في وجوب تفكيك النظام الإعلامي
بقلم: منجي الخضراوي
لقد قلنا إنّ النموذج الإعلامي التونسي يتصف بمستوى تدخّل الدولة وضعف الصحافة المكتوبة مع بروز انقسام سياسي يؤشّر إلى أنه نظام أقرب الى نموذج الاستقطاب التعدّدي” Pluraliste polarisé” أو النموذج المتوسّطي.
عناصر المنظومة سواء القانونية أو السياسية، تقوم على التدخّل في الأداء الاعلامي وفي مضامينه ومحتوياته.
لقد بدأت ملامح النظام الإعلامي في تونس تتشكل مع المجلس الأعلى للاتصال ( في البداية كان اسمه المجلس الأعلى للإخبار) الذي تمّ احداثه في 11 ديسمبر1973 بأمر صادر عن الوزارة الأولى (الأمر 636 1973)
وكانت مهامه الأساسية هي «دراسة وعرض كلّ التدابير التي من شأنها»:
• تطوير الهياكل التقنية وتحسين مستوى الاطارات والاستجابة لمتطلبات الرأي العام بصفة عامة.
• تحسين وسائل نشر الأخبار المتعلّقة بالشؤون التونسية سواء داخل البلاد أو خارجها حتى يكون الرأي العام مطلعا على الاختيارات الأساسية للأمّة وملمّا بالمنجزات التي تحقّقت منذ الاستقلال.
• الإسهام في اقرار سياسة عامة في ميدان الاعلام.
لقد تمّ إحداث الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي من خلال المرسوم عدد 6 لسنة 2011 مؤرخ في 18 فيفري 2011، وتقرّر حل اللجنة العليا للإصلاح السياسي، وتكليف رئيسها عياض بن عاشور برئاسة هيئة تحقيق أهداف الثورة. (أمر عدد 234 ، 2011)
ورغم أنّ مهام الهيئة كانت استشارية من خلال التعهّد «بالسهر على دراسة النصوص التشريعية ذات العلاقة بالتنظيم السياسي واقتراح الإصلاحات الكفيلة بتجسيم أهداف الثورة بخصوص المسار الديمقراطي، ولها إبداء الرأي بالتنسيق مع الوزير الأول حول نشاط الحكومة.» (من مرسوم عدد 6 لسنة 2011 مؤرخ في 18 فيفري 2011) الاّ أنها قامت بوظيفة تشريعية من خلال التصويت على العديد من المراسيم، التي من بينها المرسوم عدد 10 لسنة 2011 المؤرخ في 2 مارس 2011 و المتعلّق وإحداث هيئة وطنية مستقلّة لإصلاح الإعلام والاتصال والمرسوم عدد 41 لسنة 2011 المؤرخ في 26 ماي 2011، تمّ تنقيحه واتمامه بالمرسوم عدد 54 لسنة 2011 المؤرّخ في 11 جوان 2011 والمرسوم عدد 115 لسنة 2011 والمتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر والمرسوم عدد 116 لسنة 2011 والمتعلق بحرية الاتصال السمعي البصري وبإحداث هيئة عليا مستقلّة للاتصال السمعي البصري.
تراجع الإعلامي السلطوي ضمن نفس النظام الاعلامي
بعد جانفي 2011 تراجعت عناصر الاعلام السلطوي في تونس وبدأت حركة التغير تطرأ على الممارسة الصحفية التي بدأت تتحرّر من هيمنة السياسي السلطوي وقد ارتبط ذلك بالمتغيرات الجديدة وهي متغيرات موضوعية مثل سقوط السلطة السياسية وتراجع سطوة المحيطين والمرتبطين بها ووقوع متغيّرا في مستوى الحركة الاجتماعية إضافة الى العمل على إعادة بناء المنظومة القانونية سواء المتعلّقة بالدستور أو بالقوانين المرتبطة بالإعلام مثل الغاء مجلّة الصحافة واعتماد المرسومين 115 و 116 لسنة 2011 وقد مثّل صدور المرسوم عدد 14 لسنة 2011 المؤرخ في 23 مارس 2011 المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية، لحظة الإعلان عن نهاية الشرعية القانونية والاستناد الى الشرعية الثورية بعد حلّ مجلس النواب ومجلس المستشارين والمجلس الدستوري، ثمّ تقّرر إنهاء العمل بدستور 1959 بمقتضى الفصل 27 من القانون التأسيسي عدد 6 لسنة 2011 المؤرخ في 16 ديسمبر 2011 المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية.
