الانتخابات

لم يعد ”فيسبوك” و”انستغرام” و”واتساب” مجرد وسائل وتطبيقات للتواصل الاجتماعي، حيث أصبحوا اليوم عوامل تأثير مباشر من أجل التلاعب بالرأي العام وتوجيهه، ومتدخلين رئيسيين في القناعات السياسية والفكرية للمجتمع التونسي وهو ما عكسه دور هذه الوسائل في الانتخابات الأخيرة، وأمام غياب الإطار التشريعي الذي ينظم هذه الوسائل فإن المعطيات الشخصية والحياة الخاصة للأفراد في خطر، وحتى السيادة الوطنية مهددة.

“السيادة الوطنية مخترقة”

أكد رئيس الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية شوقي قداس، في تصريح لـ”JDD”، أن السيادة الوطنية اليوم مخترقة جراء تواتر استعمال وسائل التواصل الاجتماعي ”فايسبوك” و”ميسنجر” و”واتساب”، مبينا أن تونس ليس لديها لا السلطة ولا القدرة لمراقبة هذه المنصات الأجنبية.

وبين أن التطبيقات التي نستعملها في تونس جميعها تابعة لشركات أجنبية وأمريكية بالأساس على غرار غوغل ومايكروسوفت وفيسبوك وغيرها، وما هو معروف عن هذه التطبيقات أنها تقدم خدمات مجانية للمستخدمين، لكنها في الواقع تحصل على ولوج غير أخلاقي للمعطيات الشخصية للأشخاص الذي يوافقون على استخدامها.

وبين أن كل التطبيقات التي نستخدمها اليوم هي متاحة في الواقع للمؤسسات الحكومية والمنظومات في الولايات المتحدة الأمريكية، بمقتضى قانون ‘‘الكلاود آكت” الذي وقع اعتماده منذ تولي دونالد ترامب رئاسة البلاد، حيث أنه ووفقا لقداس، يسمح هذا القانون للمنظومات الحكومية في الولايات المتحدة، بالولوج لكافة المعطيات الشخصية للمستخدمين لدى الشركات الأمريكية حتى وإن كانت مخزنة في دول أخرى، دون أي إلزام قانوني أو قضائي.

وبإمكان وكالة الاستخبارات الأمريكية، مثلا، الاطلاع على جميع المراسلات البريدية لأي مستخدم أجنبي من شركة غوغل الأمريكية دون اللجوء إلى إذن قضائي ودون إعلام المستخدم المعني بالأمر، وهو ما يمثل اختراقا للسيادة الوطنية، وفق رئيس الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية.

تبعية وسلب للحرية

واعتبر شوقي قداس أن الاستعمال المكثف لتطبيقات ”فيسبوك” و”ميسنجر” و”واتساب”، اليوم هو نوع من التبعية التي تهدد السيادة الوطنية، خاصة وأنها تسلب حرية الأشخاص في أخذ القرارات عبر التلاعب والتأثير، فهذه التطبيقات تقوم بالاطلاع على معطيات الأشخاص ثم تقوم ببيعها لشركات ومؤسسات ودول من أجل التحكم فيهم والتأثير عليهم، عبر دراسة تحركاتهم وآرائهم ومواقفهم على مختلف الأصعدة من خلال تتبع بياناتهم الشخصية على شبكة الإنترنت.

وبين محدّثنا أن هذه التطبيقات تتدخل في المسارات الديمقراطية للبلدان وهو ما حدث مؤخرا من خلال الدور الذي لعبته شركة ”كامبريدج أناليتيكا” الشركة الخفية التي تختبئ خلف فيسبوك، والتي تحصلت على معطيات المستخدمين واستغلتها للتأثير عليهم في العملية الانتخابية لصالح جهات معينة في أكثر من 30 دولة وهو ما حصل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي انتهت بوصول ترامب للحكم، كما لعبت دورا كبيرا في انتخابات البرازيل وفي عملية التصويت على خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي.

وأكد شوقي قداس، أنه وأمام ما تمثله هذه التطبيقات من خطورة على السيادة الوطنية وغياب الوعي لدى المواطن التونسي، فإن دور وزارة تكنولوجيات الاتصال اليوم هو التوعية بمخاطر هذه الوسائل وتطوير تطبيقات محلية الصنع لحماية السيادة الوطنية من الاختراق الأجنبي والتأثيرات الخارجية على المستخدمين، مشددا على أن الأمر ممكن في ظل توفر كفاءات تونسية قادرة على التجديد ومواكبة التطورات الرقمية في العالم، لكنه رهين توفر الإرادة السياسية التي تعتبر غائبة تماما، وفق تقديره.

