وأنت تستعرض الصفحات المشرقة للرياضة التونسية تطالعك ملحمة ستبقى راسخة في ذهن الذاكرة الرياضية الوطنية بكل مكوناتها, قصة بطولية بكل ما تحمله الكلمة من معاني التحدي و العزيمةوالصبر فالطريق إلى التألّق الوطني والدولي يبقى محفوفا بالصعوبات والعراقيل الذاتية والموضوعية لاسيما إذا تعلق الأمر بذوات إنسانية ذات احتياجات خاصة تقود صراعا يوميا من أجل ضمان أساسيات الحياة والبقاء في هذا العالم الذي تغلب عليه القسوة و الشدة فما بالك إذا رفعت سقف طموحاتها لتفتك حقها في ممارسة الرياضة كحق إنساني أجمعت عليه كل الأمم بل وتمكّنت من التألق والنجاح ونحتت أسمائها بالذهب الخالص عالميا وأولمبيا حينها نكون إزاء قصص استثنائية تدعونا إلى التفكير و التمحيص ثم رفع القبعة إجلالا لها و لتضحياتها من أجل اثبات الوجود والفعل لأن همتها تعلقت بما وراء الممكن إلى صنع المعجزات…
وتقوم قصة وليد كتيلة ذلك الشاب الذي لم يختر إعاقته، خير شاهد على تدابير القضاء والقدر بعد أن فتح عينيه في أحد الأيام ليجد نفسه قابعا على كرسي متحرك وما تبعه ذلك من آلام وأوجاع لا يدرك معاناتها إلا صاحبها وعائلته المصغرة… ولكن لم يكن يدرك ذلك الشاب أن الأيام تخفي بين طياتها قصة بطل صنع من العجز قوة, وقَلَبَ كل المعطيات فحوّل القاعدة إلى استثناء جميل بفضل عزيمة حديدية و إصرار على النجاح والتألق، فكان له ما أراد لينجلي ليل المأساة إلى فجر جميل مفعم بالعزة و الشموخ، بعد أن أصبح وليد كتيلة بطل فاقت إنجازاته الحدود وسجل اسمه من ذهب في أقوى المنافسات الرياضية الكونية على الإطلاق ونعني بها الالعاب البرالمبية في أكثر من نسخة.
وحين تستمتع لوليد كتيلة وهو يحاول بهمّة الأبطال استنهاض الذكريات تدرك صدمة الحقيقة و الواقع لتكون إزاء مشهد تراجيدي بكل ما تحمله الكلمة من معاني الإحباط و الصدمة يحاول كتيلة يستجمع الأسطر الأولى في حياته الرياضية بالعودة إلى الولادة و النشأة مشددا بنبرة ممزوجة بعبرات تحبس في العيون وتأبى النزول ولادتي كانت طبيعية مثل أي رضيع فتح عينيه في هذه الدنيا مكتمل الأوصاف و الأطراف ولكن شاءت الأمراض و العلات أن تتحكم في مصيري وتخلف معها عاهة وإعاقة لم تمثل حجرة عثرة بالنسبة لي في أسرتي الصغيرة بما أن الوالدة كانت تعاملني أنا وشقيقتي على قدر المساواة دون تمييز أو استصغار أو استنقاص..”.
ملعونة تلك الحمى التي أصابت رضيعا لم يتجاوز حوله الثاني لتحكم عليه بالإعاقة على مستوى الأطراف السفلى ليخرج وليد كتيلة إلى محيطه الخارجي حاملا احتياج خصوصي وعلى كرسي متحرك ولكنه لم يكن في أي لحظة من اللحظات حاجزا من أجل العيش والتعايش مع محيطه الخارجي بكل ثقة في النفس دون مركبات أو إحساس بالنقص. تابع كتيلة حنينه للماضي مستجمعا ما تبقّى من الذكريات الممزوجة بالسعادة طورا و الإحباط أطوارا أخرى متوقفا عند فترة دراسته الابتدائية… “كانت مرحلة جد مؤثرة في حياتي بما أنني زاولت تعليمي بمدرسة عادية يؤمّها الاطفال الأسوياء وبالتالي ساهم هذا الأمر في تسهيل عملية اندماجي صلب المجتمع في مطلع العمر فكان يتبادل أطراف الحديث مع أصدقاء الدراسة و زملائه في كل المواضيع لساعات طويلة فلم تكن تلك الإعاقة العضوية سوى لحظة عابرة أسيرة ماضي تجازوه الزمن ومرض أحمق، حكم عليه بالجلوس على كرسي وهو يتابع ركض زملاء الصّغر ولهوهم ومرحهم و ممارستهم للرياضة بشتي اختصاصاتها …ولعلّ تلك المتابعة غرست في وليد كتيلة بذور التحدي فكان كل شيء جاهزا لاقتناص الفرصة الحاسمة و الانقضاض عليها من أجل حياكة تاريخ مع الرياضة وضرب موعد مع الإشعاع وملامسة المجد.
