بقلم: منجي الخضراوي
يوم 25 جويلية 2021 تونس أخذت منعطفا جديدا بعد منعرج 14 جانفي 2011. الإشارة بدأت عندما أعلن رئيس الجمهورية قيس سعيد، الذي انتخبه زهاء ربع الشعب التونسي، عن تعليق أعمال البرلمان المنتخب أيضا وعن إعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي. ثمّ تولي رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية والنيابة العمومية. هل تعتبر هذه الإجراءات انقلابا؟
اعتمد قيس سعيد في إجراءاته على الفصل 80 من الدستور. الفصل يعطي رئيس الجمهوريّة الحق في اتخاذ إجراءات استثنائية في حالة وجود خطر داهم يهدّد البلاد، دون أن يعطي حصريا تلك الإجراءات. من المعروف في القواعد القانونية أنّ العبارة، إن وردت مطلقة، تؤخذ على إطلاقها.
لا يمكن فهم القرارات التي اتخذها قيس سعيد دون فهم الشروط الموضوعية والذاتية التي أدّت لها. بمعنى أنّ أي حدث تاريخي إذا لم يؤخذ في إطاره، يسقط لاحقا في النظرية التجزيئية.
السياق التاريخي
منذ سقوط نظام بن علي، كانت البلاد أمام ثلاث مقاربات: الأولى ترقيعيه، تؤمن بإعادة النظر في منظومة بن علي القانونية والسياسية وإصلاحها من الداخل. وهي مقاربة تتبناها المدرسة الدستورية وخبراء القانون الدستوري في تونس.
والمقاربة الثانية كانت تؤمن بالحل الهيكلي والمؤسساتي. أي تأمين الانتقال الديمقراطي عبر الانتخابات، وبالتالي حسم الصراعات عبر الصندوق. وهي المقاربة التي دافع عنها رافع بن عاشور، وكانت حركة النهضة تدفع في اتجاهها بعد أن علمت أنها الأكثر حضورا في الشارع أمام الأزمة التي عرفتها البلاد سنتي 2010 و2011.
أما المقاربة الثالثة فهي المقاربة الجذرية أو التي يمكن تسميتها بالمقاربة الثورية والتي اتجهت نحو مجلس للقوى الثورية يتم من خلاله إعلان خارطة طريق سياسية على أساس قاعدة الحد الأدنى الوطني ثم إصلاح مؤسسات الدولة مثل الصحة والتعليم والإعلام والنقل والاقتصاد قبل خوض تجربة الانتخابات. إذ يجب أن تتوفر نفس الشروط للجميع قبل أخذ الحسابات السياسية بعين الاعتبار. وهي المقاربة التي تمّ إجهاضها في فيفري 2011 قبل تولي الباجي قائد السبسي مقاليد الوزارة الأولى، تحديدا إثر إسقاط حكومة محمّد الغنوشي.
انتخابات أكتوبر 2011 كانت تجسيدا حقيقيا للمقاربة الهيكلية التي دافعت عنها كلّ القوى البرجوازية، باعتبارها تضمن استمرار سيطرة لوبيات التهريب والمال، وتعيد توزيع النفوذ ليشمل مجموعات أخرى. هذه المصالح يتم اقتسامها بمراعاة معطيات متعلّقة بما هو جهوي وبمسالك التهريب.
استطاعت حركة النهضة منذ فوزها في انتخابات 2011 أن تصبح اللاعب الأساسي في المواجهة السياسية التي عرفتها البلاد، وقد كانت بدايتها مرتبطة بمواصلة مواجهة الدولة رغم تموقعها الفعلي في السلطة.
