نافذة أخرى يفتحها موقع JDD TUNISIE على التهريب، ولكن جوا هذه المرة، من خلال سبر أغوار عمليات نقل غير قانونية لسلع ومنتجات غير مصرّح بها من قبل أعوان بشركة الخطوط التونسية.
هذه العمليات تجري على متن طائرات الناقلة الجوية الوطنية ونحو أكثر من وجهة عربية أو أوروبية أو حتى أمريكية، رغم إجراءات السلامة والأمن المفترض توفرها سواء بالمطارات المحلية أو في الطائرات العمومية.
من بيروت إلى تونس
في مارس المنقضي، انصب اهتمام الإعلام التونسي وحتى العالمي على قضية تهريب السجائر إلى مدينة مرسيليا الفرنسية، والتي وُجهت فيها أصابع الاتهام الى فاعل رئيسي وهي مضيفة بالخطوط التونسية وفاعلين ثانويين وهم بعض زملائها وموظفون مغاربة بمطار مرسيليا.
ما تم الكشف عنه “ليس سوى غيضا من فيض في سجل التهريب العمومي الممنهج على الخطوط التونسية”، وفق تأكيد أحد مضيفيها الذي أطلقنا عليه اسم جاسر، وهو اسم مستعار، تفاديا لأي هرسلة إدارية قد تطاله.
يقول جاسر: “بعيدا عن التهويل، أغلب العاملين في الخطوط التونسية على علم بالعشرات من عمليات التهريب التي تتم بشكل دوري ونحو وجهات دولية بعينها”.
في هذا السياق يؤكد مصدرنا على تخصّص إحدى المضيفات، التي ارتأينا تسميتها “اعتدال”، في استغلال جل الرحلات التي كانت تؤمنها في تهريب أصناف مختلفة من السلع فقد كانت تقوم بثلاث رحلات أسبوعية نحو مدينة بيروت اللبنانية، بين سنتي 2013 و2014 آنذاك كانت اعتدال تتبادل مع زملائها كلما تم تعيينهم ضمن طاقم بيروت، ثم ما فتئت أن احتكرت هذه الوجهة مع مرور الأيام.
وقد جرى العمل لدى إدارة الخطوط التونسية على إصدار مخطط شهري للوجهات التي سيُحلّق نحوها كل طاقم من قادة للرحلات وطيارين ورؤساء قمرة ومضيفين.
خلال هذه الرحلة التي تدوم حوالي عشر ساعات، اختصت اعتدال في عمليات البيع داخل الطائرة وقد تعودت على اقتناء ما لا يقل عن 50 خرطوشة من السجائر العالمية الفاخرة من بيروت، لتواريها فيما بعد في أكياس الفضلات، ثم في عربات بيع السجائر والمشروبات داخل إحدى دورات المياه..
وحالما تستقر الطائرة بمطار قرطاج الدولي، يتم تصريف هذه السلع المهربة، دون أي مشاكل تذكر ولكن ألا يتوفر المطار على منظومة أمنية ترصد حتى دبيب النمل داخله؟
عن هذا السؤال يجيب “رائد” (اسم مستعار)، وهو طيّار سابق بالخطوط التونسية قائلا: “يفترض بعد وصول كل طائرة أن يصعد أكثر من طرف على متنها سواء كان ديوانيا أو أمنيا أو عامل نظافة أو موظفا بإدارة التموين، لهذا لا يمكن أن تخرج مسؤولية تبخّر السلع المهربة بين هذه الدائرة المغلقة”.
“نحن إذن إزاء أخطبوط محكم التنظيم ومتشعب بدءا بالإدارة وبطاقم الطائرة، مرورا بمختلف الجهات الأمنية والتموينية وصولا إلى المسافر وعامل النظافة وحتى عمال المطارات الدولية” هكذا يفصّل جاسر مختلف الأطراف المتدخلة في التهريب.
مع نهاية سنة 2014 غيرت اعتدال وجهتها وخططها، بعد أن انتبهت إلى تعقب بعض مراقبي الشركة لها.
”لقد عدنا إلى منظومة الرحلات فاكتشفنا مداومتها طيلة حوالي سنتين على السفر إلى بيروت، ما أكد لنا كل المعطيات التي استقيناها من زملائها ولكننا لم نقدر على معاقبتها، وبلغ الأمر حد هرسلة مديرها المباشر، أي رئيس القمرة بعد تقديمه شهادة ضدها،” يوضح أحد مراقبي الشركة، في تصريح لـ JDD TUNISIE.
وبروكسال ومرسيليا أيضا..
