بقلم العميد عبد الستار بنموسى

رغم الوعود المقدمة والنصوص التشريعية الصادرة والجهود المبذولة لتحديث الإدارة وتحسين العلاقة بينها و بين المواطن بقيت الوضعية دون المأمول.

العلاقة بين المواطن والإدارة بقيت متأزمة :

            رغم الآليات والأطر المحدثة كميثاق المواطن وفريق المواطن الرقيب ورغم المعلقات الترحيبية مثل “مرحبا” و”الإدارة في خدمة المواطن ” فقد ظلت العلاقة بين الطرفين متأزمة  حيث يمضي المواطن أوقاتا طويلة في الركض بين أروقة الادارات والوقوف في الطوابير الطويلة  للحصول على معلومة أو لإستخراج وثيقة أو لتقديم ملف أو لخلاص فاتورة ماء او كهرباء أو لخلاص المعاليم البلدية أو الآداءات الضريبية او لإرسال حوالة بريدية. كل الادارات المعنية تعاني من الاكتظاظ والطوابير وهي مظاهر تؤدي غالبا إلى تدهور العلاقة بين المواطن وأعوان الإدارة و كثيرا ما تدفع المواطن إلى إتباع المسالك الملتوية للحصول على مبتغاه.

هيكلة مترهلة وبيروقراطية متأصلة :

            رغم أن الدستور الجديد تبنى اللامركزية منهجا فإن الإدارة التونسية مازالت تعاني من المركزية المفرطة والمرضية كما أن مجلة الجماعات المحلية لم تجد طريقا إلى تنفيذها ولم تصدر الأوامر الترتيبية المتعلقة بها كما أن مجلة التهيئة الترابية والتعمير مازالت تنشد المصادقة عليها. للبيروقراطية مظاهر متعددة ومتأصلة في الإدارة التونسية أبرزها التعقيدات الإدارية التي يصطدم بها المواطن عند تعامله مع الادارة ، حيث أنه عندما يريد الحصول على خدمة إدارية و لو بسيطة يجد نفسه مطالبا  بتكوين ملف يحتوي على حزمة من الوثائق، وقصد استخراج وثيقة من تلك الوثائق يجد نفسه مجبرا على اتباع إجراءات متشعبة أمام عدّة مصالح متداخلة .في هذا المضمار بقيت العديد من مصالح المواطن تخضع للرخص وتستوجب حزمة من الأوراق وتخضع للسلطة التقديرية للإدارة و قد تؤدي تلك السلطة إلى التعسف في إستعمال الحق.

            المظهر الثاني للبيروقراطية هو البطء الملحوظ في دراسة الملف والبت في المطالب المتعلقة بها فالإدارة غالبا متمسكة بتراتيب بالية تتنافى مع السرعة والنجاعة في معالجة الملفات وقد تضيع مصلحة المواطن وملفه مازال على بساط الدرس.

            لقد أصبحت البيروقراطية الخبز اليومي للمواطن يعاني منها يوميا في مختلف الإدارات المركزية والجهوية والمحلية وفي المستشفيات والمحاكم والمؤسسات العمومية كالصناديق الاجتماعية  والبريد والقباضات المالية ومؤسسات الماء والكهرباء يعاني منها المواطن في حياته وأهله بعد وفاته.

            إن للبيروقراطية نتائج وخيمة على النمو الاقتصادي حيث تؤدي  إلى عزوف المستثمرين على بعث مؤسسات اقتصادية جديدة أما المستثمرون الأجانب فكثيرا ما حولوا مشاريعهم و نقلوا مؤسساتهم من بلادنا بفعل التراخي والتعقيدات إلى الخارج حيث وجدوا التشجيع والتسهيلات.

رقمنة الإدارة دون المأمول :

            رغم المجهودات التي تم بذلها والأموال التي تم صرفها لتوفير تقنيات الاتصال الحديثة فقد ظلت عملية رقمنة الإدارة تسير ببطء شديد ولو أن التصرف في المساعدات الاجتماعية التي تمّ تأمينها بين القطاع البنكي بالاشتراك مع وزارة تكنولوجيات الاتصال  وبالتعاون مع الوزارات والهياكل العمومية والخاصة كانت مثالا حقيقيا للنجاح في تحقيق التحوّل الرقمي  أثناء جائحة كوفيد حسب تأكيد  السيد مروان العباسي مدير البنك المركزي الذي لاحظ بأن الوقت حان اليوم لمواصلة مسار الرقمنة  وتوسيعه ليشمل الأدوات  المالية إلا أنه لم يبلغ مرحلة النضج الرقمي.إن الميدان الوحيد الذي نجحت فيه الرقمنة هو التجارة الالكترونية التي انتعشت و بفضلهاسحب الاقتصاد الرقمي البساط من الاقتصاد التقليدي في الميدان التجاري.

