بقلم: عز الدين البوغانمي

تفعيل رئيس الجمهورية للفصل 80 واتخاذه للتدابير الاستثنائية يوم 25 جويلية 2021 بتجميد عمل البرلمان، وتعليق حصانة النواب، وإقالة رئيس الحكومة من مهامه، وإعلان عزمه تعيين رئيس وزراء جديد مكلف بتأليف حكومة جديدة. علينا أن نتذكّر على الدّوام، ونُذكّر الجميع بأن تلك الخطوة لم تأت من فراغ. ولم تكن صدفة. ولا هي نزوة شخصية ولا جنوح فردي لتعمد تجميع السلطات وضرب التجربة الديمقراطية. لأن مثل هذا الكلام خاطئ ومنافي للوقائع وغير أخلاقي في وجه من وجوهه.
لماذا؟
أولا، جاءت قرارات الرئيس بعد أشهر من التحركات والمظاهرات التي اندلعت في تونس، احتجاجاً على تردّي الأوضاع المعيشية، ورفضا للفوضى السياسية التي عطّلت دواليب الدّولة، وعطّلت مصالح الناس.

ثانيا، وبغاية الإيجاز، نُشير إلى بعض المؤشرات التي تعطي الدليل القاطع على خطر الانهيار وتفكك الدولة وعلى ما بلغته البلاد من أوضاع مأساوية على جميع الأصعدة، لم يكن بالإمكان استمرارها بأية حال من الأحوال:
تراجع الاستثمار، وتراجع النّمو وتوقف عجلة الإنتاج بشكل غير مسبوق، وهذا أدّى إلى ارتفاع نسب البطالة وتضاعفها وتوسّع رقعة الفقر إلى درجة الجوع البيّن..
تراجع الترقيم السيادي.
تراكم المديونية.
انهيار المنظومة الصّحّية.
تدهور المدرسة والنقل والخدمات في جميع الإدارات بلا استثناء.
إهمال الثقافة بشكل ممنهج ومتعمّد.
خوصصة مؤسسة الأمن واختراقها عن طريق وُصول عناصر متطرفة وإرهابية إلى مركز القرار.
السيطرة على جزء مهمّ من القضاء وتوظيفه توظيفا حزبيا لحماية المجرمين، وإبطال تعقّب الفاسدين.
السيطرة على الإعلام واستخدامه في تخريب الحياة السياسية.
استشراء الرشوة والمحسوبية والفساد.
سيطرة التهريب على أكثر من ثلث الاقتصاد الوطني.
التلاعب بالمال العامّ.
تحول البرلمان إلى سوق نخاسة يتنافس فيه المهربون والهاربون من العدالة على النفوذ داخل الدولة. إضافة إلى مشاهد العنف والفوضى والفضائح.

هكذا كان المشهد العام يوم 24 جويلية، فيما كان التوانسة يموتون بالكوفيد يوميا بسبب قلة الدواء وغباب المواد الطبية وانتدام الرعاية الاستشفائية.

تعطلت الدولة بسبب كل هذه الأعطاب دون وجود أية إمكانية لحاسبة الفاسدين. ودون تتبع ولا عقاب، ولا حتى مجرد تحديد للمسؤولية، في ظل منظومة عدالة مخذولة بقضاة فاسدين يحمون المجرمين ويتسترون عليهم. ويمكنونهم من الإفلات من العقاب بما في ذلك الضالعين في قضايا جنائية خطيرة مثّلت تهديدا مباشرا للدولة والمجتمع.

إزاء هذه الأوضاع الكارثية، نهض الشعب التونسي لمواجهة تردّي الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة في جمنة وأولاد جاب الله وفي تالة والقصرين وسليانة وباجة وجندوبة وصفاقس وقابس. وفي تونس الكبرى انفجرت الأحياء الشعبية بالليل وبالنهار. ولأول مرة يندفع الأحداث ليلا لإيصال رسائل الخصاصة للحكام. وظل الشعب، رغم جائحة الكورونا، يطالب بتغيير عميق على نحو تُحفظ فيه كرامة الناس.

