حوكمة العمل الجمعياتي
بقلم العميد عبد الستار بن موسى
إن الحريات وحقوق الإنسان في بعدها الكوني والشمولي لا تحميها الأنظمة باعتبارها تسعى للوصول إلى السلطة وعند وصولها كثيرا ما تنحرف بالسلطة بتعلَة الحفاظ على الأمن العالم والسلم الاجتماعي فتقيد بالضرورة الحقوق والحريات وتنتهكها في عديد المحطات.
إن الضامن الوحيد للحقوق والحريات في كل أنحاء المعمورة هو المجتمع المدني فهو يشكل السلطة المضادة باعتباره يراقب أعمال السلطة الحاكمة ويرصد التجاوزات ويسعى إلى المساءلة، فبقدر ما يكون المجتمع المدني قويا مستقلا ومناضلا بقدر ما يكون دفاعه عن الحقوق والحريات ناجعا وفاعلا.
يتكون المجتمع المدني في الأساس من مختلف الجمعيات غير الحكومية غير الربحيَة والمستقلة تماما عن السلطة السياسية.
تسعى منظمات المجتمع إلى تحقيق أهداف متعددة كل حسب مجال نشاطه وتعتمد على أسس مختلفة حقوقية أو ثقافية أو بيئية أو اقتصادية اجتماعية …
وتعنى أساسا بنشر وتنمية الوعي بقضايا المجتمع والسعي إلى ترسيخ قيم المواطنة والقيم الإنسانية، إلا أن الواقع قد يكون مختلفا فيشهد المجتمع المدني اختلاط الحابل بالنابل وتتسرب إليه جمعيات همها الوحيد خدمة الأهداف الحزبية والمصالح الشخصية، لقد ساهم المجتمع المدني ببلادنا في مقاومة الاحتلال الأجنبي وفي بناء الدولة الحديثة والدفاع عن حقوق الإنسان والحريات العامة والفردية كما ناضل ضد القمع والاستبداد ومن أجل العدالة والحرية والمساواة والديمقراطية ساهم بصفة فاعلة وناجعة في مسار الانتقال الديمقراطي منذ سنة 2011، وخاصة في تنظيم الحوار الوطني والإشراف عليه سنة 2013.
إلا أن العديد من مكونات المجتمع المدني المناضلة تعرضت خلال النظام السابق إلى التضييقات و الهرسلة والاعتداءات على غرار ما حصل للإتحاد العام لطلبة تونس أو للإتحاد العام التونسي للشغل خاصة إثر إحداث 26 جانفي1978 أو ما تعرض له المحامون وهياكلهم وجمعية القضاة ونقابة الصحافيين كذلك التنكيل بمناضلي الرابطة وهياكلها والحصار المفروض على مقراتها طيلة عشرية كاملة والزج بها في متاهات القضاء دون أن ننسى هرسلة العديد من الجمعيات كجمعية النساء الديمقراطيات والمجلس الوطني للحريات والمنظمة التونسية لمناهضة التعذيب جمعية المساجين السياسيين وغيرها من الجمعيات والمنظمات.
تحرَرت الجمعيات منذ سنة 2011 فالمرسوم عدد 88 المؤرخ في 24 سبتمبر 2011 والمتعلق بتنظيم الجمعيات ألغى القيود التي كانت مفروضة على المجتمع المدني سواء بواسطة قوانين زجرية مثل القانون عدد 154 المؤرخ في 7 نوفمبر 1959 المتعلق بالجمعيات أو من خلال ممارسات قمعية ممنهجة، إن المرسوم عدد88 الذي صدر باقتراح من الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي ضمن في فصله الأول حريَة تأسيس الجمعيات والانضمام إليها والنشاط في إطارها وبذلك أنهى وصاية وزارة الداخلية التي كانت تتحكم في مسار ومصير الجمعيات.
أنهى الترخيص المسبق وعوضه بمجرد إعلام بواسطة مكتوب مضمون مع الإعلام بالبلوغ إلى رئاسة الحكومة.
كما وسَع المرسوم من صلاحيات ومجالات تدخل الجمعيات وحصَنها من تعسف السلطة التنفيذية فالفصل الخامس أكد أنه من حق الجمعية الحصول على المعلومات و تقييم دور مؤسسات الدولة وتقديم مقترحات لتحسين أدائها وعقد الاجتماعات والتظاهرات والمؤتمرات و ورشات العمل وجميع الأنشطة المدنية والحق في نشر التقارير والمعلومات وطبع المنشورات واستطلاع الرأي، أما الفصل السادس من المرسوم فإنه حجَر على السلطات العمومية عرقلة نشاط الجمعيات أو تعطيله بصفة مباشرة أو غير مباشرة. على أساس ذلك الانفتاح ارتفع عدد الجمعيات الناشطة بالبلاد ليتضخم ويبلغ 23676 جمعية إلى غاية 10نوفمبر 2020حسب الإحصائيات التي نشرها مركز الإعلام والتكوين والدراسات والتوثيق حول الجمعيات التابع لرئاسة الحكومة .
