JDD Tunisie la révolution inachevée

كتب منجي الخضراوي

من الأسئلة التي تُطرح على السياسيين والمثقفين في تونس، سواء في الحكم أو في المعارضة، لماذا تونس في أزمة؟ هل هي أزمة نظام أم أزمة ثقافية أنثروبولوجية؟ بمعنى آخر هل هي أزمة هيكلة الحكم وطبيعته أم أزمة شعب لم يكتسب الخبرة التاريخية في مراكمة القيمة من الصراع؟

رغم انجاز اسقاط السلطة السياسية يوم 14 جانفي 2011 في انتفاضة شعبية لها جذور قدّمت خلالها أجيال تضحيات بالسجون والنفس… إلاّ أنّ المقاربة التجزيئية الاستئصالية للتاريخ تعتبر الانتفاضة المؤدية لإسقاط سلطة بن علي بدأت يوم 17 ديسمبر، وتعتبر هذه المقاربة أنّ 14 جانفي تآمرت على 17 ديسمبر.

المقاربة التجزيئية

إنّ هذا التصور يظلّ تصوّرا تجزيئيا ينظر للتاريخ نظرة ستاتيكية جامدة ولا يؤمن بالمراكمة.  لقد راكمت أجيال من الحركة الطلابية والنقابية والشعبية مواجهات مع النظام السياسي غير الديمقراطي في عهد بورقيبة وفي عهد بن علي واستطاعت بعض الحركات افتكاك مكاسب وعرفت المواجهة تقدّما وتراجعا في فترات معيّنة.

إنّ اسقاط نظام بن علي هو نتاج لمعادلة عناصرها متداخلة ومتشعّبة ومعقّدة منها سلوك النظام نفسه إذ أصبح غير قادر على استيعاب وجود أزمة فهو نظام مصاب بالعمى لا يرى إلاّ ما يحلو له.

لقد كان النظام اقتصاديا مرتبطا بالنظام الرأسمالي دون أن يكون رأسماليا، فالإنتاج في تونس في جزء منه بدائي ورأس المالي الوطني لم يتشكّل بصفة نهائيا إذ ظلّ مرتبطا بالدوائر المالية والاستثمارية الدولية وتمّ ضرب البرجوازية الوطنية المتمثّلة أساسا في الحرفيين وصنّاع البازار التونسي لفائدة سماسرة ووسطاء يقدمون خدمات للشركات متعدّدة الجنسيات لقاء الحصول على العمولة.

طبيعة التحالف الحاكم

النظام السياسي في تونس في طبيعته يسيطر عليه تحالف بين برجوازية الوساطة والتوسّط والبرجوازية المحلية المرتبطة بالدوائر الرأسمالية، وهو تحالف لا وطني.

هل تغيّرت تركيبة النظام وهل تغيّر نمط الإنتاج؟

حتما لا، فنفس نمط الإنتاج الريعي والزراعة التقليدية مع دولة مبنية على الجباية التي تحصل عليها من البرجوازية الصغيرة أي من الأجراء والموظفين، نفس الدولة بمعناها النظامي le système  ظلّت هي المسيطرة في عهد بورقيبة وفي عهد بن علي وفي عهد الثورة ولا تزال متواصلة إلى اليوم.

السؤال المطروح هل استطاعت الثورة استئصال هذا النظام والقيام بمهمتها التاريخية المتمثلة في التغيير الجذري الثوري؟ وهل استطاع قيس سعيد من خلال حركة 25 جويلية 2021 التي أعلن فيها عن تجميد أعمال البرلمان وحلّ الحكومة أن يقتلع النظام بمعانيه العميقة.

إنّ الثورة وحركة قيس سعيد لم تستطعا القيام بالتغيير الجذري المطلوب تاريخيا من أجل الإنجاز الثوري، بل نحن بصدد حالة تعايش راهنا بين قيس سعيد بما يحمله من دلالات والنظام في تشكيلاته غير الوطنية.