ولأن الصدفة كثيرا ما كانت وراء صنع الأحداث الكبرى ولحظة ميلاد الأبطال في عديد الميادين والمجالات، فإن حديث الصدفة الذي قاد وليد كتيلة مع أحد أساتذة التربية البدنية في المعهد كان إعلانا لبزوغ اسم سطع في عالم رياضة أصحاب الهمم ليتلقف الشاب اليافع الفرصة ويتسلل من فجوة باب موصد إلى رحاب هوايته المفضلة في ممارسة الرياضة لينطلق بذلك إلى عوالم أخرى مغايرة قطعت مع الصورة النمطية لشاب حامل لإعاقة قدره العجز والانتظار منتقلا إلى واقع جديد وآفاق رحبة …
وكان جليا من خلال قسمات وجه البطل البراليمبي وهو يتحدث عن مسيرته وقصته التي اختلط فيها الجانب الاجتماعي بالرياضي مدى أهمية الماضي المعيش وطفولته في صقل موهبته من الناحية البسيكوجية خاصة، اذ قطع كتيلة بحكم المناخ الأسري الملائم مع كل مظاهر التمييز السلبي أو التعامل الدوني الذي يلقاه أي طفل في سنه في أغلب الوضعيات، وهنا لا يملّ من ذكر فضل والدته في تنشئته نشأة سليمة خالية من العقد والمركبات، ليخرج بعدها الى محيط الشارع والمدرسة مكتمل الثقة معتزا بواقعه.
كل تلك العوامل جعلت كتيلة يتعامل مع العرض المقدم له بممارسة الرياضة بكل أريحية بل فتحت له افاقا أرحب، ولهذا ردد في أكثر من مرة “لا يمكنني أن أنسى فضل والدتي عليّ وهي التي رعتني وأخذت بيدي باعتبار حاجياتي الخصوصية بل جعلتني لا أشعر بأي نوع من أنواع النقص فكنت أتعامل مع محيطي بكل ثقة و إقتدار وهو ما ساهم بصفة بعديه في نحت شخصيتي بعالم الرياضة حيث أن أولى شروط النجاح والتألق لأي رياضي من الأسوياء كان أو من أصحاب الهمم هي الثقة بالنفس والقدرة على المواجهة.
ولم يكن الواقع الجديد الذي وجد وليد كتيلة نفسه فيه طريقه سالكا أو مفروشا بالورود بل كان محفوفا بالمطبات والعقبات، وهنا توقف كتيلة برهة من الزمن للتعريج عن البدايات قائلا: «صحيح أن كلام أستاذ التربية البدنية الذي حدثني عن امكانية ممارسة الرياضة المخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة قد راق لي في البداية وكنت متحمسا للغاية لدخول هذا العالم ونسج فكري أحلام جميلة ولكن ذلك كان مجرد هلاميات وأمنيات صبى استبق الزمن باندفاع حيث عشت لحظات صعبة للغاية لحظات كنت أخشى فيها الانهيار و التراجع بل كدت أن أعود أدراجي والاستكانة إلى البيت ورمي المنديل ولكن أجهل حقا سرّ تلك القوة الكامنة التي تملكتني في لحظة ما لأقرّر المضي في هذا الطريق إلى نهايته”.
فترة عصيبة لم تغادر مخيلة وليد كتيلة رغم مرور سنوات طويلة بما أنها كانت حاسمة في تحديد مصيره، المصير الرياضي و مصيره كإنسان لأن الرياضة ولو كانت على كرسي متحرك كانت بالنسبة لوليد كتيلة تحدي العمر وكسر تام لأي شعور وبالنقص لا سيما و أن التقدم في العمر من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب كان يزيد في الإحساس بشيء ما غير مكتمل مهما عظم دور الإحاطة العائلية وبالتالي كانت ممارسة الرياضة و التألق فيها سبيلا للخلاص حيث عاود كتيلة الرجوع لتلك الفترة مؤكدا غير آبه بتكرار وكلماته عشت الظلم و الحيف في مشواري الرياضي، ظلم استمر سنوات طويلة كنت فيها أقاسي وأجاهد من أجل التمسك بالنجاح، لأنني كنت على ثقة تامة بإمكانياتي وقدراتي على فعل أشياء كثيرة بعد أن استحال هذا التحدي قضية حياة أو موت”.
