجلة الجماعات المحلية وكان الأجدر أن يتضمن القانون الأساسي  عدد 41 جميع الاختصاصات المذكورة خاصة وأن الفصل 165 نصّ على إلغاء كل الأحكام المخالفة له.

كان من المفروض أن يتضمن القانون الجديد إلزام مؤسسات الدولة بتقديم كل المعطيات حول تمويل الحمالات الانتخابية وإلزام هذه الهياكل المتمثلة أساسا في البنك المركزي و وزارة المالية و البريد التونسي بالقيام بالرقابة عل التمويل الحزبي قبل سنة من يوم الاقتراع وتقديم تقرير في العمليات الرقابية  إلى هيئة الانتخابات ومحكمة  المحاسبات قبل يوم من الاعلان عن النتائج كإلزام الوكالة الفنية للاتصالات بتوفير كل المعطيات  المتعلقة بمراقبة الحملة الانتخابية  إلكترونيا ومدّها دون تأخير إلى محكمة المحاسبات وبذلك يمكن رصد الاخلالات في وقتها واتخاذ القرارات الردعية تجاه كل المخالفين في إبّانها.

بالإضافة إلى ذلك كان من المستحسن الاختصار في آجال الأبحاث والتحقيقات والبتّ  في النزاعات المتعلقة بتمويل الحملات الانتخابية والتي يقوم بها قضاة محكمة المحاسبات حتى تكون القرارات ناجعة صادرة في إبانها  وتؤدي إلى إسقاط القائمات التي ارتكب أعضاؤها مخالفات أثناء تمويل الحملة الانتخابية وحتى لا يبقى التقرير السنوي أو الخاص الذي تصدره محكمة المحاسبات لاحقا بعد شهور عدّة دون جدوى ومجرّد حبر على ورق.

في هذا المجال دعت جمعية القضاة التونسيين يوم 12 نوفمبر 2020 النيابة العمومية للقضاء العدلي والقطب القضائي المالي إلى فتح تحقيقات بخصوص الجرائم الانتخابية الواردة بتقرير محكمة المحاسبات ونبهت إلى خطورة ما ورد بذلك التقرير من اخلالات وتجاوزات في الانتخابات الرئاسية و التشريعية.

إن القانون الأساسي عدد 41 المحدث لمحكمة المحاسبات وإذ تضمن بعض الإجراءات فإنه لم  يشمل كل إجراءات التقاضي المعمول بها في القضاء المدني  أن الجزائي لذلك  يجب إصدار مجلة للإجراءات أمام القضاء المالي تبين بدقة كافة إجراءات التقاضي من التعهد أو إثارة التتبع إلى تنفيذ الحكم وكافة الإجراءات المتبعة أمام النيابة العمومية وبقية الهياكل القضائية وضبط آجالها. كما أنه لا بدّ من تمكين النيابة العمومية من صلاحيات الضابطة العدلية التي تمكنها من التفتيش وحجز الوثائق والمعدات  كتوضيح آليات التعامل المجدية مع النيابة العمومية في القطب القضائي والمالي حتى يكون القضاء  المالي ناجعا في محافظته على المال العام وفي مراقبته لكيفية التصرف فيه وفي زجره للمخالفات المرتكبة في شأنه. يجب أيضا تمكينه من الموارد البشرية والمالية واللوجستية اللازمة وخاصة وسائل الاتصال الحديثة كدعم اللامركزية وإحداث دوائر جهوية بكل الولايات حتى لا يبقى إحداثها خاضعا للسلطة التقديرية للرئيس الأول لمحكمة المحاسبات حسبما نصّ عليها الفصل 27 من القانون الأساسي. يجب أيضا دعم القطب القضائي  والمالي بشريا وماديا ولوجستيا  في إطار اللامركزية .

كما أنه من الضروري الحرص على تكوين أعوان وإطارات وقضاة محكمة المحاسبات والقطب القضائي والمالي تكوينا مستمرا بدايته الانتداب ونهايته الإحالة على التقاعد حتى تكون الكفاءة مضمونة إلى جانب النزاهة والاستقلالية.

عبد الستار بن موسى