كتب: عبد الحميد الجلاصي

خلال سبعين عاما كانت فلسطين حادي القافلة ،
وكانت هي ضميرنا الإنساني وامتحاننا الاخلاقي
وكانت هي امتحان انتمائنا الديني و الثقافي و الحضاري .
و كانت هي عقلنا الاستراتيجي وبوصلتنا السياسية
و كانت قبل كل ذلك هي من يعلمنا الحس السليم وبديهيات الحياة .

*فلسطين خزان الحكمة ومعلم التاريخ :

وبديهية البديهيات ان الحقوق لا تسقط بالتقادم .
قد يستمر الاحتلال سنة ،او عشرا، او قرنا، او قرنين، ولكنه في النهاية ينتهي و يمضي .واثناء ذلك يتعب كثيرون ويعجزون عن تحمل اعباء الطريق ،ويشك كثيرون ويستسلمون للغة الواقع و الحكمة و البراغماتية ،ويدخلون سوق التنازلات ،وهي بئر ما لها من قرار ،الداخل فيها مفقود ،ولا خروج منها .
وحدهم الذين يسلمون بالبديهيات ويستفتون حسهم السليم يعرفون الطريق ،ووحدهم الذين يوقنون ان استرجاع الحقوق يتطلب أثماناً يسلمون من غواية الاوهام ، ووحدهم الذين يدفعون الثمن من دموعهم وعرقهم ودمائهم يصنعون التاريخ ،و لا يفعلون ذلك وهم يتشمسون على الشواطيء .
فهم يجيدون تقنية الكر و الفر ،وترويض الزمن،وملاعبة الافاعي ،و لا يبخلون في سبيل ذلك بشيء .يدركون موازين القوى ويعتبرونها موضوعا للتغيير لا اداة لشل الارادة، و يفرقون بين مراعاة تلك الموازين و بين الاستسلام لها،فهم جزء من المعادلة ومحرك من محركاتها .ولا يزعجهم الصبر فهو صديق الثوار .
كل المقاومين على مر التاريخ كان لديهم ما يشبه يقين الأنبياء .
هكذا كان الجزائريون وشعوب افريقيا وهم يقاتلون فرنسا المتغطرسة ،و هكذا كان الفيتناميون و هم يقاومون الأمريكان ،و الأفغان وهم يتصدون للإمبراطورية الحمراء

*فلسطين الضمير :

كلنا لآدم و ادم من تراب .الطين الأصلي يسوي بيننا ،والاستعمار ينفي إنسانيتنا ،فهو يشوه المحتل الذي يستعبد غيره ،و يشوه الذي يخضع لشروطه فلا يقاومه ،و يشوه ايضا الذي يتواطؤ معه بالصمت او بالتبرير .
وحده الموقف المقاوم هو الموقف الإنساني ،ووحده الموقف الرافض و المعلن والصريح هو الموقف الاخلاقي .
فلسطين و الاقصى و الشيخ جراح و اطفال غزة امتحان لإنسانيتنا ولجوهرنا الاخلاقي .هكذا بكل بساطة .

*امتحان الانتماء :

لا يوجد انسان خارج الزمان و خارج المكان .فالانسان هو ابن الطين و ابن الجغرافيا ، والجغرافيا يصنعها التاريخ و تكيفها الثقافة .
الانسان كائن منتم بالضرورة ،والانتماء مسالة تتجاوز ظاهر المعتقدات لتغوص أحشاء الكينونة و في اعماق الاحاسيس و المشاعر، و ترتبط اشد الارتباط بالامكنة و الاحداث والعلامات و الرموز .
قبة الصخرة، و الاقصى المبارك و القدس الشريف ،وكما الكعبة المعظمة و المدينة المنورة ، وكما القيروان و دمشق وبغداد والقاهرة وفاس واستانبول وكما سير الأنبياء و القادة العظام ،
ليست ملكا للمتدينين فقط و لا لاهلها فقط ،لقد صنعت مزاجا و خيالا ووجدانا ،وما يحدث اليوم يعدامتحانا لعمق وصدق انتمائنا .والانتماء ليس ادعاء ،انه اعباء و تكاليف .