تلك التغييرات خلقت شروطا موضوعية لممارسة صحفية مختلفة عن الممارسة التي كانت عليها قبل الرابع عشر من جانفي 2011.
بدأ المشرّع منذ الأيام الأولى للثورة، في العمل على ايجاد اطار قانوني لهيئة مستقلّة تُعهد لها مهمّة اصلاح الاعلام والاتصال وتعديله، وكانت الاجراءات الأولى بعد أقل من شهرين من سقوط نظام بن علي هي حل المجلس الأعلى للاتصال وإحداث هيئة وطنية مستقلّة لإصلاح
الإعلام والاتصال التي احدثها رسميا بموجب المرسوم عدد 10 لسنة 2011 المؤرّخ في 2 مارس 2011 والمتعلّق بإحداث هيئة عليا مستقلّة لإصلاح الاعلام والاتصال عُهدت إليها مهمّة تقديم مقترحاتها حول إصلاح الإعلام والاتصال و «اقتراح تصورات كفيلة بالارتقاء بالمؤسسات الإعلامية والاتصالية إلى مستوى أهداف الثورة وحماية حق الشعب التونسي في إعلام حر وتعددي ونزيه» اضافة الى تقديم مقترحات تشريعية من ذلك « إحداث هياكل تعديلية مستقلة في قطاع الصحافة المكتوبة والقطاع السمعي البصري وقطاع الإعلام الإلكتروني». (المرسوم عدد 10 لسنة 2011 الفصل 2).
منظومة قانونية متناقضة مع الحرية
نصّ دستور الجمهورية التونسية لسنة 1959، في فصله الثامن على أنّ « حرية الفكر والتعبير والصحافة والنشر والاجتماع وتأسيس الجمعيات مضمونة وتمارس حسبما يضبطه القانون.» ( أضيفت القانون الدستوري عدد 65 لسنة 1997 المؤرخ في 27 أكتوبر 1997)
الاّ أنّ هذا التنصيص الذي تناول تراتبية تبدأ بحرية الفكر مرورا بحرية التعبير ثم الصحافة فالنشر والاجتماع… لم يقدّم ضمانات لتلك الممارسة، اذ أنّه اختزل ممسارات حرية الفكر والتعبير والصحافة في ما يضبطه القانون، وهو ما يعني أنّه تمّ التضييق في الفصل الدستوري لفائدة النص القانوني، وما يؤكّد عدم ضمان دستور 1959 لتلك الحريات، هو سنّ قانون الصحافة لسنة 1975 وتمّ تنقيحه في أكثر من مناسبة آخرها سنة 2006، والذي مثّل نموذجا للقانون الذي يضيّق من مجال ممارسة حرية التعبير والصحافة
إنّ ترسانة القانونية التي كانت قائمة كانت تؤسّس لمجال “ابستيمي” تترابط عناصره بشكل بنيوي، تعمل كلها في اتجاه تنظيم الاعلام ومؤسساته وتحديد مجالات الانتاج الاعلامي، لذلك كانت منهجية الترويج لصورة تحررية لمقاربة تضمن حرية الصحافة، في جوهرها قسرية تؤسس لوضع ضوابط وحدود وحواجز أمام تلك الحرية، لذلك كان يتمّ استبعاد بعض الفصول التي تتضمن أحكاما بالسجن من مجلّة الصحافة لسنة 1975 عبر تنقيحات متواصلة، للترويج على “تحرريتها” لكن مقابل ذلك لم يتم الغاء تلك الفصول بل تمّ تحويلها الى المجلّة الجزائية
إنّ البنية القانونية تتضمن نصوصا متناثرة ومنتشرة في أكثر من مجلّة ومن مجال كما أنّ ظهور الشروط التاريخية التي أنتجت تحوّل البداية في مسار النظام الإعلامي كانت مرتبطة كليا بالنظام السياسي.