وفي ظل تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الرأي العام، وعلى المسارات الديمقراطية في العالم، وتدخلها في قرارات المستخدمين وبالنظر إلى الإخلالات التي وقع رصدها من قبل الملاحظين للعملية الانتخابية والمراقبين على غرار منظمة ”عتيد” التي تنشط في هذا المجال منذ سنة 2011، نتساءل حول ما إذا كان هناك توجيه للرأي العام من قبل مواقع التواصل الاجتماعي في تونس خلال الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة، وما إذا كان هناك تلاعب بالعملية الانتخابية؟

توجيه للرأي العام

في هذا الإطار، أكد معز رحموني، كاتب عام الجمعية التونسية من أجل نزاهة وديمقراطية الانتخابات ”عتيد”، أن جميع المعطيات التي وقع تسجيلها خلال العملية الانتخابية الأخيرة تشير إلى استنتاج واحد وهو أنه وقع توجيه الرأي العام بالاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي.

وبين أن ”عتيد” عاينت منذ سنة 2014، انتقال الحملات الانتخابية من الميدان إلى وسائل التواصل الاجتماعي، وأمام ارتفاع عدد المستخدمين في تونس لأكثر من 7 ملايين حساب ”فيسبوك”، اقترحت القيام بمشروع بالتعاون مع “المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية” لمراقبة الحملات الانتخابية على وسائل التواصل الاجتماعي، وتم الانطلاق قبيل الانتخابات البلدية لسنة 2018.

وأشار إلى أنه خلال الانتخابات التشريعية والرئاسية 2019، تم انتقاء 300 صفحة، تضم عددا كبيرا من المتابعين، تقوم بتنزيل منشورات سياسية مع اقتراب فترة الانتخابات، تبين أن 80 بالمائة من هذه الصفحات كانت تروج لمحتويات بعيدة تماما عن السياسة وتعنى بالرياضة والمشاهير والترفيه.

والتقرير الذي أعدته ”عتيد” بالتعاون مع “المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية”، كشف كذلك عن عديد الصفحات التي تعمل وفق نظام الشبكات، حيث أن هناك من 28 إلى 32 صفحة تشارك نفس المنشورات في توقيت متقارب، وهو ما يشير إلى وجود تنسيق محتمل بين مسؤوليها أو أنها على ملك نفس الشخص.

كما تبين بالرجوع إلى الأنشطة السابقة لهذه الصفحات، أن عددا منها قامت بتغيير أسمائها لتصبح صفحات رسمية لسياسيين مترشحين للانتخابات، وفق محدثنا الذي أكد أنه تم على سبيل المثال تغيير اسم صفحة من ”حماتي أنجبت حياتي”، إلى اسم مترشحة للانتخابات الرئاسية آنذاك، وهو ما يكشف أنه تم شراء الصفحة المذكورة نظرا لكونها تضم عددا هاما من المتابعين، وفق الرحموني.

كما أكد محدثنا أن أغلب القائمين على الصفحات التي تعنى بالوضع السياسي في تونس، واستخدمت خلال الانتخابات الأخيرة، مقيمون في عديد الدول حول العالم، وهو ما أثار التساؤلات في البداية حول ما إذا كان هدف مديري هذه الصفحات منصبا على تونس، لتتضح حقيقة الأمر لاحقا بعد بروز ظاهرة المنشورات الممولة، حيث أن فايسبوك لا يقبل الدينار التونسي ويتعامل فقط بالعملة الصعبة، وهو ما يحيلنا بالضرورة إلى خرق القانون الانتخابي الذي يحظّر التمويلات الأجنبية خلال الحملات الانتخابية.

تلاعب بالناخب التونسي

كما كشف المتحدث أن التقرير تطرق أيضا إلى أن 7 صفحات قامت بحملة انتخابية لمترشح للرئاسية بالرغم من أنه كان قد أكد لهيئة الانتخابات أنه ليس لديه أي صفحة باسمه على فايسبوك، وهو ما يعتبر تقصيرا من قبل هيئة الانتخابات في علاقتها بإدارة فيسبوك، مبينا أن “عتيد” قامت بالتنسيق مع إدارة فيسبوك في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من أجل بحث هذه الإشكاليات إلا أن الهيئة لم تتفاعل مع الموضوع.

