بقلم: منجي الخضراوي

يتشكّل المشهد الإعلامي التونسي من مؤسسات واهية وضعيفة اقتصاديا أمام تراجع موارد الاشهار وباعتبار قيام النموذج والمخطط الاقتصادي للمؤسسة على الإشهار وهي اذ يمكننا أن نقول إنها لا تتوفر فيها شروط المؤسسات العصرية والموارد الضرورية للتطور إضافة الى أنّ الأزمة لامست المنتج الصحفي في مستويات المضامين والشكل، إذ لم تستطع الصحافة المطبوعة مسايرة التحولات التكنولوجية التي يشهدها الاعلام، و أصبحت أدوار التلفزيون أكثر فاعلية على حدود 2021 واستطاع أن يستفيد من المتغيرات السياسية التي عرفتها تونس منذ سنة 2011.

كما تغيب الشفافية عن المؤسسات الصحفية مثل المعطيات المتعلقة بالطباعة والبيع رغم التنصيص عليها في المرسوم عدد 115 لسنة 2011، كما أنّ مؤسسات الاتصال السمعي البصري لا تنشر موازناتها المالية على صفحاتها الرسمية مثلما يقتضيه المرسوم عدد 116 لسنة 2011، وهو ما يمس من مبدأ الشفافية، اذ تعتبر تمويلات أغلب المؤسسات الإعلامية غير معروفة وغامضة.

كما أنّ مؤسسات التدريب والتكوين تعتمد  كليا على التمويل الخارجي، اذ لا تساهم الدولة في مخططات التكوين وتكتفي بخلاص أجور العاملين في المركز الافريقي لتدريب الصحافيين و الاتصاليين.

أمّا بالنسبة الى التوازي السياسي فإنّ المؤسسات الإعلامية استطاعت ضمن السياق التونسي بعد الرابع عشر من جانفي التخلص من ثقل الاعلام السلطوي وانفصل عمّا هو حزبي، اذ تراجعت صحافة الأحزاب وأغلقت أغلب الجرائد الحزبية التي كانت ناشطة ومنتشرة نسبيا قبل الثورة (الموقف – الطريق الجديد – مواطنون…).

إنّ انفصال الصحف عن المجال الحزبي لم يمنع ارتباط بعد المؤسسات الإعلامية بأشخاص وبمصالح سياسية، ولكنها عموما ليست مرتبط ارتباطا عضويا أو ارتباطا تنظيميا (باستثناء قناة نسمة التي يملكها رجل الأعمال نبيل القروي والتي تستعمل أساسا في الدعاية له في الانتخابات الرئاسية التي تمّ اجراؤها في سبتمبر 2019 وقد تمكن من المرور الى الدور الثاني مع المرشح قيس سعيد)، في مقابل ذلك فإنّ المجال الصحفي الذي هو في طور التشكّل يعرف تجاذبا بين نموذجين للصحفي، باعتبارهما يشكلان لحظة باراديغم .

النماذج السياسية/الاعلامية

النموذج الأول يرتبط بتمثلات الصحفي لنفسه على أنّه قائد للرأي العام ومسؤول عنه (حوارات تمّ اجراؤها مع صحفيين وفاعلين في المهنة الصحفية في اطار هذا البحث) وهو نموذج يعتبر أنّ دور الصحافة هو تثقيف الجمهور وصناعة رأي عام وأن الصحفي ملتزم بجملة من القيم والأفكار والرؤى التي يجب أن يبلغها للجمهور حتى يصبح حاملا لتلك القيم، وقد برزت هذه المقاربة أساسا في فترة حكم الحبيب بورقيبة اذ كان تصور الدولة للإعلام على أنه يدافع عن قضايا الأمة وخياراتها ومصالحها  وبرزت أيضا في فترة حكم بن علي اذ كانت وسائل الاعلام تشيد بمكاسب النظام السياسي ثم بعد الثورة وخلال كلّ فترات الحكومات المتتالية.