حل شهر جويلية المشتعل كعادته، واستمرت سوء معالجة الحكومة لأزمة تفشي “كورونا” وعدم توفير اللقاحات للمواطنين، وعدم وصول المساعدات الطبية إلى الفقراء الذين كانوا يتساقطون يوميا بالمئات تحت حوافر الوباء، فيما راجت صور رئيس الحكومة السابق يسبح ويتنقّه في أفخم نزل الساحل. وهكذا بدأ غضب الناس وقهرهم يتصاعد ويتفاقم حتى بلغ ذروته يوم 25 جويلية، يوم الرّموز والدلالات التاريخية..
نجح الرّئيس في اختطاف الاحتجاجات الشعبية العارمة، مُستندا إلى رصيد الثقة الذي يتمتع به منذ انتخابه، ليحوّل تلك الاحتجاجات إلى قرار تاريخي أنهى بها مرحلة، وافتتح مرحلة جديدة.

إذن، كانت تلك القرارات التي اتخذها الرئيس متفقة مع مطالب المواطنين الذين تجمعوا في محيط مقر البرلمان يومها، للدعوة إلى تنحي الحكومة، وحل البرلمان. بحيث أغلقت قوات الشرطة أغلب المداخل المؤدية إلى مقر البرلمان، ومع ذلك نجح المتظاهرون في الوصول إلى الشوارع القريبة منه، مرددين شعارات مطالِبة بحلّه، وأخرى تطالب بحلّ حركة النهضة على أساس أنها الحزب الأول الذي أضرّ بالبلاد وبالشعب.

ثالثا، وبناء على كل هذا، لا يجوز نعت مساندي الاجراءات الاستثنائية ب”الانقلابيين والتافهين والانتهازيين والأغبياء وأتباع بن علي والجبناء”. لأن من يتهم أغلبية شعبه بمثل هذه التهم إما أعمى لا يرى وأصمّ لا يسمع، أو مريض بأعصابه، أو قوّاد صغير للخوانجية، وله غاية خاصة، مهما تظاهر بالعفّة وسلامة بكارته.

هؤلاء الناس لا يرون ماذا حدث. لا يرون الجوع. لا يرون خراب الإدارة. لا يرون الإرهاب السّاكن في قصر العدالة، لا يرون تقرير محكمة المحاسبات، لا يرون تقارير هيئة الدفاع حول الجهاز السري وارتباطه برئيس البرلمان اامُجمّد، لا يرون شيئا من هذا لأنهم غير معنيين بهذه القصايا.
ما يستفزني حقيقة، هو أن تجد الواحد منهم منغمسا في الزّهو بثقافته القانونية المدرسية المجردة، متناسيا كل أعوار منظومة الإرهاب والفساد. متناسيا ملايين الناس الهادرة في الشوارع. كطفل يلعب بخصيتيه ويشتم الناس بشتى أنواع الستائم، ويبكي على “ديمقراطية” الكناطرية والجهاز السري والبيريتّا.. والغريب أن بعض القانونيين الشكلانيين يتناولون ما حدث يوم 25 جويلية حصرا من وجهة نظر القانون. ويستهزؤون من بقية الشعب على أنه لا يفهم في القانون. يعني الأحداث السياسية لا يبحثها علم الاجتماع السياسي، ولا علوم سياسية، ولا أيّ فرع من فروع العلوم. يكفي أن يُفسّرها محامي مُتمكّن من تفاصيل الفصل 80 المكتوب بإشراف المفكرة الكبيرة سنية بن تومية.
فما دام سي الخرا محامي، نحن انقلابيين ولا نفهم شيئا في هذه الحياة.
منذ نهاية الخمسينات بيّن الفيلسوف الفرنسي ريمون آرون في محاضراته في السوربون التي أعاد تحديثها وطباعتها في كتاب
“الديمقراطية والشمولية”
حيث يرى أن التحليل الفلسفي يهتم بتقييم مزايا الأنظمة السياسية أيها أفضل من الآخر، ومدى شرعية نظام عن الآخر، بينما علم الاجتماع يهتم بدراسة واقع الأنظمة دون إصدار أحكام قيمية قد تسيء للبحث. في حين الدراسة القانونية تركز على دراسة نصوص الدستور في كيفية اختيار الحكام، وكيفية التصويت على القوانين، والمراسيم. فمهمة رجل القانون، بهذا المعنى، هي تحليل مدى توافق حدث ما مع نصوص الدستور، وطريقة تطبيقها. ومن جانب آخر يهتم علم الاجتماع بأخذ القواعد الدستورية كأحد عناصر التحليل من بين عناصر أخرى، إذ يولي أيضاً اهتماماً لدراسة تشكيلات الأحزاب السياسية، ومجموعات المصالح والضغط المؤثرة في البلاد، ومنسوب تضرر الطبقات الفقيرة والمتوسطة من السياسات، ومدى تدخل القوى الخارجية، وقواعد اللعبة السياسية الداخلية، والأخذ بعين الاعتبار نصوص الدستور المكتوبة، وتطبيقها على أرض الواقع.
بمعنى أنه لا يكفي أن تكون دارس للقانون، أو طبيب، أو موظّف سرّي عند النهضة، لتحتقر شعبك وتشتمه صباحا مساء من أجل عيون نورالدين البحيري، منتحلا صفة الثوري العبقرون الذي لا قبلك ولا بعدك.

