يواصل قطار الاجراءات الاستثنائية التي أعلن عنها الرئيس قيس سعيد في الخامس والعشرين من جويلية سنة 2021 التحرك نحو المحطة الأخيرة في مسار قيل أنه مسار سياسي إصلاحي يهدف إلى تصويب المسار الديمقراطي الذي انخرطت فيه تونس منذ سنة 2011 وإعادته إلى الطريق السليم، فيما واجهت إجراءات الرئيس سعيد عديد الانتقادات الداخلية والخارجية، لكن ذلك لم يمنعه من اجتياز مراحله الثلاث انطلاقا من الاستشارة الوطنية ثم استفتاء الخامس والعشرين من جويلية 2022 على دستور تونس الجديد والمضي نحو إجراء انتخابات نيابية جديدة بعد تنقيح القانون الانتخابي فما هي أبرز هذه التنقيحات وأي مجلس ستفرزه انتخابات السابع عشر من ديسمبر القادم ؟
الانتخابات التشريعية في تونس تاريخ حافل بالمتغيرات
يجمع المؤرخون والباحثون في التاريخ القديم على أهمية التجربة الديمقراطية في الإمبراطورية القرطاجية التي عرفت عهدا من الانفتاح السياسي تمثل في عدد من المجالس التي اختلفت تركيبتها باختلاف الحقبة الزمنية فمجلس الشيوخ ومجلس الحكماء ومجلس الشعب كان لكل واحد منها دور بارز في توجه قرطاج نحو الديمقراطية السياسية وبما أن تونس هي الجمهورية التي كان لها النصيب الأكبر من إرث قرطاج، نجد أن هذا الامتداد التاريخي تواصل مع التجربة الدستورية في تونس التي تعد من بين الأعرق في العالم العربي وحتى الغربي، لكن قائد دولة الاستقلال الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، بشرعيته التاريخية والنضالية عمد إلى تركيز سلطة الحزب الواحد وسيطرة الفكر الواحد على دواليب الدولة وإدارة الشأن العام ومن ذلك السلطة التشريعية التي تمثل بشكل كبير أحد أعمدة البناء الوطني، وبهذا يكون الحزب الدستوري على اختلاف تسمياته قد بسط سيطرته على البرلمان التونسي منذ فجر الاستقلال، لتتواصل هذه السيطرة خلال حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي .
كان النظام الانتخابي المعمول به في الانتخابات التشريعية طيلة أكثر من نصف قرن نظاما يقوم على القائمة المغلقة والأغلبية المطلقة، أي أن الناخب يختار القائمة كاملة دون أن يكون له الحق في اختيار بعض أفرادها، ورفض البعض الآخر، أما بالنسبة إلى النتائج، فالقائمة الفائزة بأكبر عدد من الأصوات، تفوز بكافة مقاعد الدائرة ، وكانت هذه الانتخابات تتم تحت إشراف وزارة الداخلية التي تعلن بدورها عن النتائج، وذهب العديد من السياسيين التونسيين إلى وصف هذه الانتخابات بالصورية نظرا إلى فوز الحزب الحاكم بجميع المقاعد على امتداد أكثر من 5 عقود، ورغم بروز شكل من أشكال المعارضة السياسية داخل البرلمان التونسي بداية من انتخابات 1994 إلا أنها عُرفت بالمعارضة الكرتونية التي صنعها نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي لتلميع صورته في الخارج .

ولادة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات:
جاءت لحظة التغيير بعد أحداث 17 ديسمبر 2010 التي أدت إلى ذهاب الرئيس الراحل زين العابدين بن علي وعائلته إلى المملكة العربية السعودية، منفاه الأخير بعد سقوط نظام حكم البلاد لمدة 23 سنة، وبهذا دخلت تونس مرحلة ما سمي بالانتقال الديمقراطي، تحت إشراف الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، التي قامت بعد شهر على تأسيسها بتأسيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في أفريل 2011، وأوكلت إليها مهمة الإشراف على الانتخابات في تونس بعد أكثر من نصف قرن من إشراف وزارة الداخلية عليها وبهذا تكون الجمهورية التونسية من البلدان العربية القليلة التي تنتقل فيها إدارة العملية الانتخابية من السلطة التنفيذية إلى هيئة مستقلة، ما يمثل أحد أبرز وأهم الركائز في ديمقراطيات العالم، إذ يؤكد دليل المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، أنه من بين الأشكال الثلاث لإدارة العملية الانتخابية تبرز الإدارة المستقلة كخيار ناجع لشفافية ومصداقية الانتخابات في بلد ما.