لقد اتضح من خلال تلك الإحصائيات أن الجمعيات الخيرية والاجتماعية استحوذت على نصيب الأسد إذ بلغ عددها 2643 جمعية أي بنسبة 11.17 بالمائة تليها الجمعيات ذات النشاط التنموي البالغ عددها 2457 جمعية أي بنسبة 10.38 بالمائة أما الجمعيات ذات النشاط الحقوقي فلم يتجاوز عددها 599 جمعية كذلك الأمر بالنسبة للجمعيات الشبابية البالغ عددها 405، أما في أسفل سلم الترتيب فنجد الجمعيات الناشطة في مجال الطفولة إذ لم يتجاوز عددها 314 جمعيَة.
رغم ارتفاع عدد الجمعيات فإن تكوين الجمعيات ونشاطها ظلت مسائل تخضع لعدة عوائق وعراقيل سببها الفراغات التشريعية أو الممارسات التعسفية للمؤسسات العمومية حتى أن بعض الممارسات الجيَدة التي تم إرساؤها منذ سنة 2011 والمتعلقة بالمقاربة التشاركية للمجتمع المدني في اتخاذ القرارات وإعداد مشاريع القوانين وصياغة الدستور سرعان ما فقدت بريقها وأصبحت مهددة.
أما في ما يتعلق بالتمويل فقد اتاح الفصل 34 من المرسوم عدد88 لسنة 2011 للجمعيات تلقي تبرعات وهبات ووصايا أجنبية المصدر وبذلك تطورت التمويلات الأجنبية للجمعيات من 4.7 مليون دينار سنة 2011 إلى 21 مليون دينار سنة 2014 و24.5 مليون دينار سنة 2015 و37 مليون دينار قبل انتخابات سنة 2019 حسب تقارير البنك المركزي، لقد حجر الفصل الرابع من المرسوم تجميع أموالا لدعم أحزاب سياسية أو مرشحين مستقلين في انتخابات وطنية أو جهوية أو محلية.
إلا أن مسألة تمويل الجمعيات فقد شابتها عدة إخلالات وتجاوزات أثارت جدلا كبيرا وأسالت حبرا كثيرا . إذ تؤكد محكمة المحاسبات في تقريرها الأخير أنه ولئن لم تتوفر لديها أرقام دقيقة حول معظم التمويلات الأجنبية التي استفادت منها الجمعيات وهي نقيصة سببها الثغرات في المنظومة القانونية فقد اتضح لها من المراقبة الحسابية أن حجم التمويلات الأجنبية بلغ 68 مليون دينار سنة 2017 و78 مليون دينار سنة 2018 كما أن 566 جمعية لم تلتزم بإعلام الكتابة العامة للحكومة بتلقيها تمويلات أجنبية، كما تؤكد محكمة المحاسبات صلب تقريرها أنه بتفحص البيانات الصادرة عن البنك المركزي اتضح جليا أنها محدودة ومنقوصة إذ لم تشمل المعطيات المتعلقة بالتمويلات الأجنبية التي تحصلت عليها الجمعيات خلال الثلاثي الأخير من سنة 2017 والثلاثي الأول من سنة 2018 وقد علل البنك المركزي ذلك النقص بأسباب تقنية.
إن بعض الجمعيات تحصلت على تمويلات مجهولة المصدر وحولتها إلى حساباتها الخاصة دون التنصيص على هوية المانحين وهو ما أقرت محكمة المحاسبات و اعتبرته خرقا لأحكام الفصل 99 من قانون مكافحة الإرهاب وتبييض الأموال الذي يلزم الذوات المعنوية بعدم قبول أي تبرعات أو مساعدات مالية مجهولة المصدر.
كما بينت محكمة المحاسبات في تقريرها أن هناك تداخل بين العمل الجمعياتي والعمل الحزبي خلال محطة الانتخابات التشريعية والرئاسية. أما الهيئة العليا المستقلة للانتخابات فقد اعتبرت صلب الفصل 18 من قرارها عدد 20 لسنة 2014 قيام الجمعيات بأنشطة لها علاقة بالترويج بصفة مباشرة أو غير مباشرة لمترشح أو المساهمة في تنظيمها لتمويلات مقنَعة للحملة الانتخابية، كما أن الحملات الانتخابية الأخيرة شهدت نفس التجاوزات.