رابعا، بخصوص الخوف من الانزلاق نحو الدكتاتورية، هذا كلام سخيف ولا معنى له. فإذا أخذنا في الاعتبار معياري التفسير القانوني وعلم الاجتماع السياسي، وطبقناهما على حالة بلادنا، سنلاحظ بأن الرئيس لا ينطبق عليه تعريف الديكتاتور. فهو شخصية مستقلة، وصل إلى الرئاسة عبر الانتخاب المباشر من الشعب التونسي بأغلبية ساحقة من الأصوات. والقطاع الأكبر ممن صوّتوا له هم من الشباب، أي يمثلون رؤية الجيل الحديث المتعلم والمثقف، جيل الثورة والميديا الحديثة، هؤلاء الذين اعتمد عليهم في الترويج لأفكاره والدعاية له. ثم أن جميع القرارات التي اتخذها الرئيس استندت إلى نص الدستور الذي يُجبر رئيس الجمهورية على اتخاذها في حالة خطر داهم مهدِّد لكيان الدولة ووحدتها وأمن البلاد.

كما هو معلوم وجهت حركة النهضة اتهاما صريحا للرئيس بالانقلاب على الدستور. وبقدر ما كان موقف النهضة متوقعا، لأنها مستهدفة ومحاصرة بجرائمها، استغرب قطاع واسع من الشعب التونسي المنتفض ضد حكم المجرمين، مواقف أطراف “يسارية”، كانت لوقت قريب تُطالب بحلّ البرلمان وإسقاط المنظومة. وبدل مساندة تنفيذ رئيس الجمهورية لمطالب هذه الأطراف، تنكرت لشعاراتها تلك وارتمت مباشرة في خندق النهضة ومهاجمة الرئيس، مشككين حتى في اختياره امرأة لتولي منصب المسؤول الأول على السياسة العمومية، والذي لم يسبق حدوثه في العالم العربي بصفة عامة. وهنا لابد من جلب انتباه أصدقائنا ألى أن توقيت تعيين إمرأة لترأس الحكومة التونسية يأتي من جهة في وقت مغادرة أنجيلا ميركل منصبها كمستشارة لألمانيا الاتحادية بعد قضائها 16 عاماً في منصبها على رأس دولة صناعية متقدمة. ولكن من جهة أخرى يتزامن مع وصول حركة طالبان إلى السلطة في أفغانستان، بسمعتها المعروفة بعدائها للنساء، وبعدم الاعتراف بحقوق المواطنة الكاملة بينهن وبين الذكور.

طبعا هذه الأمور لا يفهمها العبقرون، ولا تعني له أي شيء، لا في علاقة بقناعاته المشكوك في أمرها، ولا في علاقة بدلالة الحدث في سياق رصيد تونس الإصلاحي التقدمي.