كتب: وليد أحمد الفرشيشي
تزامن حدثُ 25 جويلية، باعتباره حدثًا فارقًا شكّل قطيعة جوهريّة مع منظومات الحكم السابقة، مع انتعاشة غير مسبوقة لبورصة الشائعات السّخيفة والأخبار المفبركة وحملات التشويه الموجّهة للفاعلين السياسيين والاقتصاديين، وهو ما مهّد عمليّا إلى سقوط الجميع، نخبا وعوامّا، في جبّ “خطير” وهو استخدام “الكذب” لتصفية الخصوم، وقد غفلوا عن حقيقةٍ لا تقلُّ خطورة عمّا يقع تداولهُ في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، ألا وهي مساهمتهم، عن معرفةٍ أو جهل، في تعميم ثقافة التلاعب بالعقول.
وهذهِ الشائعات التي تحلّقت حولها مواقع التواصل الاجتماعي، وبعض المنصات الإعلامّية، بل وعدد من “الإعلاميين” المعروفين، على نطاقٍ واسع، كما يتحلّقُ الذبابُ على جيفة دابّة ملقاة على قارعة الطريق، ألهمت العقول المريضة فرضيات ذات أبعاد كابوسيّة، وتحاليل مغرقة في مناخات القتل المعنويّ، وخطابات “أباكوليبتكية” تلوّحُ بنهاية الدولة، دفعةً واحدةً وإلى الأبد، وانتقالُ الشعب التونسي إلى منطق سياسي جديد عمادهُ شريعةُ الغاب. ورغم أنّ تفنيد هذا النوع من الشائعات تحديدًا لا يحتاجُ سوى إلى شيء من العقل والكثير من سلامة الذوق والطويّة، إلا أنّ النخب استأسدت وراءها، حتّى بات إقناعها بأنّها تمارسُ فعلاً موحشا في حقّ نفسها وبلدها، أشبه بانتزاع ناب فيلٍ بالغٍ في موسم تزاوجه.
صناعة الكذب
والحقّ أنّ ما تعيشهُ البلادُ هذه الأيّام من ضبابية تخصُّ مواقف الرئيس، ورؤيته لكيفيات إدارة المرحلة الحاليّة، فضلاً عن غياب ناطق رسمي باسم رئاسة الجمهورية وانكفاء الجهاز الاتصالي لمؤسسة رئاسة الجمهورية على تصريف نشاطات الرئيس على الصفحة الرسمية لمؤسسة الرئاسة، كلّها عواما ساهمت في تغذية بورصة الشائعات بما لا يصدّقهُ عقل، والمعلوم بالضرورة أنّ الشّائعات والأخبار المزّيفة غالبا ما تنتعشُ في أوقات الأزمات، مالئة ما يخلّفهُ نقص المعلومات من فراغٍ، ومن ثمّة تخلقُ واقعًا “بديلاً” في عقول النّاس، غالبًا ما يتوافقُ مع قناعاتهم وإسقاطاتهم الشخصيّة، وهو ما يتسّببُ في النّهايةِ في توسيع رقعةِ الاحتقان الاجتماعي وقطع آخر خيوط الثقة بين المواطن ودولته.
فلو أخذنا ملابسات مخطط اغتيال رئيس الجمهورية مثلاً، ومساهمتها في خلق حالة من الهوس المضني باختلاق تفاصيل هوليوودية، لا يصدقها العقل، مستفيدةً من صمت مؤسسة الرئاسة الغريب، وهو ما كاد يتسبب في أزمة ديبلوماسية مع الجارة ليبيا، لوقفنا على مدى خطورة استراتيجية التعتيم المفتوحة على كلّ بؤر الهذيان الإعلامي والرقمي، استراتيجية عمادها الرئيس هو الشحُّ المعلوماتيّ الواقعيّ الذي يخلقُ بداهة فائضًا معلوماتيّا وكلاميا مصطنعًا، يساهمُ المسؤولُ السياسي نفسهُ في تغذيتهِ، مختفيا وراء “استنتاجاته الشخصية”.
وقس على ذلك ما قيل ويقال حول الايقافات والمداهمات ووضع بعض الشخصيات قيد الإقامة الجبرية وغيرها من مسائل فتحت الباب مباشرة أمام موسم صيد الساحرات، بل إن أعجب ما في الأمر هو أن تسقط مؤسسات إعلامية بطمّ طميمها في هذا الفخّ، دون أن تبحث وتتقصى كما تقتضي الأعراف الصحافيّة ذلك. والنتيجة: انتشارُ الشائعة كالنار في الهشيم مجهضةً أيّ محاولة جدّية للتدقيق في ملفات المسؤولين السياسيين ورجال القانون والاقتصاد المالية.
وفي تقديرنا، لا تستحقّ الشائعات التي تستهدفُ حيوات الأشخاص الخاصة التعليق عليها، ذلك أنّ إطلاقها لا يشفُّ عن انحدارٍ “أخلاقيّ” فحسب، وإنما عن رغبةٍ دفينة في تفجير الصراع من الداخل، لتلتهم شظاياه الشارع التونسيّ المنكفئ على أعطابه.
وسيلُ الشائعات في تونس، للأمانة، لا يحتاجُ إلى مسؤول أخرق أو صحافيّ خاضع لأجندة أو مدوّنٍ لا يعرفُ كوعهُ من بوعهِ، ذلك أنّ كل ما يحتاجهُ هو “إرادة خبيثة” هدفها الرّئيسي تسجيل نقاط سياسيّة على حسابِ الخصم السياسي، وهذهِ قاعدة معروفة في أزمنة الأزمات السياسيّة، إذ ينحدرُ “الأخلاقيُّ” إلى ما هو أدنى من القاع، لترتيب المشهد وفق رغبات صنّاع “رأي” عديمي اللونِ والرّائحة والمذاق.
