د. مختار الفجاري، أستاذ الحضارة بجامعة قرطاج.

تعتبر الثورة التونسية هي ثورة الشباب بامتياز لأنها رفعت شعار الإرادة: “الشعب يريد…” وهي تلك الإرادة التي ترسخت لدى الشباب من داخل المؤسسة التعليمية أومن داخل الأسرة والمجتمع. وهو استثناء تونسي بامتياز مقارنة ببقية الدول العربية حيث استمرت البرامج التعليمية في التلقين وتكريس الطاعة والخضوع واستمرار القيم والأعراف في مصادرة حق المواطنة لاسيما للمرأة/الأم.

هكذا تميزت الثورة التونسية وبدت رائدة في المطالبة بالحرية والكرامة الوطنية  وكانت ثورة الشباب بامتياز. جزء كبير من هؤلاء الشبان قدم دماءه ثمنا لها وجزء آخر تولى قيادة المسيرة بثبات. ومنذ تلك اللحظة بدأ الأمل يراود الشباب في التحرر وتقرير المصير وصناعة المستقبل، فبادر الشباب بتأسيس الجمعيات وتصدر المشهد السياسي. كما لاحظنا جميعا تطوع الشباب في العديد من الأعمال الحضارية مثل تنظيف الشوارع واستعراض مظاهر الفنون والتعبير عنها في الساحات العمومية فضلا عن تصدر المشهد الإعلامي والحزبي.

ولكن شيئا ما حدث بعد ذلك، وظهر زحف كبار السن على المشهد الثوري واقتحموا المنابر الإعلامية متسلحين بحنكتهم وتجربتهم وتفوقهم في تطويع اللغة والخطاب. وفي الوقت نفسه بدأ دور الشباب في الانحصار والتراجع حتى وصل الأمر إلى الاستقالة الجماعية في انتخابات 2014 بفرعيها التشريعي والرئاسي.

إن الأسباب التي أدت آنذاك بالشباب إلى التراجع والتشاؤم والاستقالة الجماعية كثيرة يمكن أن نذكر منها بشكل أولي ما يلي:

 ـ 1 ـ  فشل حكم الترويكا في إيجاد حلول اقتصادية للشباب لاسيما توفير الكرامة الحقيقية التي يمثل العمل والشغل أهم ركائزها، ولئن نجحت الترويكا في تأمين الحريات للشباب إلا أنها فشلت في إيجاد حلول اقتصادية ولم تنجح في تجاوز المكينة الدكتاتورية التي تحركت لصد كل محاولة اقتصادية فحركت مالكي وسائل الإنتاج لرفع الأسعار وعرقلة العمل وتسميم الأجواء ورسم صورة قاتمة للمستقبل ونتج عن ذلك تدمير قيمة الدينار وتراكم العجز وتدهور الاقتصاد وارتهان البلد من جديد للدين الخارجي ولإكراهات اقتصاد السوق وصندوق النقد الدولي. ومن المحزن حقا أن الرأس الأكبر في الترويكا آنذاك اختار نهج المهادنة مع المنظومة القديمة قصد توسيع قاعدته الحزبية على حساب النظر في المصلحة الوطنية، وهو ما نتج عنه استمرار نفس العقلية، عقلية الانتهازية والوصولية والمحاباة على حساب مصلحة الشباب.

 ـ 2 ـ إن العقلية التونسية خاصة والعربية عامة والمتمثلة في النظرة القاصرة للشباب وفي اعتبار الأكبر هو الأجدر وهو الأكثر كفاءة هي التي ساعدت على تقدم الشيوخ وتراجع الشباب في المشهد السياسي كما أن الإعلام يتحمل المسؤولية كاملة عن ذلك لأنه فتح المجال أكثر لكبار السن حتى يتصدروا المنابر الإعلامية.

 ـ 3 ـ  من الصدف أن يتصدر المشهد السياسي حزبان كبيران يشرف عليهما شيخان مسنان رسمت القواعد لكل منهما صورة البطل المنقذ والمخلّص وأصبحت لهما مكانة رمزية شبه قدسية شبيهة بتلك التي ظلت لدى الديكتاتور وهي عقلية ضد ثورية متأصلة في أزمنة الاستبداد وحكم الطغاة عبر التاريخ. وثورة الشباب التونسي كانت تحلم بالخروج عن هذه العقلية نهائيا والالتحاق بالحداثة والديمقراطية سلوكا قبل أن تكون مجرد شعارات سطحية.

ـ 4 ـ إن ثقافة العولمة السطحية   (La culture jetable) ــ التي تسعى عبر اعوانها إلى ترسيخها بديلا عن ثقافة السرديات الكبرى  (La culture des grands récits) ــ التي نشأت عليها اجيال القرن الماضي ساهمت بشكل كبير جدا في تحييد فئات كثيرة من الشباب عن الحياة السياسية وعمقت الهوة بين خطابي الماضي والحاضر إلى درجة شعور الشباب بالغربة الثقافية والتسطيح الثقافي، وقد اشتدت وطأة ذلك مع ميول الشباب إلى الانطواء وتفضيل العزلة الافتراضية على الانخراط في الواقع المعيش.  إن العزلة وعدم التواصل بين الأجيال عطل نمو المعرفة وتواصلها وانقطع التراكم المعرفي ، بتعبير هيغل، الذي يجعل العقل يطور العالم  الجدل عبر الصراع والتفاعلات الجدلية.