كما تطرقت الجمعية إلى ثغرة أخرى تتعلق بالقانون الانتخابي، وفق معز الرحموني، الذي اعتبر أنه قانون ”مشلول”و”خال تماما” من الفصول التي تنظم التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي وأن المشرع التونسي غافل تماما تجاه مسألة أحكام استعمال هذه الوسائل، مبينا أنه تم لفت انتباه الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، إلى الفراغ التشريعي في علاقة بالقانون الانتخابي.

وأشار إلى أنه من الصعب اليوم أن يقوم السياسيون أو الأحزاب السياسية التي وصلت إلى السلطة من خلال التأثير عبر وسائل التواصل وفيسبوك، باتخاذ خطوة ضد الوسيلة التي مكنتهم من الوصول إلى الحكم.

كما كشف المتحدث أنه تم بالاعتماد على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، التأثير على العملية الانتخابية عبر طريقة ”microtargeting” حيث يستخدم السياسيون والأحزاب المترشحة منشورات لاستهداف الناخبين المحتملين بناء على تطلعات ومشاغل كل منطقة أو ولاية، وهي نفس الطريقة التي اعتمدها ترامب سابقا في الانتخابات الأمريكية كما وقع اعتمادها في عملية التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو ما عرف بـ”البريكسيت”، وهو ما يؤكد أنه وقع التلاعب بالناخب التونسي.

”فيسبوك” يغيّر نتائج الانتخابات في تونس

من جهته، أكد نبيل بفون، رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، في تصريح لـ”JDD”، أن الهيئة اعتمدت في مسألة رصد الخروقات الانتخابية على وسائل التواصل الاجتماعي، فيسبوك وتويتر، خلال الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2019، على متابعة الصفحات الرسمية للمترشحين وحتى الصفحات غير الرسمية ومراقبتها، مبينا أن هيئة الانتخابات قامت بالوقوف على الإخلالات المسجلة في علاقة بالإشهار السياسي على فيسبوك، وعلى ضوء ذلك تم إسقاط قائمة “عيش تونسي” في الدائرة الانتخابية “فرنسا 2” بمرسيليا، التي تعمدت خرق الصمت الانتخابي وحرمانها من مقعد في البرلمان.

وترصد الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، في علاقة بالمترشحين الصفحات التي وقع إعلامها بها، لكن عملها يشمل أيضا الصفحات غير الرسمية، بالرغم من أن القانون الانتخابي لم يتضمن أي أحكام خاصة برقابة المواقع الإلكترونية، وفق محدثنا، الذي أكد أن الهيئة قامت بالرقابة اعتمادا على مفهوم الإشهار السياسي.

تعديل شامل للقانون الانتخابي

وشدد نبيل بفون على أنه وأمام مواكبة الانتخابات للتطور التكنولوجي واستعمال وسائل التواصل في عملية الدعاية السياسية، لا بد للقانون الانتخابي أن يتضمن أحكاما تنظم استعمال وسائل التواصل الاجتماعي في الدعاية السياسية.

وبين أن هيئة الانتخابات، قامت بالتقدم بمقترح أولي لتنقيح القانون الانتخابي بمناسبة يوم دراسي برلماني، كما ستقوم بحلول الأسبوع القادم، بتقديم رسالة رسمية إلى اللجنة المكلفة بتنقيح القانون الانتخابي، ستتضمن مقترحات الهيئة في تعديل شامل لهذا القانون، وخاصة فيما يتعلق بإشكالية الإشهار السياسي المنصوص عليها في القانون الانتخابي الحالي.

وأمام الضبابية في مفهوم الإشهار السياسي منذ 2011، تسعى الهيئة العليا المستقلة للانتخابات إلى تقديم تعريف أوسع نظرا لوجود لبس كبير في هذا المفهوم، خاصة وأن الفرق بين الدعاية السياسية والإشهار السياسي هو استعمال وسائل التسويق التجارية، وفق رئيس الهيئة.

وشدد محدّثنا على أن القانون الانتخابي الجديد يجب أن يكون موضوعيا وساريا على جميع الأطراف دون استثناء، مشيرا إلى أن الجميع سيتضرر إذا لم يتم تقديم قانون انتخابي فعّال، وفق تقديره.