نجح كتيلة في تثبيت قدمه في ممارسة اختصاص مسابقة الكراسي وتحديد في ما يعرف اصطلاحا بسباقات (ت 34) في مسافات 100 و 200 و 400 و 800 متر وأصبح مثابرا على تدريباته, حريصا على التواجد الفاعل من خلال تطوير نفسه و امكانياته البدنية و الفنية في ظل فترة لم تكن سهلة بالمرة بل عانى فيها من ويلات الظلم والحيف ولكنه كان يتعامل مع كل تلك الحواجز و العراقيل بكثير من الثقة ويقابلها بالعمل و الاجتهاد وهو ما جعله يتألق و ينجح في تحقيق الأرقام القياسية الدنيا التي اهلته الى تقمص زي المنتخب الوطني التونسي للرياضيين ذوي الاحتياجات الخاصة او أصحاب الهمم وبذلك فتح كتيلة لنفسه صفحة جديدة من قصة كفاح ونجاح عانق همة السماء.
بدايات النجاح الدولي عبر بوابة المنتخب التونسي كانت محطة مفصلية في مسيرة وليد كتيلة الرياضية ولهذا اتى عليها قائلا ” لم يكن من السهل الالتحاق بصوف المنتخب الوطني التونسي لان اختيار العناصر التي ستمثل المنتخب في مختلف المسابقات الدولية لم يكن يخضع لانتقاء ذاتي بل كنا امام ارقام موضوعية وعلمية لا تقبل لا المجاملة و لا المحسوبية أي أن كل رياضي مطالب بتحقيق ارقام قياسية دنيا من اجل نيل شرف الدفاع عن الراية الوطنية وهذا ما تمكنت منه في اختصاصي (ت34) لاسيما سباقات 100 و 200 و 400 و 800 متر وكنت في تلك اللحظات مدركا أن أبوابا من المجد و الشهرة ستفتح في وجهي و الاعلان عن نقلة نوعية ساهمت في تغيير مسار حياتي 180 درجة”.
أولى محطات النجاح العالمي و البراليمبي لوليد كتيلة كانت سنة 2012 بمناسبة العاب لندن إذ تمكن هذا الفتى من صنع المفاجأة وفرض إسمه بين عمالقة السباقات في هذا الاختصاص وذلك بإحراز ميداليتين ذهبيتين في سباق 100 و 200 متر (ت 34).
ومن لندن عاصمة الضباب إنقشعت سحابة النقص و الحاجة والهوان عن حياة وليد كتيلة, ليدخل عوالم الشهرة و الاشعاع و التميز ديدنه الايمان بقضاء الله وقدره وشعاره رفع التحديات, ليصنع قدرا اخر غير ذلك الذي وهبته حياة الدنيا وينحت مسيرة زاخرة بالتتويجات من رحم الالم و المعاناة.
وهنا تستوقفك نبرة الاعتزاز في صوت كتيلة وهو يتحدث عن تلك الانجازات المحققة قائلا في ذلك “كانت العاب لندن البداية الفعلية لمشوار التميز على المستوى الدولي إذ من غير السهل الفوز بميداليتين ذهبيتين في أول مشاركة اولمبية وفي ظل منافسة كبيرة من رياضيين يتمتعون بخبرة طويلة في المجال الا انني تسلحت بالعزيمة وقدمت كل ما لدي من قوة فكان الفوز حليفي وتوجت صدر وطني بميداليتين ذهنيتين
لم يزد الذهب الاولمبي وليد كتيلة إلا اصرارا و ثباتا على مواصلة المسيرة فكانت هالة الشهرة عاملا مساعدا على مزيد البذل والعطاء،كانت السنوات الاربعة الفاصلة عن ألعاب ري ودي جانيرو فرصة للاجتهاد إذ وكما يقال في عالم الرياضة فإن الوصول الى القمة سهلا و لكن البقاء فيها أصعب بكثير ولهذا كان التواضع شمة كتيلة ليضرب موعدا متجددا مع المنصات الأولمبية في عاصمة بلاد السامبا سنة 2016 بإحراز ميدالية ذهبية في سباق 100 متر و أخرى فضية في سباق 800 متر.