أمام حركة النهضة آنذاك ممارسة سياسية محفوفة بمخاطر إدارة دولة مأزومة، مجتمعها يخلط متناقضات سوسيولوجية عميقة وعنيفة. فالمجتمع التونسي مجتمع محافظ وهو أيضا متفتّح ليبرالي حدّ العلمانية، مجتمع لا يعتبر كثيرا بالصلاة ولكنه يعتدّ بواجب الصيام، ويحتفل بالعيد – وأحيانا رمضان – عبر الجلسات الخمرية…
النهضة الحاكمة في مواجهة الدولة
لم تستطع حركة النهضة أن تجد كلمات العبور لتعقيدات المجتمع والإدارة، وبالتالي الدولة، رغم أنّ المعطى الدولي كان لفائدتها. لكن انتصارها في الانتخابات، وانتصار محمد مرسي في مصر، والإسلاميين في ليبيا، خلق بداية للشعور بمد إسلاموي في الكثير من الدول العربية. خصوصا في إطار الحرب على النظام في سوريا والثورة في اليمن…
يمكننا أن نعتبر أن حركة النهضة أصابها غرور سياسي، أدّى بها إلى التعاطي مع معارضيها على أنهم “جرحى الانتخابات ” كما كانت تقول قيادتها، أو وصفهم بأنهم جماعة “الصفر فاصل” في إشارة إلى المهزومين في الانتخابات.
حركة النهضة لم تدرك أنها أمام أجهزة دولة تشكلت وسط قيم ومناخات سلطوية autoritaire وبالتالي تحويلها إلى تشكيلات إسلاموية موالية سوف لن يمر إلاّ عبر وسائل عنيفة. لحظات اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد في فيفري 2013، ثم بعد خمسة أشهر اغتيال الناشط القومي محمّد البراهمي، أدخل البلاد في نفق غريب. بدأت أطواره باستقالة رئيس الحكومة النهضاوي علي العريض وتعيين مهدي جمعة، بعد حوار وطني ثم تنظيم انتخابات سنة 2014 أدت إلى فوز نداء تونس وحركة النهضة. سمّيت تلك الفترة بحكم الشيخين، الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي، انتهت بوفاة السبسي يوم 25 جويلية 2019، فتمّ تنظيم انتخابات سابقة لأوانها أدت إلى فوز قيس سعيد فوزا ساحقا أمام منافسيه. ثم إعادة فوز حركة النهضة في البرلمانية، مدعومة باتلاف الكرامة الفصيل الإسلامي الراديكالي، بتحالف مع حزب قلب تونس الذي يرأسه نبيل القروي.
حصان طروادة والسيناريوهات الممكنة
لقد كانت حركة النضهة مرغمة على مساندة قيس سعيد في مواجهة نبيل القروي الذي بنى حملته الانتخابية على عدائه للنهضة، وهاهو نفس المرشح الذي ساندته النهضة لتلتقيه داخل قلعة الدولة يخرجها منها مثلما جرى مع حصان طروادة.
قيس سعيد أصبح رئيسا للجمهورية بأغلبية الأصوات، كان دائما يقول خلال حملته الانتخابية إنّه لا يمتلك برنامجا وأنّ البرنامج الوحيد هو الشعب، لذلك رفع شعار “الشعب يريد”. لكنّه كان يؤمن بأن النظام السياسي الحالي هو نظام مختلّ وعليل وأنّ القانون الانتخابي هو قانون عاجز وتمييزي وغير عادل. كما كان يؤمن بالسلطة المحلية في إدارة الشأن الجهوي.
مع تمكّن قيس سعيد من جزء من السلطة التنفيذية، وتقاسمها مع حركة النهضة، وباعتبار الإشكاليات التي أوجدها الدستور وقانون الانتخاب، بدأت الخلافات تنشب حول مجالات التدخل والنفوذ.
أسقطت حركة النهضة حكومة إلياس الفخفاخ بعد أن تمّ اتهامه في قضية تضارب مصالح. فاختار الرئيس وزير الداخلية الأسبق هشام المشيشي لرئاسة الحكومة، إلاّ أنّه سرعان ما نشب الخلاف بين الرئاسة (في قرطاج)، والحكومة (في القصبة) التي كانت مدعومة (من باردو) حيث مجلس نواب الشعب الذي تسيطر عليه حركة النهضة الإسلامية وحلفاؤها.
الفصل 80 أين يكمن السرّ؟
هذا السياق السياسي والتاريخي كان إطارا عاما للأحداث التي عرفتها البلاد يوم 25 جويلية 2021، إذ استند رئيس الجمهورية إلى الفصل 80 من الدستور التونسي الذي ينص: “لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير في بيان إلى الشعب”.