الوجهة الآن أصبحت العاصمة البلجيكية بروكسال، حيث التزمت المضيفة هدنة مؤقتة ثم استأنفت نشاطها المعتاد، مهربّة كميات هائلة من السجائر الفاخرة نحو تونس، ومغيّرة في خططها فقد باتت تعوّل على بعض المسافرين لمراوغة أعين الرقابة، إلى أن حجز أعوان الديوانة التونسية في 2018 كميات كبيرة من السجائر لدى مسافر قادم من بروكسال، فاعترف بتواطئه مع المضيفة ورغم ذلك ألقيت كل المسؤولية على المسافر ولم تُسفر أبحاث إدارة التدقيق مع اعتدال إلى أي نتيجة تذكر.
مع جويلية 2020، وبعد أشهر من ركود الحركة الجوية فرضه تفشي وباء كورونا، عدّلت اعتدال بوصلتها نحو مطار مرسيليا، مستعينة بعون أحد مديريها وعلى مدى ثمانية أشهر رفعت المضيفة من نسق التهريب.
فقد باتت تقتني ما لا يقل عن 400 خرطوشة من نوع مارلبورو من إحدى الشركات المتعاقدة مع الخطوط التونسية لبيع السجائر، ما دفعها إلى شحن أربع عربات (4chariots) بدل اثنين خلال كل رحلة.
ومع هبوط الطائرة بمطار مرسيليا، تسارع اعتدال إلى رمي الحمولة المخبأة داخل كيس أسود ليلتقطها أحد عمال النظافة بدعوى جمع الفضلات، ثم يتم اللقاء داخل المطار لتسلّم الأموال.
هذه المبيعات الكبيرة من السجائر، قدّرت بأكثر من 30 ألف دينار في الرحلة الواحدة، وهي مداخيل استثنائية تزامنت مع رحلات بعدد متواضع من المسافرين هذا الأمر لفت أحد مسؤولي إدارة التموين بالخطوط التونسية ما دفعه إلى مراسلة إدارة المضيفين للتنبيه من عمليات بيع مريبة للسجائر على متن رحلات مرسيليا، ليجد نفسه أمام عدل تنفيذ يحذّره من مغبة مراقبة المضيفة.
في البدء كان التقصير في المراقبة
وبعد أحداث مارس المنقضي، بمطار مرسيليا، وجدت الإدارة العامة للخطوط التونسية نفسها مضطرة للتعاطي الجدي مع ملف المضيفة المهربة، فتم إيقافها عن العمل وعزل الموظف المسؤول عن ضبط برامج الرحلات إجراء لم تستسغه اعتدال، محاولة عبر محاميها الضغط على الإدارة لإعادتها إلى سالف نشاطها.
اعتدال ليست سوى مجرّد حلقة في سلسلة مترابطة في شبكات التهريب على طائرات الناقلة الجوية التونسية في البداية اقتصر الأمر على إقدام بعض أعوان الأمن أو الديوانة على تهريب كميات من السجائر والخمور من مطار قرطاج لبيعها خارجه، ثم تنوعت العمليات بين تهريب السجائر والعملة والخمور ومادة “البوتوكس” والهواتف الجوالة والذهب والمواد المخدرة، من تونس وإليها.
في 2017، تم التفطن إلى تهريب كميات من السجائر برحلة ليون-تونس من قبل عدد من المضيفين وعمال النظافة وفي 2019، أوقفت الديوانة التونسية أحد المضيفين وهو بخبئ حوالي 500 ألف أورو تحت ثيابه، ما أسفر عن إيقافه عن العمل..
ولدى اتصال موقع JDD TUNISIE بالمكلفة بالعلاقات مع المواطن جميلة الدشراوي بحثا عن إجابة مقنعة عن تفشي ظاهرة التهريب في صفوف بعض أعوان الناقلة الجوية، وعدتنا بالتواصل مع الإدارة العامة لتنظيم لقاء مع أحد المسؤولين. وبعد مرور أكثر من أسبوعين ظلت أسئلتنا دون إجابة تذكر.
وكانت التفقدية العامة للنقل قد أجرت عملا رقابيا متعلقا بمعالجة الأمتعة بالمطارات التونسية، خلص إلى اقتراح 15 نقطة متصلة بالسلامة والأمن من بينها تفعيل منظومة التكوين في مجال الطيران وتركيز كاميرات بجميع نقاط العبور بالمطارات وتشديد مراقبة دخول وخروج مختلف العربات إلى المطارات..
ورغم ما تتخبط فيه الخطوط التونسية من مديونية فاقت الفي مليون دينار وتدني الخدمات وتقادم الأسطول، لا تزال تعاني من تفاقم التهريب في انتظار إجراءات ردعية وحاسمة مع شبكات تمس من صورتها وتسيء إلى صيتها، في ظل منافسة محتدمة مع ناقلات دولية عملاقة