لقد أكدت وزارة العلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني خلال سنة 2016 بأن الكتابة العامة للحكومة وجهت 721 تنبيها إلى عدد من الجمعيات الناشطة في ميادين مختلفة وطلبت تعليق نشاط 150 جمعية كما تقدمت ب38 مطلب في الحل َبالإضافة إلى الإذن بحل نهائي لعدد 157 جمعية بعد أن اتضح وجود شبهات علاقة بالإرهاب. إلا انه رغم تلك التنابيه المتعددة لم يقع حل سوى جمعيتين بموجب قرار قضائي وواصلت بقية الجمعيات نشاطها المشبوه في خرق واضح للقانون .
أعد المرصد الوطني إيلاف صلب دراسة حول الجمعيات بتونس منذ سنة 2011 إلى حدود شهر فيفري 2013 اتضح من خلالها أن 13 بالمائة من الجمعيات الخيرية والدينية مرتبطة في نشاطها و في تمويلها بأحزاب سياسية وتتلقى تمويلات أجنبية دون التصريح بها ودون الإفصاح عن هوية المانحين .
إن السلبيات العديدة التي شابت العمل ألجمعياتي تجد أسبابها في المنظومة التشريعية وفي الممارسات الغير قانونية، أما بالنسبة للمنظومة التشريعية فالمعوقات عديدة:أولها المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المؤرخ في 24 ديسمبر 2011 الذي مضي على صدوره عشر سنوات ورغم النقائص والثغرات التي تضمنها لم تطالب أي جهة بتعديله، فالحكومة لم تقدم مشروع قانون بصفة رسمية وكذلك الأمر بالنسبة للكتل البرلمانية،
الكل راض بهذا المرسوم ينتقده جهرا ويرحب به سرا والحال أن الفصل 65 من الدستور أوجب تنظيم الجمعيات مثل الأحزاب والنقابات بموجب قانون أساسي. إن ذلك المرسوم خول في فصله الثاني لشخصين تكوين جمعية بموجب اتفاقية دون شروط أخرى كالتمتع بالحقوق المدنية والسياسية وهو ما أدى إلى تكوين جمعيات صورية بدون مقرات وبدون قاعدة وبدون هياكل، كما أن المرسوم لم يحضَر على المسؤولين في الجمعيات تحمل مسؤوليات حزبية حتى لا يقع التداخل بين العمل ألجمعياتي والعمل الحزبي مثلما يحصل الآن.
أما بالنسبة للأحكام المالية فإن الفصل 34 من المرسوم فتح الباب على مصراعيه للحصول على التبرعات والهبات والوصايا وطنية كانت أو أجنبية ولم يلزم الجمعيات بالإعلام عن التبرعات مجهولة المصدر كما لم يفرض عليها آجالا محددة لإعلام البنك المركزي والكتابة العامة للحكومة بالتمويلات التي تحصلت عليها مع ذكر هوية المانحين، أما بالنسبة للتكوين فإن الفصل 11 من المرسوم لم يلزم الكتابة العامة للحكومة بإرسال بطاقات الإعلام بالبلوغ في إبانها فعديد الجمعيات استاءت من من عدم تسلمها لبطاقة الإعلام بالبلوغ الأمر الذي حرمها من الإدراج بالرائد الرسمي وممارسة نشاطها القانوني .
كما أن المطبعة الرسمية تتمتع بسلطة تقديرية في إدراج الإعلان بالرائد الرسمي وفي بعض الأحيان ترفض إدراج الإعلانات لأسباب لم يتضمنها القانون. إن استغلال هذه الفراغات التشريعية أدى إلى إرساء فقه إداري يضيق على حرية التكوين لبعض الجمعيات ويتساهل مع تكوين جمعيات أخرى حيث يكون التعامل بعدة مكاييل.
أما بالنسبة لمجالات وآليات عمل منظمات المجتمع المدني فإن الفصل الخامس ضمن حق الجمعيات في الحصول على المعلومات وفي تقييم دور مؤسسات الدولة وتقديم مقترحات لتحسين أداءها والحق في إقامة الاجتماعات والتظاهرات وجميع الأنشطة المدنية إلا أن المرسوم لم يبين الآليات الواجب إتباعها من قبل السَلط العمومية قصد تسهيل مهام المجتمع المدني ولم يوضَح المقاربة التشاركية كإلزام المصالح الوزارية بتنظيم لقاءات حوارية مع مكونات المجتمع المدني والاستماع إلى أرائها عند إعداد مشاريع الأوامر والقوانين المتعلقة بالحقوق والحريات . والاستماع إلى تلك المكونات عند مناقشة مشاريع القوانين من قبل اللجان البرلمانية.
كما أن المرسوم لم يوضع الوسائل التي تكفل المجتمع المدني الاضطلاع بالمهام الرقابية التي تهدف إلى تقييم دور مؤسسات الدولة وتقديم المقترحات لتحسين أدائها ، حيث يجابه المجتمع المدني عدة عراقيل مع عديد الهياكل الإدارية التي مازلت متمسكة بالذهنية البيروقراطية.