وقامت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بصياغة القانون الانتخابي الجديد الذي صدر في المــرسـوم عدد 35 لسنة 2011 المؤرخ في 10 ماي 2011 .
ويمثل هذا القانون الانتخابي “قطعا مع النظام السابق المبني على الاستبداد وتغييب إرادة الشعب بالبقاء غير المشروع في السلطة وتزوير الانتخابات ووفاء لمبادئ ثورة الشعب التونسي الهادفة إلى إرساء مشروعية أساسها الديمقراطية والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والكرامة والتعددية وحقوق الإنسان والتداول على السلطة ” بالإضافة إلى ” أن القانون الانتخابي السابق لم يكفل انتخابات ديمقراطية وتعدّدية وشفّافة ونزيهة “
وطرح القانون الانتخابي لسنة 2011، 5 نقاط أساسية تعلقت بنظام الاقتراع، ونوعية القائمات
كما نص على اعتماد مبدأ التمثيلية النسبية وأكبر البقايا، ودعم حق المرأة في الترشح عبر إقرار مبدأ التناصف في تقديم الترشحات والتناوب في ترتيب المترشحين بين النساء والرجال.


القانون الانتخابي وتنقيحات 2014
مع صدور دستور سنة 2014 والمصادقة عليه وختمه، دخل هذا الأخير حيز النفاذ، وبهذا يكون انتهى دور المجلس الوطني التأسيسي ، ليصدر في 26 ماي 2014 القانون الأساسي عدد 16 المتعلق بالانتخابات والاستفتاء وهو قانون حافظ في مجمله على تفاصيل قانون 2011، بينما اعتبرت المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية أنه ” داعم بشكل كبير للحقوق الانتخابية للمواطنين التونسيين في مختلف الميادين وفقا ما تقتضيه الالتزامات المنبثقة عن القانون الدولي لحقوق الإنسان، ومعزز لشفافية العملية الانتخابية”.
وذكرت المنظمة في تقريرها عن قانون الانتخابات لسنة 2014عدد من النقاط السلبية إذ “حافظ في بعض جوانبه على توجه تقييدي، لا سيما فيما يتعلق بحرمان العسكريين وأعوان قوات الأمن من حق الاقتراع. كما أنه تضمن بعض الأحكام الانتقالية وهو ما ترك المجال واسعا أمام الإدارة الانتخابية لاتخاذ تراتيب بخصوص مسائل كان ينبغي أن تنظم بمقتضى قانون”.
سنة 2019، سعت حركة النهضة وحزب تحيا تونس، لتعديل القانون الانتخابي بهدف ضرب عدد من الخصوم السياسيين، ومنع الائتلافات والأحزاب الصغيرة من الوصول إلى المجلس عبر الانتخابات التشريعية المزمع إنجازها في السنة نفسها، وضعية رفضها الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي الذي ماطل في المصادقة على التنقيحات، ما اعتبره المتابعون للشأن السياسي موقفا صريحا من الرئيس الذي وافته المنية بعد أيام قليلة .
تنقيح الرئيس قيس سعيد للقانون الانتخابي
بعد حوالي سنتين على انتخاب الرئيس قيس سعيد في انتخابات رئاسية سابقة لأوانها سنة 2019، اتخذ سعيد الإجراءات الاستثنائية خلال وضع اتسم بكثرة المشاحنات السياسية والغليان الاجتماعي بسبب الظرف الاقتصادي الصعب الذي تعيشه تونس بعد أزمة كوفيد 19 .
وصدر في 15 سبتمبر 2022 المرسوم الرئاسي عدد 55 معلنا انتهاء العمل بالنظام الانتخابي القديم ونهاية حقبة كان لبرلماني 2014 و 2019 بالدور الأهم في رسم سياسات الدولة .
لكن التعديلات الجديدة لم يكن لها أثر كبير على أغلب مكونات القانون الانتخابي اذ حافظ المرسوم عدد 55 على أغلب الفصول المتعلقة بتنظيم الانتخابات وعمل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وفرز الصناديق وتسجيل الناخبين وغيرها من العمليات اللوجستية، لكنها أحدثت تغييرات جذرية وعميقة في نظام الانتخابات.
من الاقتراع على القائمات الى الاقتراع على الأفراد
مست تعديلات القانون الانتخابي خمسة جوانب رئيسية ضمن النظام الانتخابي فانطلاق من الانتخابات التشريعية لسنة 2022 سيكون الترشح لعضوية مجلس نواب الشعب فرديا على عكس المعمول به سابقا لننتقل بهذا من نظام الاقتراع على القائمات الى نظام الاقتراع على الأفراد، وسيكون الاقتراع على دورتين إلا في حالتين استثنائيتين ضبطهما القانون الانتخابي.
