بقلم العميد عبد الستار بنموسى
II) القطاع البنكي والانتقال الاقتصادي والاجتماعي :
1) هل ساهم القطاع البنكي في دعم التنمية :
تتحمّل البنوك في مختلف أنحاء العالم مسؤولية كبرى في الأوضاع الاقتصادية فهي التي تساهم في التنمية طالما شجعت الاستثمار الذي من شأنه أن يوفر الثروة ويخلق مواطن الشغل وهي التي تضمن التوازن بين التيار النقدي والعيني في الاقتصاد من خلال قبول مدخرات وودائع القطاعين الخاص والعام لتحولها إلى قروض وإمدادات للاقتصاد الوطني قصد تمويل المشاريع الاستثمارية المجدية من خلال ما توفره للاقتصاد الوطني من تسهيلات ائتمانية وقروض مصرفية فإنها تلعب دورا أساسيا في التقدم الاقتصادي للأمم وكلما تطور الاقتصاد ازدادت أهمية دور البنوك.
حتى يقوم القطاع البنكي بدوره الناجع لابدّ أن يتمتع بالمتانة والقوة خاصة فيما يتعلق بالسيولة الربحية ليصبح المحرّك الرئيسي لعجلة التنمية الاقتصادية ويوفر باستمرار ما تحتاجه الشركات والمؤسسات والأفراد من سيولة لتمويل مشاريعها وأنشطتها وحتى يتحمل الصدمات والمخاطر الاقتصادية الداخلية والعالمية عند حدوثها.
لقد أثبتت العديد من الدراسات التي قام بها خبراء في الاقتصاد بأن مشاركة البنوك العربية في التنمية الاقتصادية أقل من مؤشر المتوسط العالمي فاقتصاديات العالم العربي لا تزال متواضعة مقارنة بالمستوى العالمي خاصة وأن أسواق الأوراق المالية من أسهم وصكوك وسندات مازالت صغيرة وذات مساهمة محدودة في تمويل المشاريع الحكومية والخاصة من خلال تحويل أموال المستثمرين إلى المؤسسات والشركات قصد مساعدتها على تنمية نشاطها وزيادة صادراتها بهدف تحسين وضعية الميزان التجاري لصالح الدول. كما أن الأسواق المالية بالوطن العربي لم تتمكن من جلب الرأسمالي الأجنبي لتمويل المشاريع الوطنية في القطاعين العام والخاص وهو ما أدى إلى بقاء الاقتصاديات العربية صغيرة مقارنة بعديد الاقتصاديات على المستوى العالمي.
بالنظر إلى ضعف الأسواق المالية يبقى الأمل معلقا على البنوك لتنمية الاقتصاديات العربية، إلاّ أن البنوك المركزية في الوطن العربي لم تستطع توفير بيئة صحية لنمو البنوك المحلية وجعلها قادرة على منافسة البنوك الأجنبية فمن خلال دراسة أجراها عميد كليّة الاقتصاد بسلطنة عمان اتضح أن أكبر بنك عربي وهو بنك قطر الوطني حلّ في المركز 162 عالميا وبالتالي فإن البنوك العربية ليست بالكبيرة على المستوى العالمي فهي متوسطة أو صغيرة ويبقى دورها في دعم تنمية الاقتصاديات العربية محدودا جدّا.
أمّا القطاع البنكي التونسي فقد ظلّ عاجزا عن أداء دوره المنشود في تمويل الاقتصاد إذ بقيت مساهمته دون المعدلات المسجلة على النطاق العالمي وحتى على النطاق العربي وأصبح مهددا بعدّة مخاطر في علاقته بالوضع الاقتصادي الوطني والعالمي.قد ساهمت عدّة عوامل في تفاقم ذلك الوضع مثل نقص السيولة بالدينار والعملات الأجنبية وضعف الودائع والمضاربة وارتفاع نسبة الفائدة (7.85 بالمائة) كما أن توزيع القروض كان يتمّ في الغالب طبقا لإملاءات السلطة وإن إسنادها لغير مستحقيها صعّب لاحقا مهمّة استرجاعها. إن العبرة ليست في كثرة البنوك بل في جدواها فعددها في تونس ضخم جدا إذ يبلغ 30 بنكا (23 بنك مقيم و7 بنوك غير مقيما) لحوالي 11 مليون ساكن في حين أن عدد البنوك في المغرب لا يتجاوز 11 لحوالي 35 مليون ساكن. أما بالنسبة للبنوك التجارية فإن هناك 4 بنوك كبرى تتصرف في 61% في الأصول المصرفية و6 بنوك متوسطة الحجم تملك 34% و11 بنك صغير الحجم بحصّة 15% من إجمالي الأصول. هذا وقد ساهمت البنوك العمومية منذ الاستقلال في تمويل التنمية مثل الشركة التونسية للبنك أو في دعم الفلاحين مثل البنك الفلاحي أو في إسناد القروض السكنية مثل بنك الاسكان.
لقد أكدّ البنك المركزي التونسي في نشريته عدد 208 الصادرة في شهر اكتوبر 2018 بأن سياسة القروض في بلادنا اقصائية تجاه الأسر والأفراد والشركات المتوسطة والصغرى. فالقطاع الفلاحي لم يتحصل إلا على نسبة 4.2 بالمائة من القروض وهو ما يمثل 9.5 بالمائة من الناتج المالي الإجمالي. إنها نسبة من القروض مخصصة في أغلبها للموردين لمستلزمات القطاع الفلاحي من آليات ومكننة وبذور ومبيدات وأدوية وحيوانات كالأبقار وغيرها.