“لا يمكن أن انسى تلك اللحظات و أنا أستمع الى السلام الوطني لبلادي في لحظة تناقلتها عدسات المصورين والعشرات من القنوات التلفزية ولا يمكن أن أنسى لحظات إستقبال الحافلة في مطار تونس قرطاج وكيف فتحت لي أبواب القاعة الشرفية ليزيدني ذلك عزة و فخر هذا فضلا عن التكريمات التي طالتني من كل الأطراف و إختياري أفضل رياضي براليمبي في تونس لسنوات عديدة” هكذا اراد كتيلة تلخيص لحظات الفرح و تداعياتها والتي تواصلت الى العاب بلاد الساموراي في اليابان في صائفة 2020 والتي عاد فيها الذهب مجددا ليوشح صدر كتيلة في سباقي 100 و800 متر ليسجل هذا البطل التونسي اسمه كعلامة مميزة مرادفة لكل ماهو تحدي و اشعاع .
ولم تتوقف انجازات البطل التونسي الذي استحال الى اسطورة الالعاب البراليمبية عند حدود ذلك بل تمكن من تحطيم ارقام قياسية عالمية في بطولات العالم لالعاب القوى لذوي الاحتياجات الخاصة في مدينة ليون الفرنسية في سباق (ت 34) وإحراز 4 ميداليات ذهبية… وأعاد تألقه على ارض الدوحة سنة 2015 في نفس الحدث العالمي بنفس عدد الميداليات حيث لم يكسر قاعدة الامتياز على ارض عربية لاتؤمن إلا بالامتياز الذي أضحى قدرها المحتوم.
وخلال بطولة العالم في لندن 2017 فاز كتيلة كذلك ب3 ميداليات ذهبية جعلت حياته تشهد تغيرا جذريا اعترف به قائلا” النجاح الرياضي أثر على حياتي الخاصة ايما تأثير حيث انقلبت وضعيتي من حال الى حال ولا اقصد هنا الجانب المادي بل أعني الجوانب المعنوية و الاجتماعية حيث أصبحت مثالا يحتذى به ومحل ترحاب و تقدير و تبجيل في مجتمعي”.
لم يتوقف كتيلة وهو يواصل سرد قصته كثيرا عن الجوانب المادية وكأنه يتحاشى الحديث عنها لأسباب أضح يعرفها القاصي و الداني بحكم عديد الاسباب و الظروف مشددا “لا يمكن لي ان انكر التشجيع المادي الذي نلته عقب نجاحي البراليمبي و الدولي فالاعتراف بالجميل فضيلة ولكن يبقى ذلك نسبيا وكنت اتمنى ان انال ما يتناسب مع حجم التضحيات التي قدمتها و لكن عزة نفسي تمنعني من المطالبة رغم اني رفضت عديد المغريات التي كانت يمكن ان تغير حياتي نحو الأفضل.
“لن تتوقف احلامي عند هذا المنجز حيث اتابع تحضيراتي للاستحقاقات القادمة وأهمها بطولة العالمة لألعاب القوى لأصحاب الهمم و الالعاب البراليمبية باريس 2024 والتي قد تكون خاتمة مشواري الرياضي وسأسعى جاهدا الى إنهائه بنجاح باهر.
حديث النهايات مع البطل التونسي كان مشوقا كبداياته حيث تكتشف وأنت تتطلع الى مشاريعه المستقبلية و حياته الرياضية بعد الاعتزال انك امام انسان يدرك ما يفعل بالضبط دقيق في توجهاته منهجي في تفكيره مبينا في هذا الشأن “بدأت بالتفكير فعلا في المشاريع التي يمكنني الانخراط فيها بعد نهاية مشواري الرياضي حيث تراودني فكرة بعث اكاديمية اتولى خلالها تلقين الاطفال و الشبان ذوي الاحتياجات الخاصة تقنيات السباقات العدو على الكراسي حيث تعوزنا في تونس وكذلك في الوطن العربي مثل هذه الاكاديميات الرائدة التي تفتح ابواب الامل للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة وتغذي فيهم روح المثابرة والعزيمة”.
بنبرة التفاؤل و النظرة المطمئنة لمستقبل رياضي من معدن خاص انهى وليد كتيلة الحكاية وهو يتلهث الى المزيد ولسان حاله يقول أن الاعاقة لا يمكن أن تكون عضوية او ذهنية بل الاعاقة الحقيقة في إنتفاء قدرة الانسان على الفعل و الإنجاز والحلم بتحقيق الأماني والأهداف. ذلك هو وليدة كتيلة البطل العالمي التونسي من أصحاب الهمم, قد تكون حكايته متشابهة مع بعض النماذج الاجتماعية و قد تعرف مسيرته النسيان مع تتالي السنوات والحقب،ولكن القيم التي دافع عنها من تضحية و تحدي وعزيمة… لا يمكن لها أن تموت فهي خالدة وباقية لأنها ببساطة جوهر الحياة وهدف الإنسانية وغايتها التي تسير بها نحو عالم أسمى فأسمى.
إيمان الوسلاتي