            إن عملية الرقمنة تواجه عدة صعوبات أهمها عدم الاعتناء بالمواقع الالكترونية  للإدارات والمؤسسات فأغلبها غير محينة  وبعضها خارج الخدمة كما أن وسائل الولوج إلى المواقع والمنصات الالكترونية غالبا ما تكون معطبة أو غير مشغلة أمّا الهواتف فكثيرا ما تكون خارج الخدمة أو لا تجد من يتلقى المكالمات ويرشد أصحابها.

إصلاح الوظيفة العمومية : الوعود كثيرة والانجازات قليلة :

            يؤكد كل وزير جديد للوظيفة العمومية على أهمية إصلاح الوظيفة العمومية  ويقدم استراتيجية متكاملة لكنها تبقى تراوح مكانها. فالوظيفة العمومية التي وقع إغراقها منذ عهد حكومة الترويكا أصبحت تعاني الاكتظاظ وفي المقابل تشكو من قلة الانتاج وانعدام المردودية وتفشي الفساد. وفي هذا المضمار كثيرا ما تؤكدّ الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أن عددا من الوزارات لم تتخذ الاجراءات اللازمة في شأن المؤسسات العمومية التي ثبت تورط أعوانها في فساد إداري ومالي.

كما أن الموفق الإداري لا يجد أجوبة مقنعة من الإدارات المعنية حول شبهات الفساد المشخصة بالملفات الواردة عليه.

            لمقاومة التضخم وتلافي الاكتظاظ سعت الحكومة إلى إعداد إطار تشريعي يتعلق بإعادة انتشار الأعوان العموميين بهدف تحقيق التوازن بين الإدارات المركزية من جهة والإدارات الجهوية والمحلية من جهة أخرى على مستوى الموارد البشرية وإلى حدّ الآن لم تشهد تلك الاجراءات الاصلاحية تفعيلا على أرض الواقع.كل الائتلافات الحاكمة  تؤجل الإصلاحات ولا تريد أن تتحمّل تبعاتها في المحطات الانتخابية التالية.

لقد صدر بتاريخ 23 جانفي 2018 القانون عدد5 المتعلق بالمغادرة الإختيارية للأعوان العموميين إلا أن الحكومة لم توفق في تحقيق أهدافها المتعلقة بتقليص عدد الموظفين قصد التحكم في كتلة الأجور طبقا لإملاءات صندوق النقد الدولي و تعهد الحكومة التونسية إذ أن عدد المستفيدين من المغادرة الإختيارية للوظيفة العمومية لم يتجاوز 6600 موظف في حين كانت التوقعات تتراوح  بين 10 و 15 ألف موظف و يعود ذلك سواء إلى عدم تحمس الأعوان العموميين للمغادرة الإختيارية أو لتمسك بعض الوزارات بأعوانها و رغم فشل ذلك البرنامج أعادت الحكومة الحالية إقتراح برنامج جديد للمغادرة الإختيارية تم طرحه صلب وثيقة الإصلاحات المطروحة من المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. إن العبرة ليست في القوانين بل في إنفاذها و العبرة ليست في البرامج بل في تنفيذها.

الإدارة العميقة تعرقل الإصلاح الإداري :

            مازالت الإدارة التونسية تشتمل على موظفين وأعوان أصحاب كفاءة وضمير مهني يجتهدون في خدمة المواطن ويخلصون في عملهم ويصدقون في قولهم إلاّ أن تلك الفئة المتميزة بدأت تتقلص من سنة إلى أخرى وتترك مكانها إلى عديد الأعوان الذين تنقصهم الخبرة و الكفاءة.

            إن إصلاح المنظومة الإدارية والوظيفة العمومية كثيرا ما يصطدم بمقاومة سلبية صادرة عن الإدارة العميقة داخل البيروقراطية الإدارية. ترجع هذه المقاومة إلى عدة أسباب أهمها خوف الموظف من فقدان امتيازات بفقدان الوضع القائم، فالإدارة العميقة تتصدى لكل جهود الاصلاح من خلال عملها عل جعل عمليات الاصلاح مجرد اجراءات إدارية روتينية لا تجدي نفعا والانحراف بها. هدفها الأصلي من ذلك حرمان المواطن من الوصول إلى المعلومة  طبقا للقانون الجديد حسب تقرير هيئة النفاذ إلى المعلومة أو عدم التفاعل مع هيئة مقاومة الفساد أو الموفق الإداري وقد تضمنت التقارير السنوية الصادرة  عن هذه المؤسسات ما يؤكد ذلك. وكثيرا ما تشير تقارير الهيئة العليا للرقابة الإدارية والمالية إلى حصول أخطاء تصرف في المجال المالي والإداري ، ان أبرز الاخطاء المرتكبة من قبل موظفي القطاع العام توجد في مجال تسيير الموارد البشرية كاعتماد الساعات الإضافية  والاجازات المرضية ، كما توجد في المجال المالي كالمناقصات واستعمال اسطول السيارات وهي ممارسات أصبحت منهكة لميزانية الرواتب ومكلفة للقطاع العام. كما أن جولات التفقد التي قامت بها وزارة الوظيفة العمومية السنة الماضية في الإدارات العمومية خلال فترات العمل المسائية أثبتت اكتشاف نسبة غياب عالية في صفوف الموظفين والأعوان الإداريين .إن ممارسات الإدارة العميقة تدفع المواطن إلى إنتهاج طرق ملتوية للحصول على خدمة معينة .