أمّا النموذج الثاني فهو الذي يعتبر الصحفي مجرد ناقل للأخبار بشكل دقيق وموضوعي وحيادي وهي مقاربة تقتضي عدم الالتزام بأي موقف، وهو ما يتمثله عدد من الصحفيين عن أنفسهم (حوارات تمّ اجراؤها مع صحفيين وفاعلين في المهنة الصحفية في إطار هذا البحث) اذ يعتبرون أنّ قيمة الحياد هي قيمة أساسية وأنه يجب التمييز بين التعليق والخبر وأنّ المهنية تقتضي عدم تبني أي موقف والاكتفاء باخبار الجمهور بكلّ حياد ونقل للمعلومات بكلّ صدقية وموضوعية وفورية.

أمّا بالنسبة الى المهنية في السياق التونسي فهي تحضر من خلال سعي الصحفيين الى تأكيد استقلالية عملهم عن أي ضغوط خارجية واحداثهم لمجالس تحرير رغم أنها لم تنجح لظروف ذاتية وأخرى موضوعية إضافة الى اعتماد المؤسسات الإعلامية مواثيق تحريرية ومواثيق تتضمن قيما لأخلاقيات المهنة، وسعي الصحفيين لإدارة شؤونهم التحريرية بأنفسهم أو تجربة استخدام منظومة للرصد والمتابعة في التغطية الإعلامية للانتخابات مثل تجربة مؤسستي الإذاعة والتلفزة التونسيتين من أجل التعديل ذاتيا في المستويين الكمي والكيفي خلال الحملة الانتخابية.

عودة الاعلام السلطوي

يتعلق المؤشر الرابع بالسياق التونسي وبدور الدولة فالإعلام في تونس قبل الثورة كان اعلاما سلطويا يخضع للسلطة السياسية ويعمل ضمن سياقاتها ومجالاتها، وتخضع العلاقة بين مؤسسات الاعلام والسلطة السياسية الى ثنائية الاستيعاب أو النفي. الاّ أنه بعد الثورة تراجع دور السلطة السياسية ولم يتمّ التمييز بين دورها ودور الدولة، اذ غابت ما يعرف بالسياسة العمومية للإعلام مثلما هو الشأن مثلا بالنسبة الى البي بي سي (الميثاق الملكي Royal charter ) كما تمّ حلّ وزارة الاتصال والمجلس الأعلى للاتصال ووكالة الاتصال الخارجي وتمّ سن قانونين وهما المرسوم عدد 115 و 116 حيث تمّ التقليص من دور وزارة الداخلية ومن دور السلطة والدولة معا.

بعد 25 جويلية تاريخ حل رئيس الدولة لحكومة وتجميد البرلمان في مرحلة أولى ثم حله في مرحلة ثانية ودخول حالة الاستثناء من خلال الأمر رئاسي عدد 117 لسنة 2021 مؤرخ في 22 سبتمبر 2021 يتعلق بتدابير استثنائية، ثم تجميد دور الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري (الهايكا).

لقد أصبح تعيين المسؤول الأوّل في الاعلام العمومي يعود بالنظر إلى رئيس الجمهورية، الذي أصبحت له مثلا سلطة الرقابة على التلفزة العمومية (استدعاء المديرة العامة لمؤسسة التلفزة ومساءلتها من قبل رئيس الجمهورية بتاريخ 4 أوت 2023). لقد عاد الاعلام في تونس في جزئه العمومي سلطويا.

عندما نعود إلى النماذج التي تناولها الباحثان هالين ومانشيني اللذان توصلا الى ثلاثة وهي النموذج التعدّدي القائم على الاستقطاب وهو يسود في فرنسا واليونان وإيطاليا والبرتغال واسبانيا. وهو نموذج يعرف بضعف انتشار الصحافة المكتوبة وبالتداخل بين السياسي والصحفي مع حضور حالة التوجيه وتدخّل قوي للدولة وميل لدى صناع المضامين الى صحافة الرأي ودعم مالي للصحافة المكتوبة.