Graphique Video 3
تقلص عدد النواب في القانون الانتخابي الجديد
في الانتخابات التشريعية لسنتي 2014 و2019 كان عدد الدوائر الانتخابية 33 دائرة وتعتبر كل ولاية دائرة انتخابية باستثناء ولايات تونس وصفاقس ونابل التي تنقسم كل منها الى دائرتين نظرا لثقلها الديمغرافي ، و يضم البرلمان 217 نائبا، لكن في القانون الانتخابي الجديد تقلص عدد النواب بشكل واضح، ووصل 161 نائبا .
النائب بين صعوبة الترشح وإمكانية سحب الوكالة
تشترط التعديلات الجديدة على القانون الانتخابي جمع كل مترشح 400 تزكية من طرف الناخبين المسجلين في دائرته الانتخابية ونص القانون على ضرورة توقيع التزكية بشكل رسمي في المقر الفرعي للهيئة العليا المستقلة للانتخابات أول البلدية، ونصت التعديلات على إمكانية سحب الوكالة من النائب في حال إخلاله بواجباته، لكن هذا سحب الوكالة أو التفويض الشعبي للنائب يمر بمراحل معقدة.
وترى الباحثة في القانون أميرة البقلوطي أن في ذلك هدرا للوقت والمال اذ أنه في حال قبول هيئة الانتخابات لعدة عرائض وسحب الثقة من عدد من النواب سوف تضطر الهيئة الى إعادة الانتخابات في عدد من الدوائر وهو مكلف من الناحية المادية ناهيك عما شهدته الانتخابات البلدية الجزئية من تراجع في نسب المشاركة ما يطرح عديد التساؤلات حول مستقبل البرلمان القادم.

إلغاء التمويل العمومي
أُلغيت بموجب القانون الانتخابي الجديد المنحة العمومية التي كانت تمثل سابقا مساهمة من الدولة في مصاريف الحملات الانتخابية، إذ تشترط التعديلات الجديدة أن يكون تمويل الحملات الانتخابية إما تمويلا ذاتيا أو تمويلا خاص في المقابل نجد في انتخابات 2011 أن المترشح كان يعتمد إما على التمويل الذاتي أو التمويل العمومي ولم يكن مسموحا بالتمويل الخاص أما في انتخابات 2014 تم السماح بالانتفاع بالتمويل الخاص لكن مع وضع شروط معينة وسقف لهذا التمويل .أن المترشح كان يعتمد إما على التمويل الذاتي أو التمويل العمومي ولم يكن مسموحا بالتمويل الخاص أما في انتخابات 2014 تم السماح بالانتفاع بالتمويل الخاص لكن مع وضع شروط معينة وسقف لهذا التمويل .

ترى الباحثة في القانون الدكتورة أميرة البقلوطي أن ” هذه التغييرات التي تم إحداثها بصفة مسقطة دون حوار تشاركي يجمع كافة الأطياف السياسية، تشكل هاجسا كبيرا وخلقت الكثير من المخاوف خاصة بسبب العديد من النقاط التقنية التي تم تنقيحها فتقسيم الولاية إلى دوائر صغيرة قد يكون مدخلاً ‘للعروشية’ وبسط نفوذ العائلات الكبيرة وهكذا قد تصبح الروابط الدموية مؤثرة بشكل كبير في نتائج الانتخابات” أما الغاء التمويل العمومي فترى فيه “حرمانا للعديد من المواطنين من ممارسة حقهم في العمل السياسي وتقلد مسؤوليات تشريعية” .
أما القيادي بحزب التيار الشعبي الدكتور حسن عز الدين دياب فأكد أن ” الغاء مصاريف التمويل العمومي فيه قطع مع استغلال المال العام وفوضى وعبثية في الترشح وبهذا يتحمل المترشح مسؤوليته دون أن تكون النية استغلال المال العمومي “
تباين المواقف من انتخابات 17 ديسمبر :
أما سياسيا فتتباين المواقف بين الأحزاب والشخصيات الوطنية والمنظمات بين مساند للمسار، ومعارض لهذه الانتخابات فقط وبين من يذهب رأيه الى معارضة المسار الذي يقوده الرئيس قيس سعيد برمته.