السؤال هنا: كيف يمكن لرئيس الجمهورية أن يعلن عن تلك التدابير في ظل غياب المحكمة الدستورية؟
نحن أمام ثلاث إجابات دستورية قانونيّة، الأولى يمثلها أمين محفوظ ويعتبر فيها أنّ النهضة هي التي عطلت قيام المحكمة الدستورية وبالتالي عليها أن تتحمل مسؤوليتها. يعتبر أيضا أنها قامت “بتلغيم الدستور” ولكنها وقعت في الألغام التي نصبتها. فبالنسبة إليه “من حفر دستورا لأخيه وقع فيه”.
في حين يمثل الإجابة الثانية أستاذ القانون الدستوري سليم اللغماني الذي اعتبر أنه في ظل غياب المحكمة الدستورية يكون رئيس الجمهورية هو المؤتمن على حفظ الدستور وبالتالي على مسؤولية تأويله.
أما الموقف الثالث فيمثله عياض بن عاشور الذي اعتبر أنّ رئيس الجمهورية لم يحترم شروط الفصل 80 وبالتالي فإنّ ما صدر عنه هو انقلاب.
المشكل لم يكن في الجزءالأوّل من الفصل 80 بل في الجزء الثاني الذي ينصّ بوضوح أنه “يجب أن تهدف هذه التدابير إلى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال، ويُعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة. وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة”.
اعتبار مجلس النواب في هذه الوضعية في حالة انعقاد دائم، يتناقض وقرار قيس سعيد بتعليق أعمال المجلس النيابي. كما أنّ إسناد رئاسة النيابة العمومية لنفسه يعتبر بالنسبة إلى هيئة المحامين في غير طريقه لأنه يضرب مبدأ الفصل بين السلط.
إلا أنّ مبدأ الفصل بين السلط لم يتم التنصيص عليه في فقه القانون الدستوري. حتى أنّ الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو لم يطرح إطلاقا مسألة الفصل بين السلط بل تحدّث عن التمييز بينها.
طبيعة الأزمة في تونس
ومع ذلك يمكن بناء على ما ذهب إليه جلّ خبراء القانون الدستوري الجزم بأنّ قيس سعيد أصاب في جزء ولم يصب في جزء بل قد يمكن القول إنّه انقلاب “من داخل الدستور”. كان انقلابا دستوريا لم يتم فيه اغتصاب السلطة ولا افتكاكها عبر الدبابات، بل كانت إجراءات استثنائية دستورية قابلة للتأويل، ولرئيس الجمهورية سلطة هذا التأويل في ظل غياب المحكمة الدستورية.
ومع ذلك، هل مشكل تونس فعلا هو مشكل دستوري؟ لماذا يجب حل القضية حلاّ تقنيا عبر تقنيي القانون الدستوري؟
الأزمة في تونس مست كلّ البنى les structures الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وحتى القيمية. وبالتالي فإنّ الحل لا يكمن بين أسطر الدستور، فالدساتير التي لا تقدر على حماية الأوطان وجودها لا يختلف كثيرا عن عدمها. إذا رجعنا إلى بعض المعطيات الإحصائية فإننا نجد أنّ:
- نسبة الفقر تجاوزت 53 بالمائة في بعض المناطق مثل حاسي الفريد من ولاية القصرين في الوسط الغربي للبلاد التونسية (300 كلم غرب العاصمة تونس).
- قرابة 18 بالمائة نسبة الأمية
- نسبة المديونية للخارج في حدود 90 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي حوالى 100 مليار دينار (30 فاصل 3 مليار دولار).
- البطالة في حدود 17 فاصل 8 بالمائة
- عجز الميزان التجاري سلبي -1594 فاصل 8 مليار دينار
- نسبة النمو 3 سلبي (-3)
- قرابة 18 ألف تونسي ماتوا بسبب كوفيد-19
السؤال هنا هل يجب أن تنتظر تونس أكثر؟
تاريخيا، المنظومة السياسية الحالية قد استوفت شروط وجودها وبلغت بالأزمة إلى مداها ولم يعد متاحا للبلاد مخرج آخر غير إعادة الدولة إلى وجودها الآمن.
