تييري بريسيلون

10 أوت 2021

ترجمة:  البشير موسى

ينبع قرار قيس سعيّد بمنح نفسه صلاحيات استثنائية من أزمة ولدت من رحم دستور 2014.

من خلال تفعيل المادة 80 من الدستور، وهو قرار مثير للجدل يمنحه سلطات استثنائية، ذهب الرئيس التونسي قيس سعيد إلى أبعد من مجرد تعليق النظام المؤسساتي العادي. اذ يعبّر قراره عن فشل المؤسسات التي أنشأها دستور 2014 في معالجة المشاكل الخطيرة التي تهدد استقرار الدولة. فالأزمات الصحية والمالية والاجتماعية والسياسية متعددة الأبعاد، والتي قد تكون هذه المؤسسات مسؤولة عنها جزئيًا، قد قضت على آمال التونسيين في ثورة الربيع العربي وفي الديمقراطية.

الفجوة بين شرعية الأغلبية البرلمانية المتناقصة والمفقودة وشرعية سعيّد أدت إلى صراع على أعلى المستويات.

لقد ولّت المشاعر التي كانت سائدة في جانفي 2014، عندما تبنى المجلس التّأسيسي أول دستور ديمقراطي في تونس. لكن هذا الدّستور بدا كائنا ميّتا بعد سبع سنوات، بدا مثل مصباح علاء الدين، لكن هامد عاجز عن تلبية أي رغبات.

ولم يتم تشكيل المحكمة الدستورية، التي كان من المفترض أن تكون قائمة في عام 2015 بسبب عدم وجود اتفاق سياسي،  فكان ان عدد المواد الدستورية التي لم يتم تنفيذها أو ثبتت لا فعاليّتها أطول من أن يتم سردها بشكل شامل: بنود عدم التمييز، إلغاء المحاكم العسكرية للمدنيين، الحق في المياه، قوانين مكافحة التهرب الضريبي والفساد، والأحكام التي تتناول المحسوبية الاقتصادية والاستقلال القضائي وما إلى ذلك.

كما هو الأمر من قبل، ولّد الاقتصاد قدرًا من الظّلم الاجتماعي. لكن أعظم فشل للدستور كان في مؤسساته الديمقراطية، التي أثبتت أنها عاجزة عن تغيير واقع البلاد.

لقد فقد الشعب التونسي الأمل. وإن ظلّت الدولة تستقطب انتباه العالم، فذلك كان بسبب انهيار نظامها الطبي أو عدم سداد ديونها الخارجية.

مراكز سلطة متعدّدة

ان الانتقاد الرئيسي للدستور موجه بالتحديد الى محوره المركزيّ: اذ أينما وجد تركيز للسلطة، تم تقسيم هذه السلطة بين عدة أقطاب. وكان من المفترض أن يمنع النظام الجديد خطرين: إمكانية رئاسة استبدادية جديدة، وذلك بفضل اعتماد الحكومة على الأغلبية البرلمانية. وإمكانية قيام حزب تشريعي ذو أغلبية يمكنه ترسيخ مكانته داخل الدولة من خلال تركيز جميع السلطات. ولمنع ذلك يتم انتخاب الرؤساء بالاقتراع الشعبي وبالتالي يتمتعون بشرعية انتخابية مباشرة.

كما كان من المفترض أن يكون هنالك جهاز معقد من السلطات المستقلة، بما في ذلك المحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للقضاء الذي يجب ان يكون مستقلاً عن المؤسسات السياسية. و كان من المقرر ايضا ان ضمان استقلالهم يتمّ من خلال استقلاليتهم المالية وطريقة الترشيح.

في هذا الإطار الدستوري، الذي يحترم “الممارسات الجيدة” للديمقراطيات الليبرالية، سيكون من المستحيل على فاعل سياسي واحد الاستيلاء على جميع السلطات. اذ تمّ صياغة واجب “التّسوية” على جميع مستويات الحياة المؤسساتية تقريبًا.

لكن هناك نوعان من “الإجماع”: نوع “نبيل” ، حيث تتجاوز الخيارات مجرد مصالح الأحزاب السياسية. و”تجاري”، حيث يكون الهدف من المعاملات السياسية هو تعظيم الفوائد الشخصية للفرد. يمكن للأول أن ينتج تحولات سياسية نوعية، بينما يميل الأخير إلى الحفاظ على الوضع الراهن. وقد أعطت الطبيعة “التوافقية” للانتقال الديمقراطي القائم على المعاملات والصفقات بين النخب الجديدة والقديمة (أي بين البورقيبيين والإسلاميين) الامتياز للشكل الثاني من الإجماع.

