قبل أربعة أيام أعلنت حكومة هشام المشيشي عن حزمة من الإجراءات المتعلقة بحجر صحي لمدة أسبوع كان من بينها غلق كل الأسواق الأسبوعية واليومية باستثناء محلات تجارة المواد الغذائية ثم تراجعت الحكومة لتصدر بيانا عبر وزارة التجارة شدد البيان على أن المغازات التجارية الكبرى غير معنية بهذا الحجر في المقابل تم التضييق على صغار التجار وتدخّلت السلطات لمنع فتح العديد من المحلات في مدن مختلفة في حين تمرد العديد من صغار التجار فيما يشبه العصيان المدني.
لقد تم فسح المجال للحيتان الكبرى للتمعّش أكثر من هذا الغلق الكلي للبلاد، بينما بقيت المحلات الصغرى تواجه مصيرها وحدها دون أي إجراءات مصاحبة قد تشد من إزرها المالي، هو إذن اقتصاد ريعي بامتياز بات مترنحا جراء استناده على عناصر ثلاثة: احتكار للثروة والمحسوبية المقيتة والليبرالية الموجهة نحو خدمة مصالح بعينها.
خيارات التبجيل والتهميش
يقول الأستاذ الجامعي والخبير الاقتصادي مصطفى الجويلي:”السياسة الاقتصادية التونسية تم إرساؤها منذ أكثر من ستين سنة فكانت خيارات السلطة لا وطنية ولا شعبية وغير معنية بالعدالة الاجتماعية لذلك كان يتم تبجيل بعض المجموعات والعائلات ثم اتضح المشهد أكثر منذ الثمانينات بالتزامن مع التوجه نحو الخوصصة والليبرالية واقتصاد السوق”.
بعد عشرية كاملة من سقوط نظام بن علي، لم يتغيّر المشهد كثيرا بقدر ما تغيّر الفاعلون لا بل تعمّقت الفوارق أكثر من جهة تستأثر قلّة قليلة بأغلب الثروات ومراكز القرار والنفوذ والحظوة والامتيازات والتشريعات وتتموقع على السواحل ومن جهة أخرى تحاذي الأغلبية الحدود الجنوبية والغربية، ويستقر بها السواد الأعظم، باقيا في آخر اهتمامات الدولة لقد عوّض غياب الدولة عن توفير مواطن الشغل وتشييد بنية تحية لائقة ورعاية صحية تحفظ كرامته، بالتوجه نحو خلق مواطن شغل خاصة به انغمس في الاقتصاد الموزي إنه التهريب.
قبل ثلاث عقود، كان التقرب من نظام بن علي ومن أصهاره النافذين هو السبيل إلى ضمان موطأ قدم في النسيج الاقتصادي المهيكل في أغلب الأحيان حينها تمتعت مدن بعينها على الشريط الساحلي ببنية تحية ونسيج مؤسساتي ودعم مالي.. ثم ما فتئ بعض رجال الأعمال أن خاض غمار تهريب شتى البضائع مستغلين علاقاتهم الوطيدة مع بعض المنتسبين للديوانة التونسية.
في الجانب الآخر من نفس البلد كانت “مناطق الظل”، هي الوسم الذي تم ربطه، بمدن تبحث لها عن سبل للتعايش مع الأوضاع المزرية فانتعشت التجارة البينية والموازية مع الجوار الليبي والجزائري في هذه التخوم المتروكة فأصبحت تونس تونسان واحدة معترف بها والأخرى متعايش معها باحتراز.
سلطة مُسدي الخدمات
اليوم انقلبت المعادلة وأصبح محترفو السياسة يتسابقون للبحث عن محاضن مالية واقتصادية داعمة لهم.
“لقد أضحت اللوبيات المالية هي المتحكمّة في التعيينات السياسية بل تحوّل من في السلطة إلى مجرد مسدي خدمات للماسكين بزمام المنظومة الاقتصادية” هكذا يعلّق الخبير الاقتصادي جمال العويدي في تصريح لـ JDD. ويستدرك: “هذه السلطة ما تنفك تكيل بأكثر من مكيال حالما يتعلق الأمر باقتصاد الريع”.
في الأثناء تعاني الميزانية من عجز في حدود 32 مليار، بلغت المديونية مستويات عالية إذ بلغت خدمة الدين حوالي 16 مليار دينار وقفز التضخم إلى حدود 5 بالمائة.
في نفس السياق يشير تقرير صادر عن مجموعة الأزمات الدولية إلى “صعود لافت لرجال الظل ممن يحركون خيوط اللعبة السياسية في الكواليس ويشرفون على المفاوضات السرية، على غرار تلك المحادثات التي دارت بين رئيس حركة النهضة راشد الغنونشي والرئيس السابق الباجي قائد السبسي.”
اللوبيات أولى بالثروات
وفق معطيات وتقارير من داخل العديد من الوزارات، أصبحت كل سياسات التوريد والتصدير والدعم والصفقات العمومية والسياحة والمنح الموجهة للشركات والخدمات والتراخيص وغيرها، منصبّة أساسا على الاستجابة لمتطلبات مجموعات دون غيرها.
تكشف وثيقة حصل عليها موقع JDD من شبكة تونس للتجارة، بعد معالجة عينة من المطالب، أن 65 بالمائة من الشركات التونسية لا تحصل على ترخيص للتوريد من وزارة الصناعة إلا بعد مرور أسبوعين من تقديم الطلب بينما تتوزع باقي النسب بين 23 بالمائة للمطالب المعالجة في أسبوع و10 بالمائة للمطالب المعالجة في أكثر من عشرين يوما و1 فاصل 6 بالمائة يتم معالجتها في نفس اليوم.
وقد سبق لسفير الاتحاد الأوروبي بتونس باتريس بيرغاميني أن أشار بالبنان إلى ما أسماه “لوبي العائلات الرافض لاي منافسة من صغار المستثمرين” ما يفتح الباب أمام الفساد والرشوة والسوق السوداء.
وعوض الذهاب مباشرة إلى أصل الداء، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه واستعادة تونس المستباحة والواقعة تحت براثن مجموعات احتكارية ومراكز قوى خارجية، باستعادة سيادتها، يصرّ مختلف المتردّدين على السلطة على رهن مستقبل أجيال بأسرها بوضع رقبتهم تحت وصاية مختلف المانحين الدوليين.