*فلسطين البوصلة السياسية وخارطة الإنقاذ :

في كل محطات الجزر التي اعترضت وعينا واصطدمت بها ارادتنا العربية خلال النصف القرن الماضي كانت فلسطين هي المنقذ تمد لنا يدها لتعدل البوصلة و لتعيد ترتيب اذهاننا .
لقد أعطتنا فلسطين كل شيء ..في الهزائم و الانكسارات دفعتنا الى مراجعة افكارنا ،كما أنقذتنا الانتفاضات من مهاوي الياس و الاحباط .
لذلك فان الوقوف مع فلسطين اليوم ليس من اجلها بل من اجلنا نحن .
لفلسطين ابطالها الذين عركتهم تجارب وصيغ النضال جيلا بعد جيل ،و هم الان بصدد صياغة الاستراتيجيات المتناسبة مع الاوضاع الجديدة و مع التطورات التكنولوجية .و أعظمها المقاومة الشعبية الواسعة و طويلة الامد وتوحيد الساحة الفلسطينية بساحاتها الخمس في القدس وغزة و الضفة وأراضي 48 وفلسطينيي الشتات .
غير ام مقاومة الاحتلال ليست مناظرات في مدرجات الجامعات ،ولذلك تبدع المقاومة في كل المجالات وتفاجئه الصديق و العدو وتجبر الجميع على مراجعةالحسابات.

إن وقوفنا مع الشارع و المقاومة في هذه المعارك هو سياسيا من اجلنا نحن

فمنذ أن وطئت حوافر خيول نابليون ارض مصر سنة 1797 دخلنا تاريخيا معركة جديدة ،هي معركة الاستقلال /الاستعمار ،ولحد الان لم نغادر مربعات تلك المعركة وعنوانها الابرز اليوم هي فلسطين ،وعندما تتغشانا الغفلة تاتي فلسطين الضمير لتذكرنا .
ان الثورات التي اندلعت سنة 2011 في منطقتنا العربية كانت محطة جديدة في هذه المعركة الكبرى وتقويما جديدا في تاريخنا المعاصر .و بقدر ما عكست الانطلاقة المتزامنة والسريعة عمق المشاعر الوحدوية فان انتكاسة صائفة 2013 وذروتها الانقلاب المصري قد أغرقت كل بلد في مشاكله الخاصة ونجحت في ترويض القوى الجديدة وتمييع بصمتها الوحدوية كما أضعفت اهتمامها بفلسطين .
المؤسف انه بقدر ما تتعزز التكتلات في العالم و في المحيط العربي بقدر ما تضمر ابعاد التنسيق و التكامل بينهم ،و ان الانتباه لهذه الابعاد ليس ترفا و لا فضيلة اخلاقية بل هي قضية حياتية دون لا يمكن ان نضمن الحد الأدنى من وجودنا كعرب .
ان التموقع في الساحة الدولية و في الاسواق العالمية هي حرب ناعمة متعددة الابعاد ،و لقد نجح “شركاؤنا ” في فرض استراتيجيتهم في تفاوض نخوضه منفردين وغالبا ما نكون متنافسين .


ان ما يفعله الشباب الفلسطيني و كل المقاومين حين يعضون على كل شبر من ارضهم و مقدساتهم هو تذكير لنا بالحقائق وازالة للغشاوات و الاوهام عن اعيننا .
واهم من يتصور انتهاء معارك الاستقلال ،وواهم من يتصور تنمية وطنية دون حد ادنى من التنسيق و التعاون و التكامل ،وواهم من يتصور نهاية نهم السيطرة وجشع الربح عند الشركاء .
وهكذا يعيدنا المستوطنون الى حقائق الارض ،فلا يوجد احتلال ناعم ،انما يحدث جريم اقتلاع .
وهكذا يرسم لنا الأطفال والشباب و الشيوخ و النساء الطريق الوحيدة الممكنة ،طريق المقاومة،وهي
وصفة تاخذ تلوينات مختلفة حسب الاوضاع .فهي معركة تحرير في فلسطين ،و هي معركة اخراج الأجانب في عدد من مناطق التوتر ،و هي معركة استكمال الاستقال و تحرير القرار الوطني في غيرها .وهي كلها معارك متكاملة و تتبادل التاثير .
المقاومة تنوب عنا في الجبهة المتقدمة ،فلا اقل من ان نؤدي دورنا في الدعم و الاسناد بما يليق بتونس الثورة و حسبما تتيحه اوضاع الجائحة في استراتيجية يتكامل فيها الشعبي و المدني و الشبابي مع الموقف الرسمي .

عبد الحميد الجلاصي