كل هذه الأسباب أدت إلى هزيمة فئة الشباب وعدم صمودهم في وجه أول عاصفة عصفت بهم وبمستقبلهم. وانسحبوا من المشهد السياسي في انتخابات 2014 وهو ما أفرز العدد الكبير لكبار السن في طوابير الانتخابات مقارنة بالشباب. ومن الطبيعي أن يفرز ذلك سلطة المسنين الذين يملكون خطاب قديما غير محيّن ولا يدركون طبيعة العصر ولا هموم الشباب ولا معاناته، وهو ما عمق الهوة بين الدولة والشباب، بين الخنوع والطموح، بين  الواقع والمستقبل. فضلا عن افتقاد القوى السياسية التي مسكت بالسلطة لأي مشروع تنموي مما حتّم عليهم مواصلة منوال التنمية القديم على اهترائه وإفلاسه.

إلا أن الطاقة الخلاقة في الشباب لم تنطفئ نهائيا إذ سرعان ما هبوا في الانتخابات الأخيرة في حركة عقاب انتخابي للمنظومة المهترئة والمفلسة واستبشروا خيرا في أستاذتهم وتخيروا منهم ما اعتقدوا أنه الأفضل والأكثر وفاء ووطنية وتمرسا بمهموم الشباب ومشاغله ومطالبه. واختاروا أستاذا للقانون الدستوري على أمل أن يقود البلاد نحو الحرية والكرامة الوطنية ونحو كل ما يمكن أن يتسع عن هذين المفهومين من تحرر وتنمية ونعيم وأمن وطمأنينة وانطلاق بالبلاد نحو الفعل الحضاري والتقدم. ولكن هذا الشباب نهض مرة أخرى على كوابيس أخرى لم تكن في الحسبان فقد تبين أن الأزمة ليست في الأشخاص بقدر ما هي في النصوص، وفي الدستور، وفي النظام السياسي، بل إن هذه الأزمة الدستورية تعكرت في غياب محكمة دستورية وضعفِ الزعيم المفترض في الارتقاء بمهامه إلى مستوى يليق بقيادة البلاد. لقد غرق الزعيم في المدرسية حيث لم يستطع تجاوز فصول الدراسة إلى منصات القيادة السياسية كما غرق في الشعبوية إلى حدود جعلته إلى زعيم حزب أقرب منه إلى رئيسٍ لكل التونسيين. بل إن الأمر الأشد خطورة هو ما تجلى للعيان من أن الجماعة في الطرف المقابل والتي توظف الدين قد استولت على عواطف التونسيين وتحصنوا بالمجلس وبالدستور نفسه الذين صنعوه ليفعلوا ما يريدون دون أي رادع أو محاسب.

أمام كل ذلك نخشى أن يعود الشباب من جديد إلى الانغلاق والسقوط في اليأس والانهزامية، بل إننا نخشى أمام ما ألمّ بهم من ثقافة سطحية من الانزلاق نحو التطرف والنقمة والانخراط في إيديولوجيا عقابية بعد أن فشلوا فيما أطلقوا عليه الانتخابات العقابية. إن هذا المنزلق وارد جدا، بل إنه واقع فعلا. وهو الخطر الكبير المحدق إن لم تتصرف مؤسسات الدولة بسرعة وتضع حلولا على أسس ثابتة ووفق دراسات علمية مركزة.

 الحلول العاجلة هي بيد الشباب والمراهنة على عدم انزلاقهم في المسارات المدمرة لدولتهم ولمستقبلهم. الطريق السليمة تكمن في ضرورة مراجعة الثغرات في النظام السياسي لقائم والحلول الآجلة هي المدرسة أولا، ثم إصلاح المؤسسة الإعلامية ثانيا.

بالنسبة إلى المدرسة تقوم الاستراتيجية على اعتبار المقاربة العلمية قبل المقاربة الأمنية. فمزانيات وزارات التعليم يجب أن تكون هي الأعلى وبرامج التعليم ينبغي أن تكون محايدة ومحصنة من الإيديولوجيات والتجاذبات الدينية والسياسية. والحل يكمن في التحلي بالشجاعة في التضحية وتقديم الامتيازات المادية للمدرسين، والتحلي بالصرامة في مراقبتهم والحرص على تكوينهم المستمر ورسكلتهم. ذاك هو الحل لخلق أجيال وطنية جديدة متوازنة غير متطرفة وهو الضامن للأمن لاحقا وللاستقرار والرقي. تلك تجربة قامت بها ماليزيا وتمكن من القضاء على الفساد إذ حرصت على إنتاج ثلاثة أجيال غير فاسدة انطلاقا من عمل مركز داخل المدرسة بالأساس، فانحل الفساد تدريجيا وبشكل تلقائي، ولأن الفساد في العقول فمحاربته ينبغي أن تتجه للعقول قبل الادعاء بمحاربته بمقاربات أمنية أو ردعية، لأن المحارب نفسه في هذه الحالة غير محصن من الفساد، وفاقد الشيء لا يعطيه.

أما بالنسبة إلى إصلاح المؤسسة الإعلامية فينبغي مراجعة برامج معهد الصحافة وعلوم الاخبار وتنقية المحتويات الأكاديمية من مظاهر التهريج والتسطيح الثقافي والجدب الفكري، الذي يتحالف خطابه في مستوى البنية اللاواعية مع الإرهاب والفساد. فالخطاب التهريجي وبث ثقافة سطحية وسريعة الزوال داخل المؤسسة الإعلامية يعمل على تشكيل عقل هشّ يكون عرضة لأي انحراف لا بالمعنى الأخلاقي بل بالمعنى الشامل للكلمة. بهذا الإجراء تبنى المؤسسة الإعلامية لاحقا وتصبح وطنية من داخلها وذات احترافية عالية تمكننا من المنافسات العالمية وترسم أهدافا وطنية تلبي تطلعات الشباب نحو الأفضل وتضمن تضافرها مع المؤسسات التعليمة في نحت النموذج الوطني المأمول.