تغييرات شكلية لم تفكك النظام الاعلامي
إن سقوط نظام بن علي في 14 جانفي 2014، فتح الأبواب أمام الفاعلين لمراجعة المنظومة الاعلامية السلطوية، والدخول في مسارات مشروع الاعلام الديمقراطي، وعَرف مسار الانتقال في المجال الإعلامي اجراءات هيكلية، مثل احداث الهيئة الوطنية لإصلاح الاعلام والاتصال وسنّ مجموعة من المراسيم المتعلّقة بالصحافة وبالاتصال السمعي والبصري ثم احداث الهيئة العليا المستقلّة للاتصال السمعي البصري والتنصيص صلب الدستور الجديد (دستور 27 جانفي 2014). وتم الغاء ذلك في دستور 25 جويلية 2022 ولم يتم التنصيص على الهيئة التعديلية اذ نصّ دستور 2022 في الفصلين 37 و 38 على أنّ «حرّية الرّأي والفكر والتّعبير والإعلام والنّشر مضمونة.» وأنّ الدولة تضمن «الحقّ في الإعلام والحقّ في النّفاذ إلى المعلومة.»
كان المشترك هو احداث تغييرات في الاعلام في اتجاه تحريره ومساهمته في ديمقراطية المجتمع والدولة المنشودين، ويمكننا تقسيم فترة ما بعد الثورة الى فترة الى أربع مراحل:
يمكننا أن نعتبر تاريخيّا أنّ مرحلة الاصلاح الأولى تمتدّ بين الرابع عشر من جانفي 2011 و23 مارس 2011، لماذا هذا التقسيم وماهي مبرّراته؟
واصلت المنظومة القانونية والسياسية والإعلامية في تونس بعد الرابع عشر من جانفي 2011، تشتغل وفقا للنظام القانوني المستند الى دستور 1959 أي وفقا للآليات القانونية والسياسية والهيكلية للنظام السابق، رغم اسقاط السلطة اسقاطا ثوريا، وقد فوّضت المنظومة القانونية القديمة العديد من السلطات من بينها ماهو تشريعي لرئيس الجمهورية المؤقت في ظلّ المسار الثوري، استنادا الى القــانــون عدد 5 لسنة 2011 المؤرخ في 9 فيفري 2011 يتعلق بالتفويض إلى رئيس الجمهورية المؤقت في اتخاذ مراسيم طبقا للفصل 28 من الدستور، أي دستور 1959.
لقد أدّت الثورة الى انهيار المنظومة السلطوية دون اسقاط النظام القانوني والسياسي الذي كانت المنظومة الاعلامية تتمركز حول مقارباته التاريخية والسياسية والتنموية، وبانهيار تلك المنظومة سقطت معها سلطة الرقابة التي كانت تفرضها لتتحكم بها في الشأن الاعلامي، لذلك شهدت هذه الفترة بعد سقوط تلك المنظومة حالة من الفراغ مع غياب منظومة جديدة.
امتدّت هذه الفترة من 23 مارس 2011 الى 27 جانفي 2014، أي بين بداية مسار الشرعية الثورية بعد تعليق العمل بدستور 1959، والمصادقة على الدستور الجديد.
شهدت هذه الفترة اصدار المرسوم عدد 41 لسنة 2011 مؤرخ في 26 ماي 2011 يتعلق بالنفاذ إلى الوثائق الإدارية للهياكل العمومية والذي تمت مراجعته بالمرسوم عدد 54 لسنة 2011 المؤرخ في 11 جوان 2011، وهو أوّل نص قانوني يشرّع للحق في النفاذ الى الوثائق الإدارية رغم أنّ الجدل كان قائما حول حق النفاذ الى المعلومة (article19, 2013).
هذه الفترة شهدت الغاء مجلّة الصحافة لسنة 1975، بعد نقدها طويلا قبل الثورة وبعدها، وتمّ تعويضها بنص قانوني جديد وهو المرسوم عدد 115 لسنة 2011 المؤرّخ في 2 نوفمبر 2011 والمتعلّق بحرية الصحافة والطباعة والنشر، كما تمّ اصدار المرسوم عدد 116 لسنة 2011 المؤرّخ في 2 نوفمبر 2011 والمتعلّق بحرية الاتصال السمعي والبصري وبإحداث هيئة عليا مستقلّة للاتصال السمعي والبصري. وانتهت الفترة بالمصادقة على دستور سنة 2014 الذي نصّ على هيئة الاعلام باعتبارها هيئة اتصال سمعي بصري لها دور تعديل القطاع.