أدّت  الفجوة بين شرعية الأغلبية البرلمانية المتضائلة والمفقودة وشرعية سعيّد إلى صراع على أعلى المستويات، صراع شلّ الحكومة التي كانت أيامها معدودة بشكل واضح. فأرسل التونسيون، الذين خاب أملهم في “التّوافق”، إلى قرطاج رئيسًا كان يعارض الطابع التبادلي للانتقال الديمقراطي الذي سمح للنخبة “الفاسدة” بتوطيد سلطتها ، وأصيب محور الدستور الجديد بالشلل.

حلول وطرق مسدودة

كيف يمكن معالجة الخلل البنيوي في الدستور؟ انّ حزب النهضة هو الحزب الأكثر ارتباطًا بالطبيعة البرلمانية للنظام، وهو أيضًا شرط وجوده السياسي باعتباره الحزب الرئيسي في المشهد السياسي التونسي. لتحسين فعالية النظام البرلماني، فإن هذا الحزب يدعو إلى تغيير نمط الاقتراع لإعطاء وزن أكبر للتشكيلات السياسية الرئيسية والسماح بأغلبية أكثر استقرارًا.

يبدو هذا حلاً منطقيًا من منظور كمّي، لكنه يتجاهل مسائل التمثيل النوعي – الشرط الضروري للاستقرار السياسي. في هذا الصدد، فإن النظام الحزبي الذي ورثته تونس ولد من رحم الدكتاتورية وفي ظروف سرية. فهو ليس النتيجة العضوية للنزاعات والصراعات داخل المجتمع، بل هو نتيجة التنافسات وألعاب القوى بين طبقات النخبة المتنافسة على السيطرة على الدولة.

لذلك فإنّ الأحزاب لا تركز على مصالح الناس أو حساسياتهم. بل إنها مجرد أجهزة هدفها توزيع الوظائف والمزايا – جماعات ضغط تعمل لصالح عملاء مخفيين وسريين.

وهكذا، فإن الديمقراطية الشابة التونسية تكافح من أجل تكوين أحزاب تمثيلية حقيقية. إن توطيد نفوذ الأحزاب المنفصلة عن مجتمعها، وجعل الأمر أكثر صعوبة على القوى الجديدة لتجاوز العتبة البرلمانية، لم يؤدي إلا إلى توسيع الفجوة، وتشويه سمعة الطبقة السياسية بشكل أكبر، وإعطاء السلطة لقاعدة سياسية أضيق.

الخيار الآخر الذي يتم اللجوء إليه في كثير من الأحيان لزيادة فعالية المؤسسات هو إعادة رئاسة النظام. عادة ما يشير مفهوم النظام الرئاسي إلى النموذج الأصلي للولايات المتحدة ، حيث يختار الرئيس مسؤولي الإدارة ضمن إطار صارم لفصل السلطات. يتمتع الكونجرس بصلاحيات كبيرة ووسائل سخية ، مما يسمح له بممارسة رقابة صارمة على السلطة التنفيذية.

لكن الكثيرين يفهمون ذلك على أنه عودة إلى مركز قوة فريد باعتباره المصدر الوحيد أو الرئيسي للمشاريع والمعاملات السياسية، وغالبًا ما يكون مرتبطًا بحزب سياسي مهيمن؛ بعبارة أخرى، شكل شخصي للسلطة بدلاً من نظام رئاسي حقيقي ، والذي من أجل تجنب الاستبداد يجب أن يتضمن ضوابط وتوازنات حقيقية، مثل القضاء المستقل ووسائل الإعلام غير الحزبية.

مشروع سعيّد

يتألف مشروع سعيّد الرئاسي من “قلب هرم السلطات”. لا يكفي نظام التعددية الحزبية والانتخابات الحرة لضمان سيادة شعبية حقيقية أو لمعالجة الأسباب الجذرية للثورة، بما في ذلك الانقسامات الاجتماعية والمعاملة غير المتكافئة للمواطنين. قد يطرح سعيد هذا المشروع للاستفتاء خلال فترة صلاحياته الاستثنائية. تتمثل فكرته في استبدال المناطق بالأحزاب في اختيار المرشحين من خلال نظام انتخابي على مستوى القاعدة.

رأى البعض في سعيد تأثير الاشتراكي التحرري الفرنسي بيير جوزيف برودون في القرن التاسع عشر. لكن بالنظر إلى الأهمية التي يوليها الرئيس التونسي للدولة – بالنسبة له كيان شبه صوفي – من الصعب وصفه بأنه تحرري أو فوضوي. رأى آخرون نفوذًا ليبيًا، لكن لا أثر للمؤسسات القبلية في مشروعه.

يمكن لهذا النظام أيضًا أن يولّد انتشارًا فوضويًا لا يمكن السيطرة عليه للسلطات المحلية من جميع الأنواع التي من شأنها أن تتنافس على تخصيص الموارد.