أما بالنسبة لحرية التعبير وحرية التجمع السلمي المضمونة بالدستور فإنه وفي غياب المحكمة الدستورية ظلت عديد القوانين المخالفة للدستور والتي تقمع تلك الحريات سارية تعتمدها السُلط لكبح نضال المجتمع المدني ويعتمدها القضاء لتسليط عقوبات زجرية مثل الأحكام الواردة بالمجلة الجزائية والمتعلقة بالثلب وهضم جانب موظف وغيرها المخالفة للدستور شكلا ومضمونا وكذلك القانون الصادر سنة 1969 المتعلق بالتجمهر الذي يقمع حرية التجمع السلمي، إنَ السُلط السياسية المتعافية لم تسعى إلى تعديل تلك القوانين وتعويضها بنصوص جديدة متطابقة مع المعايير الدولية ومتناسقة مع المعاهدات التي صادقت عليها الدولة التونسية .
إن كشف هذه الهنات والسلبيات التي شابت العمل الجمعياتي تستوجب إجراء إصلاحات جوهرية قصد دعم العمل الجمعياتي المشروع وتحصينه من التجاوزات والإعتداءات مهما كان مأتاها وتخليصه من الإنحرافات، لذلك لا بد من تعديل الإطار التشريعي بإبدال المرسوم الحالي بقانون أساسي ينظَم الجمعيات طبقا للدستور والمعايير الدولية ويضمن إستقلاليتها عن كل الأطراف وشفافية عملها، كما يفرض على السلط العمومية تيسير العمل الجمعياتي وتسهيل دوره في المراقبة والتقييم وترسيخ المقاربة التشاركية مع المجتمع المدني عند اتخاذ القرارات وصياغة القوانين عبر وضع آليات وإجراءات واضحة تجسد شراكة فعلية بين الجمعيات والمنظمات الغير الحكومية من جهة والسلط الإدارية والسياسية من جهة أخرى كدعم آليات التحالفات والتشبيك بين الجمعيات قصد خلق رأي عام مؤثر في رسم السياسات وإتخاذ القرارات وضبط الإستراتجيات.
اما فيما يتعلق بالتمويل ولئن تعددت مصادره فإن التمويل العمومي يبقى هو الأساس .
إلا أن هذا التمويل مرتبط بإلتزام الجمعيات بالواجبات الجبائية و الأداءات االمفروضة عليها قانونا . لذلك لا بدَ من تجميع النصوص العديدة المتعلقة به حتى يصبح المجتمع المدني على دراية بالواجبات الجبائية المحمولة عليه ويتمكن تبعا لذلك من الحصول على التمويل العمومي لابد أيضا من توضيح الشروط والآليات المتعلقة بالتمويل العمومي وجعلها مبسطة وغير معقدة .
أما بالنسبة للتَمويل الأجنبي فإنه من الأكيد والضروري وضع حد للتمويلات المشبوهة أو مجهولة المصدر وذلك بإلزام كل جمعية بإنشاء موقع واب يتضمن كل المعطيات والإحصائيات المتعلقة بالمنخرطين والأنشطة والميزانية والتمويلات مع بيان مبالغها ومصادرها وكذلك التقارير السنوية الأدبية والمالية، كمنع الجمع بين المسؤولية الحزبية والمسؤولية صلب جمعية.
لابد أيضا من وضع إجراءات دقيقة للمراقبة المستمرة لأنشطة الجمعيات لرصد الخطابات والأعمال التي تحرض على العنف والكراهية أو تخرق الواجبات المحمولة على الجمعيات كالشفافية والمساواة وحياد الإدارة ودور العبادة والمرافق العامة واستقلال القضاء، لا بد أيضا من تشديد آليات المراقبة على تمويل الجمعيات وتعزيز قدرة الهيئات الرقابية وخاصة البنك المركزي ومحكمة المحاسبات لضمان رقابة ناجعة على تمويل الأحزاب حتى لا تبقى القوانين المنظمة لهذه المسألة حبرا على ورق.
كما يتجه اتخاذ الإجراءات القانونية والقرارات القضائية بناء على المخالفات الواقع رصدها في إبانها وحتى لا تبقى تنابيه الكتابة العامة للحكومة أو قرارات محكمة المحاسبات دون نتيجة . في الختام لا بد من وضع حد لبعض الممارسات والإجراءات الإدارية التي تعرقل العمل الجمعياتي المشروع وتشكل حاجزا أمام تنزيل القوانين المنظمة للجمعيات سواء بالنسبة لتكوين أو النشاط على أرض الواقع.
بقلم العميد عبد الستار بن موسى