لقد أحدث قيس سعيد منعرجا دستوريا خطيرا ووجد سندا شعبيا ومدنيا كبيرا، وساندته معظم مؤسسات الدولة. وبالتالي نحن أمام عملية سياسية تاريخية تسعى إلى تصويب المسارات، ولكنها تفتقد لضمانات – طالب بها الاتحاد العام التونسي للشغل – مثل ضرورة تحديد السقف الزمني لهذه الفترة الاستثنائية والإعلان عن الأفق الانتخابي للعملية السياسية إذ لا يمكن للشعب التونسي أن يقبل بغير الانتخابات الديمقراطية الشفافة كآلية لانتقال السلطة.
صحيح أن السياقات التاريخية ومراكمة الأزمة افترض موضوعيا ما ذهب إليه رئيس الجمهورية قيس سعيد، الذي حذر أكثر من مرة حركة النهضة وحلفاءها. ولكن هنا نطرح السؤال حول أفق العملية برمتها.
المنعرج الدستوري والثأر الثوري
لقد أرغمت خصوصيات الواقع التونسي ومتغيراته وتعقيداته حركة النهضة على الخروج من أمثولات التنظيم، ضدّ إكراهات الحركة الاجتماعية والسياسية، وتحول جزء من قادة حركة النهضة إلى أغنياء وأصحاب مصالح ونفوذ، ثم تجاوزوا ما تأسسوا لأجله والتفوا حول غنيمة الدولة.
إنّ إجراءات قيس سعيد أقصتهم من مربع الاستفادة من مؤسسات الدولة وهو ما سيجعلهم أولا تحت ضغط قواعدهم بالعودة إلى روح التنظيم.من المحتمل أن تعود النهضة حركة إسلاموية، تؤمن أكثر بفكرة الجماعة والالتفاف حول تقاطعات المحنة، وهو ما سيجعلها أكثر قوة من ذي قبل.
ثانيا، سوف يتم إدراج الجيش التونسي الأكثر حرفية وحيادا والذي لم يعرف عنه تاريخيا التورط في المقاربات السياسية، ضمن لعبة موازين القوى، وسيكون لاعبا أساسيا في تغيير المعادلة. وبالتالي فإنه لا مانع تاريخيا من أن يعيد الكرّة في مناسبات لاحقة. ممّا قد يضع تونس أمام انقلاب عسكري محتمل.
ثالثا، لا يمكن وفقا لمنطق الصراع أن يعلن رئيس الجمهورية عن إجراءات بتلك الخطورة والتأثير على مجرى الأحداث. في مقابل السماح للذين يتهمهم بالتآمر على الدولة وبتدمير مؤسساتها وبالفساد، بالتعبير عن معارضتهم لمواقفه عبر وسائل الإعلام وقيادة المظاهرات المعارضة لإجراءاته. مما قد يضع السلم الاجتماعي والأمن القومي في حالة خطر.
رابعا من الضروري الإعلان ضمن هذا السياق التغييري، عن إصلاحات جذرية في القضاء والأمن والإعلام.
إنّ التاريخ أسند لتونس فرصة في سنة 2011 لإحداث مرحلة ابستيمية والقطع مع باراديقمات التسلطية والخنوع. لكن انتخاب حركة النهضة ضمن انتخابات لم تتوفر فيها شروط التنافس للجميع، رغم أنها كانت شفافة، جرت السلطات إلى العودة إلى تجويع الشعب وتهميش الجهات، واستئثار جهات وشخصيات ومجموعات بالثروة والجاه. مما قد يمكن تفسيره بالحسابات السياسية المسبقة، فالشعب في الانتخابات، وقت الأزمات الحادة، ينزاح أكثر نحو اليمين.
إنّ السياقات التاريخية والمنعرجات عبر التاريخ لا تتم بالانتخابات إنما ببرنامج وطني ديمقراطي ثوري يستطيع أن يقدّم حلولا ضمن استراتيجية استقلالية القرار الوطني، ويقدم بالتالي خارطة تحرك واضحة.
لم يعد أمام الشعب التونسي، في هذه الظروف المعقّدة، غير خيار الدفع نحو بناء دولة متينة لا غبن ولا ظلم فيها. أمام الشعب التونسي فرصة ليعطي للعالم مقاربة سياسية جديدة مبنية على الإنسان كهدف، والعلم كوسيلة.