أمّا النموذج الثاني فهو النموذج الديمقراطي المؤسسي (Democratic corporatist model)   ويضمّ استراليا وبلجيكا والدنمارك وفنلندا وألمانيا وهولاندا والنرويج والسويد وسويسرا  ويتميّز بالانتشار القوي للصحافة المكتوبة وبقوّة المؤسسات ولا تتدخّل الدولة الاّ لضمان حرية الصحافة وهو نظام يتأسس على وجود قطاع اعلام عمومي يتمتع بالاستقلالية إضافة الى وجود صحافة أحزاب قوية مع تحوّل الى الصحافة التجارية المحايدة ويستم هذا النظام بمهنية عالية ومأسسة قوية للتنظيم الذاتي (الحمامي، الصادق، 2007).

النموذج الثالث وهو النموذج الليبرالي ويضمّ بريطانيا وكندا وايرلاندا والولايات المتحدة، ويتسم بانتشار متوسط ومعتدل للصحافة المكتوبة ومؤسسات إعلامية قوية تجاريا وبمهنية عالية وبتنظيم ذاتي قوي مع الخضوع بشكل كبير لمنطق السوق ومعادلات العرض والطلب مع دور للدولة ضعيف يكاد ينعدم باستثناء بريطانيا.

طبيعة النظام الاعلامي في تونس

عند اخضاع المنظومة الإعلامية التونسية للنماذج الثلاثة لهالين ومانشيني فإننا نجدها تتضمن مؤسسات إعلامية ضعيفة وانتشار ضعيف للصحافة المكتوبة مع وجود أطر للتعديل الذاتي بصدد التشكل ووجود تداخل بين السياسي والصحفي وانتشار ما يعرف بظاهرة المال السياسي في الاعلام (بيان هيئة الاتصال السمعي البصري بتاريخ 16 سبتمبر 2019(   وتفاقم تأثير مراكز الضغط المالي والحزبي مع قدرة بعض المؤسسات الإعلامية التي كانت مرتبطة بشكل كبير مع المنظومة السلطوية قبل الثورة على إعادة التأقلم مع المشهد الجديد مع اكتساب القدرة على التأثير فيه ويتسم السياق الإعلامي التونسي بوجود هيئة تعديلية وبجمعية لدعم مجلس للصحافة وبمجلس للصحافة بصدد التشكل وبعدم وجود سياسة عمومية للإعلام وبوجود مؤسسات اعلام عمومي في كلّ المجالات السمعية والبصرية والمكتوبة والوكالة والرقمية مع وجود مؤسسات اعلام مصادرة.

لقد حدّد الفصل 62 من قانون المالية لسنة 2018 طرق وشروط دعم الصحافة المكتوبة من قبل الدولة. وهو ما يؤكّد دعما جزئيا من الدولة للصحافة.

 يمكننا أن نستنتج بناء على كلّ ذلك أنّ النظام الإعلامي التونسي يختلف تماما عن شروط النموذج الليبرالي ولكنه في المقابل يتسم بسمات تدخل الدولة للمساعدة مع الانتشار الضعيف للصحافة المكتوبة وتغليب الرأي وهي شروط النموذج التعددي القائم على الاستقطاب ويتسم النظام الإعلامي التونسي بوجود الاعلام العمومي وانتقال من صحافة الأحزاب الى الصحافة التجارية المحايدة وهو جزء من سمات النموذج الديمقراطي المؤسّسي.

اذن لا يشبه النظام الإعلامي التونسي النماذج التي طرحها الباحثان هالين ومانشيني ولكنه يأخذ من النموذجين الأول والثاني ويتسم بالتداخل بين العديد من المكونات الهيكلية والقانونية والمهنية وبين التمثلات المختلفة، فهو نظام اعلامي بصدد التشكل يمزج أكثر من نظام وهو أقرب، في مستويات ما من مكوناته، مثل التعديل الذاتي ومجلس الصحافة، الى التجربة البلجيكية المصنّفة ضمن النموذج الأول الذي هو الأقرب للنموذج التونسي.

اذن النموذج الإعلامي التونسي هو نموذج بصدد التشكّل يجمع من بعض النماذج التي حدّدها الباحثان هالين ومانشين بطرف وهو في مستوى تدخّل الدولة وضعف الصحافة المكتوبة مع بروز انقسام سياسي يؤشّر الى نظام أقرب الى نموذج الاستقطاب ‏ التعدّدي” ‏Pluraliste ‎polarisé‏” أو النموذج المتوسّطي.