هذا النظام السياسي يقابله حراك شعبي حركته غير مستقرّة ولكنها منتظرة، لقد أدّت الشروط الموضوعية ماقبل 14 جانفي إلى الانتفاضة الشعبية فالاقتصاد والحيف الاجتماعي والطبقي والجهوي أدّى بالجهات والطبقات المهمّشة والأكثر تفقيرا والتي ليس لها ما تخسره غير قيودها إلى التمرّد وإعلان المطالبة بالتغيير الجذري.

النظام ينقذ نفسه بإنهاء دور بن علي

في هذه الحالة ولمحاولة تصدّي النظام لحالة متقدّمة من الانتفاضة الشعبية سعى إلى العمل على تدارك الحركة من خلال مسايرتها كسحب البساط من تحت أقدام بن علي وإنهاء دوره بإدارة من أطراف تونسية في النظام الذي يرأسه بن علي ثم بعد ذلك ضرب تحركات القضبة الأولى والثانية ثم تكثيف العملية الثورية في عمل مؤسساتي تمّ من خلاله تكليف عياض بن عاشور وعدد من الخبراء لإدارة الصراع وتحويله إلى حالة مؤسسية تحسمها الانتخابات.

من البديهي إذا كان بلد ما في أزمة اقتصادية حادة وتوتّر اجتماعي في أقصاه وانسداد أفق وعدم فهم وتفسير دقيق لما يجري، يلجأ الناس إلى التفسيرات الغيبية وهو ما جعل جزءا كبيرا منهم ينتخب حركة النهضة الإسلامية، بمعنى أنّ الحركة الثورية التي يجب أن تكون حتما حركة تقدّم في التاريخ نجدها تختار حزبا رجعيا يمينا يبنى مقاربته على الأسس الدينية.

الخبرة التاريخية للشعب

إنّ الحركة الشعبية في تونس التي تعود ارهاصاتها إلى مواجهة الاستعمار الفرنسي وقبل ذلك المواجهة المسلّحة ضدّ سلطة الباي العميلة، التي قادها علي بن غذاهم في حركة ثورية تقديمية انتهت باعتقاله واغتياله تسميما في “كراكة حلق الواد” بالعاصمة تونس.

رغم المحطات التاريخية المهمّة لمواجهات الشعب التونسي مع السلطة السياسية سواء في العهد الاستعماري أو في ما يعرف بدولة الاستقلال أو ما بعد الرابع عشر من جانفي فإنّ عملية المراكمة بمعناها الهيجلي لم تتمّ.

إنّ المواجهات الشعبية لم تؤدّي إلى مراكمة تاريخية لخلق التنظيم الثوري والقيادة الثورية والبرنامج الثوري، بل خلقت كفاءات نقدية اقتصادية وسياسية وفكرية دون أن يكون لها الأثر التغييري في المجتمع.

إنّ الشعب التونسي يفتقد بهذا المعنى لما يعرف بالخبرة التاريخية للشعوب، مثلا شعوب أمريكا اللاتينية أصبح لها من الخبرة ما جعلها تتحصّن من إمكانية عودة الديكتاتورية وتمكنت من الانطلاق بسرعة نحو الديمقراطية والحداثة، وهو نفس الأمر بالنسبة إلى العديد من الدول الإفريقية مثل رواندا التي أصبحت القوى الشعبية فيها داعما أساسيا للتوجه الاقتصادي الجديد الذي قفز بالبلاد إلى مواقع متقدّمة.

إنّ الخبرة التاريخية للشعب عنصر أساسي ومهم في بناء التحوّل الديمقراطي، وهو ما يعوز المجتمع التونسي الذي مازال يئنّ تحت وطأة نظام سياسي واقتصادي يمكن وصفه بالإجرامي لارتباطاته بالقوى الخارجية الاستعمارية أكثر من ارتباطاته بالمصلحة الوطنية

منجي الخضراوي