على الأكثر، يمكن للمرء أن يجد تشابهًا مع المجالس المجتمعية التي أنشأها الرئيس السابق هوغو تشافيز في عام 2006 في فنزويلا، وهو نظام يزيل المركزية السياسية من خلال منح الناس سلطة تقرير كيفية استخدام الدخل محليًا. لكن التفصيل بين الصلاحيات الإقليمية والمؤسسات المحلية من جهة، والدولة من جهة أخرى، ليس واضحًا.

ومع ذلك، يمكن وصف هذا الخيار بأنه خيار شعبوي بالمعنى التاريخي للمصطلح، وليس بالخيار السلبي المستخدم عادةً لتشويه أي انتقاد للديمقراطية التمثيلية. إنه شعبوي لأن الهدف هو زيادة الديمقراطية، وإعطائها المزيد من الجوهريّة من خلال تحويل الناس إلى وكلاء سياسيين حقيقيين. لكن هذا المسار أيضًا محفوف بالمخاطر. إن “الشعبوية من أعلى إلى أسفل”، حيث يحتكر زعيم منتخب بانتظام التمثيل الشعبي، سيؤدي حتما إلى الدكتاتورية، بغض النظر عن حسن نية ذلك القائد.

الشعبوية الشعبية — من  الأسفل إلى الأعل، مع وجود قاعدة شعبية حقيقية، يمكن أن تنحرف أيضًا عن الديمقراطية. يمكنها تعزيز أو إضفاء الشرعية على تركزات القوة الموجودة بالفعل محليًا، أو إنشاء تركزات جديدة من خلال السماح للاعبين ذوي المواقع الجيدة بخدمة مصالحهم الخاصة.

يمكن لهذا النظام أيضًا أن يولد انتشارًا فوضويًا لا يمكن السيطرة عليه للسلطات المحلية من جميع الأنواع التي من شأنها أن تتنافس على تخصيص الموارد ، مما يجبر الدولة على السيطرة عليها بشكل متزايد، وبالتالي خسارة الهدف الأولي. باختصار، إنّ أي خيار له إيجابيات وسلبيات.

قوى راسخة

اذن، كيف يمكن كسر الجمود؟

من خلال البحث في مكان آخر وإيجاد نماذج أخرى.

كان الخطأ الرئيسي لعام 2014 هو اتباع التقليد الدستوري والاعتقاد بأنه من خلال القانون يمكن للمرء أن يغير المجتمع بأكمله. ورفض نموذج الصفحة البيضاء أن يتأثر بالخبراء الذين يقدمون نصوصًا جاهزة.

ولكن بدلاً من الصفحة البيضاء، فإن الدستور عبارة عن “طرس” [palimpsest] – نصّ تشعّبي يتضمّن نصوصًا أخرى وحتى نصوصًا فرعية ومعايير ضمنية وسلطات راسخة بحكم الأمر الواقع تديم نفسها وتستمد فعاليتها من حقيقة أنها، على وجه التحديد، ليست مكتوبة اومفصلة. على هذا النحو ، لا يمكن لأي نص ، مثل الدستور الجديد ، التراجع عنها.

نحن نتحدث هنا عن تصور كبار موظفي الخدمة المدنية لدورهم وأنفسهم؛ قنوات التأثير والأبواب الدوارة بين دوائر الأعمال والدوائر السياسية؛ السلطات المحلية التي لا تعد ولا تحصى التي يمكن ان تغير أو تحرف أو تتجاهل القرارات الإدارية أو السياسية؛ تواطؤ وفساد وسائل الإعلام بالمال؛ الطريقة التي تنخرط بها الشرطة ونظام العدالة في المحسوبية مع الإفلات الكامل من العقاب؛  الوزن المفرط لقوات الشرطة بسبب أولوية الشواغل الأمنية؛ اعتماد تونس المالي على دول أجنبية؛ خصخصة الخبرات من قبل الشركات الدولية التي تفكر جميعًا بنفس الطريقة لتحديد السياسات العامة … والقائمة تطول.

لقد فشل دستور 2014 المتجذر في الأحزاب السياسية التي كان دافعها الرئيسي هو حماية مصالحها الخاصة وتجاهل سلطات الأمر الواقع الفعلية في الوفاء بالوعود التي قطعها لثائري 2011.

نرى الآن نتيجة مثل هذه الإخفاقات. إنّ الانقسام بين المجتمع والمؤسسات التي لا تستطيع تلبية احتياجات الناس لم يكن بهذا العمق من قبل. وفي تلك الفجوة أقحم سعيّد نفسه.

تييري بريسيلون (Thierry Brésillon)

صحفي مستقل مقيم في تونس منذ أفريل 2011.

المصدر : عين الشرق الأوسط

https://www.middleeasteye.net/opinion/tunisia-should-constitution-be-revised
The gallery was not found!

Middle East Eye

https://www.middleeasteye.net/opinion/tunisia-should-constitution-be-revised