إن قيمة العمل أصبحت في الغالب تنعى حضها بين أهلها المتمثلة في فئة كبيرة من الأعوان و الموظفين ما أكثرهم حين تعدهم و لكن عند إسداء الخدمات فهم قليل همهم الحصول على الراتب و التقاعس في القيام بالواجب.

            يعود قصور استراتيجية الإصلاح الإداري والوظيفي إلى عدّة أسباب أهمها :

  • البطء في الاصلاح التشريعي الذي لم ينزل المبادئ التي نصّ عليها الفصل 15 من الدستور على أرض الواقع وفي هذا المجال لابدّ من الاسراع في تنقيح القوانين المنظمة للوظيفة العمومية وإصدار مجلة متكاملة  تتضمن كافة النصوص التشريعية والأوامر الترتيبية المتعلقة بالإدارة والوظيفة العمومية.
  • التركيز على التقنيات والمعدات الحديثة على حساب الجوانب السلوكية والثقافية بحيث لا يكون جوهر الاصلاح هو الانسان سواء كان موظفا أو مرتفقا فتهاون الموظف يؤدي حتما إلى تراجع الانتاج والمردودية إلا أن أسباب التهاون متعددة كالتوقيت  الإداري ونقص آليات التحفيز ومكافأة  الاجتهاد والإبداع كما أن الترقيات تكون عادة على أساس الاقدمية دون اعتبار الكفاءة والمردودية.

لذلك لا بدّ أن تجعل استراتيجية إصلاح الإدارة والوظيفة العمومية من الإنسان جوهر ذلك الإصلاح  سواء كان موظفا أو متعاملا مع الإدارة.

  • التركيز على بناء الهياكل والأنظمة الرسمية وآليات المراقبة كاستعمال ورقة الحضور والبصمة والحال أنه لا جدوى من مطالبة الموظف بالانضباط عند الدخول إلى مركز العمل وعند الخروج منه إذا لم يكن ذلك مرتبطا بالضمير المهني وبذهنية الإخلاص في العمل لأن حضور الموظف جسديا كامل اليوم لا يعني بالضرورة أنه يشتغل فعلا  ويحقق المردودية اللازمة . فكم من موظف يقتصر حضوره على الامضاء صباحا ومساءا ثم يمضي كامل وقت العمل خارج موطن الشغل وأعوان شركات البيئة لأكبر دليل على ذلك. إن الموظف في اليابان يشتغل بإتقان كامل اليوم ويعامل المرتفقين باحترام ويفضل العمل حتى أثناء العطل هدفه حسن المردودية وتحقيق الانتاج و المنتوجية وما يساعده على ذلك هو تخلصه من الضغوطات والمشاكل التي يعاني منها الموظف التونسي  بسبب وسائل النقل المتردية والرواتب المنخفضة مقارنة بالأعباء العائلية المضنية و بغلاء الاسعار و ضعف القدرة الشرائية. لذلك لا بدّ أن تأخذ استراتيجية الإصلاح هذه العوامل والمعطيات بعين الإعتبار.
  • الاقتصار في الاصلاح على إصدار بعض القوانين والأوامر والمناشير وتنظيم دورات تدريبية تسفر عن لجان ولوائح تدور في حلقة مفرغة.وفي هذا المجال لا بدّ أن يصير التكوين مستمرا ينطلق منذ الانتداب وينتهي عند التقاعد.

و لابد من إصدار الأوامر التي تنص عليها القوانين في اجالها و دون تأخير.

خلاصة القول لا بد أن ينطلق الإصلاح الجوهري للإدارة والوظيفة العمومية من رؤية استراتيجية شاملة ومتكاملة تقع مناقشها وصياغتها في حوار وطني يضم الخبراء والوزارات المعنية والمؤسسات الممثلة للقطاعات والهيئات المستقلة المعنية بمسألة الإصلاح والمنظمات الوطنية والمجتمع المدني حتى يكون التشخيص دقيقا للكشف عن مختلف مظاهر الداء وضبط كل وسائل العلاج والدواء وحتى تكون الاستراتيجية واقعية وواضحة بعيدا عن النسخ الحرفي للتجارب الاجنبية وإنما تعتمد الجيد منها وتأخذ بعين الاعتبار  البيئة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لبلادنا.