إن الفلاح المنتج سواء كان فردا أو شركة لا يتحصل إلا على نزر ضئيل من القروض الموسمية أو قصيرة المدى غير كاف لتطوير الانتاج ودعم التنمية.
أما القطاع الصناعي بفرعيه العمومي والخاص فإنه لم يتحصل إلاّ على نسبة 37.6 بالمائة من مجموع القروض الموزعة على المهنيين والمؤسسات. إمّا قطاع الخدمات فهو الذي تمتع بأغلبية نسبة من القروض 38.2 بالمائة وجزء كبير منها مخصص للتوريد.
أمّا على مستوى القطاعين العام والخاص فإنه القطاع العمومي يأتي في أسفل سلم ترتيب القروض البنكية. حيث أنه لم يتحصل لفائدة مختلف أنشطته بما فيها الصناعية إلاّ على نسبة 57.8 بالمائة فيما استفرد القطاع الخاص بنسبة 92.2 بالمائة من القروض
إن دور البنوك العربية كمحرك للتنمية الاقتصادية يبقى رهين نسبة الفائدة التي تؤثر بتغيراتها على السياسة النقدية وعلى مسألة تحقيق النمو والتوازن.
هناك نسبة الفائدة على الودائع التي تختلف بين دولة عربية وأخرى وتعتمدها البنوك بالإضافة إلى التكاليف التشغيلية ونسبة مئوية المخاطر وهامش الربح لتحديد نسبة الفائدة على القروض.
إن نسبة الفائدة عل القروض عالية في عديد من الدول العربية كاليمن ومصر وتونس وهي لا تشجع الاقبال على القروض ودفع عجلة التنمية الاقتصادية بخلاف دول الخليج التي استفادت من انخفاض نسبة الفائدة على القروض لتنمية اقتصادياتها.
إن نسبة الفرق بين نسبة الفائدة على القروض ونسبة الفائدة على الودائع في العالم العربي أقل من المتوسط العالمي علما بان نسبة الفرق بين الفائدة على القروض ونسبة الفائدة على الودائع في الولايات المتحدة الامريكية وأوروبا والدول المتقدمة عموما أقل بكثير من متوسط الفائدة في الدول العربية وهو ما يساهم في تطوير اقتصادياتها .
لقد أثبتت التقارير الرسمية للجنة تقصي الحقائق لسنة 2011 أو تقرير البنك الدولي (الثورة غير المكتملة) سنة 2014 أن القطاع البنكي أنهكته آليات الفساد المالي طيلة فترة 1987/2010 وجعلته هشّا إذ بلغت ديونه 2.6 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي لسنة 2013 أي ما يقارب 1954 مليون دينار.
إن دور البنوك المركزية لا يقتصر على اقتراح القوانين المتعلقة بالمنظومة البنكية والحرص على تطبيقها بل يجب أن يركز على حثّ البنوك التجارية حتى يقوم بدور أكبر في المجال الاقتصادي من خلال تمويل المؤسسات الاقتصادية المختلفة.
لقد اتضح جليا في مختلف أنحاء العالم أن بنوك التنمية في حاجة إلى تبني منهج عمل جديد وناجع بعيدا عن التأثير السياسي وفي إطار الشفافية والمسؤولية منهج عمل يركز على المجالات التي يغيب فيها القطاع الخاص، منهج عمل جديد يهدف إل تحسين كيفية تعبئة رأس المال الخاص وتشجيع الادخار من خلال تحسين نسبة الفائدة قصد دعم وتمويل المشاريع الصغرى والمتوسطة . وفي هذا الإطار نظّم البنك الدولي في شهر ديسمبر 2020 اجتماعا مع بنوك التنمية في مختلف أنحاء العالم قصد مراجعة مواقفها وأنشطتها حتى تؤدي دورا أساسيا في مراجعة مصاعب الحصول على التمويل اللازم للوفاء بالتزاماتها وتحقيق التنمية المستدامة واستقطاب تمويل القطاع الخاص حتى تصبح بنوك التنمية حلقة أساسية لإقامة شراكات بين القطاعين العام والخاص لتمويل مشاريع البنية الأساسية في المقام الأول.
يحرص الفكر النيوليبرالي دوما على تقييد الإدارة الجماعية لصالح الإدارة الفردية ومن أجل ذلك يدفع بالأنظمة إلى اعتماد فصول بدساتيرها وقوانينها تضمن تطبيق الاختيارات النيوليبرالية والحفاظ على التوازنات الكليّة تضبط نسبة العجز في الميزانية التي لا يمكن تجاوزها وإقرار استقلالية البنك المركزي وهو ما أقرّته عديد الدول النامية كالمغرب أما في بلادنا فلا دستور 1959 ولا دستور 2014 أقرّ مثل تلك الخيارات كما أنه لم يقع تقنين مسألة استقلال البنك المركزي إلاّ سنة 2016.
لم يقع إصلاح المنظومة البنكية في بلادنا رغم توالي الحكومات والبرلمانات إلى غاية شهر افريل 2016 حيث تمّ إصدار القانون الأساسي عدد 35 لسنة 2016 المؤرخ في 25 أفريل 2016 والمتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي والقانون الأساسي عدد 48 لسنة 2016 المؤرخ في 12 جويلية 2016 والمتعلق بالبنوك والمؤسسات المالية.
فهل تغيّر واقع المنظومة البنكية بتونس وأصبحت محّركا للتّنمية ؟
بقلم العميد عبد الستار بنموسى