إذ أنه على خلاف الدستور السابق، الذي كرس دورا محوريا للبرلمان ومنحه المسؤولية الرئيسية عن تشكيل الحكومة، جعل دستور الخامس والعشرين من جويلية لسنة 2022 من الحكومة مسؤولة أمام رئيس الجمهورية وحد من نفوذ البرلمان الذي أصبح يتكون من غرفتين اثنتين، مجلس النواب والمجلس المجلس الوطني للجهات والأقاليم.
وانتقدت أحزاب سياسية على غرار حزب العمال القانون الانتخابي واعتبر حمة الهمامي أمين عام الحزب في تصريح لنا أن ” هذه الانتخابات مسقطة وهي متأتية من أجندة الرجل الواحد صاحب السلطة المطلقة” مؤكدا أن حزب العمال لن يشارك في هذا الاستحقاق الانتخابي ولن ” يكون شاهد زور على تركيز آخر أركان دكتاتورية سعيد ” على حد تعبيره.
وفي تصريح لنا اعتبر صهيب المرزيقي رئيس حركة البعث التونسية وعضو اللجنة الاستشارية من أجل اعداد الدستور أن الحركة منخرطة تماما في المسار منذ بدايته والمرور الى انتخابات تشريعية ” بات أمرا ضروريا لإخراج البلاد من الحالة الاستثنائية وعودة دواليب الدولة لسيرها الطبيعي ما قبل لحظة 25 جويلية من خلال عودة كافة المؤسسات الدستورية الى سالف نشاطها من بينها المؤسسة التشريعية “
أما بخصوص القانون الانتخابي فيرى المرزيقي أن هذا القانون خول لكافة أطياف الشعب التونسي الترشح لعضوية مجلس النواب القادم وأكد أن مقترح تقليص عدد النواب كان من بين المقترحات التي تقدمت بها حركة البعث خلال مشاورات اللجنة الاستشارية لكن ” ما يعاب على هذا القانون الانتخابي هو أن الانتخابات ستكون على الأفراد فقط وكانت حركة البعث ” قد دعت الى أن تكون انتخابات مزدوجة على قائمات حزبية وعلى الأفراد ” مقترح يبدو أنه لم يلاق صدى لدى رئيس الدولة.
ويرى المرزيقي أن هذه الانتخابات قد تفضي الى برلمان خال من الكفاءات الاقتصادية وغيرها، حيث أن ” الأحزاب السياسية كان لديها برامج يسهر الأفراد الذين تم تصعيدهم الى مجلبس النواب على تطبيقها، لكن مع غياب قائمات حزبية مع منطق الترشح الفردي لا يمكن أن يكون هناك تصورات مع غياب الكفاءات العلمية الاقتصادية وغيرها عن المشهد النيابي “
أمال الدكتور حسن عز الدين دياب فاعتبر أن مجلس النواب عاد الى وظيفته الرئيسية وهي ” سن القوانين والمصادقة على القوانين ” وأكد دعم التيار الشعبي لمسار الخامس والعشرين من جويلية معتبرا أن “على بقية الأحزاب السياسية واجب دعم المسار والانخراط في الجمهورية الثالثة، التي فتحت المجال أمام المعارضة للتعبير بكل حرية عن رأيها ، لكن عددا من الأحزاب اتخذت موقفا سلبيا من الانتخابات ليس خوفا من غياب الديمقراطية بل لأنه ليس لهم الثقة كاملة بأنفسهم أن يكون لهم مترشحين قادرين على الفوز نظرا لانهيار شعبيتهم “
أما مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات الذي يقع مقره في إسطنبول بتركيا فقد أشار في دراسة استشرافية للوضع في تونس ، الى أنه توجد ثلاث سيناريوهات أمام تونس أولهما “انهيار الحالة الديمقراطية في تونس واستمرار الرئيس التونسي في الإدارة الانفرادية” أما السيناريو الثاني فهو ” تمكن الرئيس قيس سعيد من استيعاب جزء من المعارضة مع القيام بإصلاحات محدودة ” لكن السيناريو الأخطر الذي لا يستبعده مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات هو الانفجار الشعبي ” بسبب تأزم الوضع الاقتصادي والاحتقان الاجتماعي.
بلغ العدد الجملي للمترشحين للانتخابات التشريعية بعد انتهاء آجال تقديم الترشحات، 1427 مترشحا ويعد عدد المطالب المقدمة أوليا للمشاركة في انتخابات 17 ديسمبر 2022 الأضعف منذ انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011، كما أن محاولات الهيئة العليا المستقلة للانتخابات فشلت في الوصول الى الارقام والتكهنات التي أعلنت عنها .
وائل النهيدي