نصوص جديدة في مواجهة واقع متحرّك
أثارت النصوص القانونية الجديدة، والتي كانت في شكل مراسيم العديد من الإشكاليات إزاء واقع متحرّك استطاع من خلال دينامياته أن يكشف عن بعض الخلل في المرسومين 115 و 116، اذ تضمن مبدأ حماية الصحفيين من خلال الفصل 12 من المرسوم عدد 115 لسنة 2011 نقيضه، اذ ينصّ على أنّه «لا يجوز أن يكون الرأي الذي يصدر عن الصحفي أو المعلومات التي ينشرها سببا للمساس بكرامته أو للاعتداء على حرمته الجسدية أو المعنوية.» لقد اعتمدت بعض المؤسسات الإعلامية على هذا المبدأ للقيام بتجاوزات وخروقات للقيم المتعلقة بأخلاقيات المهنة اذ برزت صحف مختصّة بالثلب والشتم والتشهير وقد ظهرت العديد من السلوكيات والممارسات الجديدة التي تمسّ من حقوق الآخرين بعد أن تبيّن وجود اخلالات إجرائية في طريقة اثارة الدعوى وفقا للمرسوم الجديد الأمر الذي خلق سلوكا خارج خشية العقاب القانوني وفوق ضوابط المعايير المهنية والأخلاقية، لذلك استوجب الأمر العديد من المراجعات.
نظام اعلامي مغلق يخدم رأس المال الاشهاري
بدأ النظام الإعلامي في تونس يتشكّل في ديسمبر 1973 مع احداث جهاز المجلس الأعلى للإخبار الذي أصبح المجلس الأعلى للاتصال.
وتمّ بناء أركانه مع مجلّة الصحافة سنة 1975، ثم في تنقيحات 1993 وتصدير العديد من الفصول السالبة للحرية إلى العديد من المجلات وخاصة المجلة الجزائية.
وقد ارتبط النظام الإعلامي بتونس بطبيعة النظام السياسي الذي كان يعتبر الاعلام جناح للترويج السياسي والدعاية، واربط اقتصاديا بدعم السلطة وبالإشهار المشروط، فكان المخطط الاقتصادي للمؤسسات الإعلامية رابطا بين النظام الإعلامي والنظام السياسي، وتم استعمال وكالة الاتصال الخارجي أداة لتلك الرابطة.
بعد الثورة 17 ديسمبر 2010 /14 جانفي 2011 تمّ احداث هيئة لإصلاح الاعلام
تعرّض النظام الإعلامي لمحاولة التغيير لكنه بقي قائما من خلال دستور 1959 ومن خلال النظام الاقتصادي شبه الرأسمالي وبقيت المؤسسات الإعلامية مرتبطة بنفس المخطط الاقتصادي وبدعم السلطة.
رغم سن المرسومين 115 و 116 في نوفمبر 2011، إلاّ أنّ النظام الإعلامي ظلّ قائما في جزئه الاقتصادي وفي شبكة القوانين التي تحكم البلاد مما أنتج إشكاليات في المستوى الاجرائي وفي صمود العديد من المؤسسات الإعلامية التي اضطرت للاغلاق.
حاولت المهنة إيجاد حلول للإصلاح من خلال العمل على مراجعة تلك المراسيم ولكنها لم تنجح في ذلك، اذ تمّ اعلام سلطة جديدة يوم 25 جويلية 2021، بعد الإعلان عن حالة الاستثناء في البلاد من قبل الرئيس قيس سعيد وحلّ الحكومة وتجميد البرلمان ثم حلّه.
لقد تواصل النظام الإعلامي بعد 25 جويلية 2021 بنفس العناصر رغم التغييرات الشكلية التي لت تشمل الجوهري وخاصة المنظومة الاقتصادية، كما تشابكت عناصر جديدة لتأكيد انغلاق النظام الإعلامي من خلال التشريعات القانونية مثل المرسوم عدد 54 لسنة 2022 مؤرخ في 13 سبتمبر 2022 يتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال خاصة في فصله 24.
إنّ النظام الإعلامي في تونس أحدث مغلقا وتمّ ربطه منذ إحداث عناصره بالسلطة السياسية وبرأس المال الاشهاري الذي يأخذ أشكالا عديدة منها ماهو فاسد مخالف للقانون ولأخلاقيات المهنة، وظلّ هذا الارتباط متواصلا، وبالتالي فإنّه لا يمكن تقديم إعلام مستقل وحر له جودة باعتباره خدمة عامة، إلاّ بتفكيك النظام الإعلامي الحالي وإعادة تشكيل نظام اعلامي جديد.
منجي الخضراوي