التلاعب بالعقول
ولعلّ أخطر ما في ذلك كلّه أنّ هذا الهراء التآمريّ يجدُ لهُ آذانا صاغية لدى شريحة واسعة من المواطنين، شريحة حوّلها الخوفُ من المستقبل إلى أوعية جاهزة لاستيعاب كلُّ ما يقذفهُ صناع الرأي الخفيون من معطيات تخدمُ لعبةِ “تفكيك” و”ترتيب” المشهد السياسي. وهذهِ اللعبة لم تكتف مثلاً بالاستئثار بمواقع التواصل الاجتماعي فحسب، وإنّما تسللت إلى البرامج التلفزيّة، حيثُ عاينّا، قبل تاريخ 25 جويلية، كيفَ صار زواج المتعةِ بين البرامج الموجّهة ولوبيات المصالح الضيقة مدخلاً لقتل المعلومة، وتقديم “السمّ في الدسم” للتونسيين. بل وطالت لعبةً شراءُ الذّمم سياسيين ونوابا وإعلاميين ومدونون تحوّلوا إلى أبواقٍ تردد الكذبة وراء الكذبة، لصبّ الزيتِ على النّار، في لعبةٍ تأثير تهدفُ في الواقع إلى إرباكِ كلّ شيء واختلاق واقع بديلٍ يتوافقُ مع اسقاطات شرائح من التونسيين.
وإذ انطلقنا في البداية من مسلّمة تقولُ بأنّ الشائعات تنتعشُ في أوقاتِ الأزمات، فذلك لأنّ اليأس والخوف الممزوجينِ بالسّذاجةِ، تدفعُ بالنّاس إلى تصديق كلّ شيء والقبول بأيّ “هراءٍ” يلقى على مسامعهم. غير أنّنا يجبُ أن نميّز، معرفيّا ونفسيّا، بين نوعينِ من الشائعاتِ في تونس:
ثمّة نوعٌ أوّل يتداولهُ التونسيّون بعفويّة على سبيل المزاح وتزجيةِ الوقت أو اليأس أيضًا، وهذا النوعُ مرتبطٌ أيضا بشحّ المعلوماتِ عمّا يحيطُ بهم. وبهذا الخصوص، تدغدغُ مثل هذهِ الحكايات الغريبة آمال النّاس المتعطّشين لانحسار الأزمة او للسخرية منها. ولو قيّمنا هذا النوع من الشائعات علميّا، لوجدنا أنّها تتفقُّ مع إسقاطات النّاس ورغباتهم الدفينة. وذلك هو حالُ التعاملُ مع المعلومات دومًا، ذلك أننا في تقييمنا لها، نقومُ بمقارنتها مع معارفنا وتجاربنا الشخصية ومعتقداتنا، فإذا توافقت معها، نميلُ إلى تصديقها، حتّى وإن كانت “مزيّفة” وخاطئة. ومن ثمّة تستغلُّ الشائعة هذا الاستعداد الغريزي لتقبّل كلّ ما يتوافقُ مع رغباتنا لتعزيز أحكامنا المسبقة ورفض ما يخالفها.
وثمّة نوع ثانٍ، هو الأخطرُ على الإطلاق، يندرجُ ضمن تقنية “التلاعب بالعقول”، لأهدافٍ سياسيّة أو اقتصادية أو الاثنين معًا (لسوء الحظّ، يصعبُ فصل السياسي عن الاقتصادي اليوم في تونس) وفي الحقيقة، يستندُ هذا النوعُ من الشائعات على وقائع حقيقية (شحّ المعلومات بخصوص مخطط اغتيال الرئيس على سبيل المثال وصمت مؤسسة الرئاسة بل ورفضها تقديم أي توضيح بهذا الخصوص…)، لتفكيك المشهد القائم وإعادة تركيبهِ لاحقًا بما يتوافقُ مع أصحاب الأجندات، وهنا مكمنُ الخطورة.
صحيحٌ أنّ المدونّة التشريعيّة في تونس، خصّت مروّجي الشائعات في أزمنة الحروب- ونحنُ نعيشُ حقّا فترة حرب على كلّ شيء- بعقوبات صارمة، يصلُ بعضها إلى الإعدام، لكنّ ذلك لا يكفي للحدِّ من منسوبِ الشائعاتِ في بلادنا. قلنا إنّ ذلك لا يكفي، لسبب بسيطٍ، وهو أنّ التعامل مع الشائعة، يتطلبُّ قبل أي شيء آخر، تدقيق ما يصلُ إلينا من معلومات، وهذا التدقيقُ يستوجبُ إدراك هويّة مصدر المعلومةِ، والتأكد من تمتعه بالأهليّة والتخصّص، وأنّهُ لا يتلاعبُ بالعقول. فضلاً عن ذلك، على مؤسسة الرئاسة أن تعي أنّ إغلاق الباب أمام مؤسسات الإعلام وعدم تعيين ناطق رسميّ، يعدُّ مدخلاً لكلّ الآثام والشرور، مثلما ينبغي أن تعي المؤسسات الإعلامية أن دورها يتجاوزُ نشر الخبر كما هو بل التدقيق في كلّ ما ينشر ومقاربته من زاوية ضوابط المهنة الصارمة، ذلك أنّ الحرصَ على استقاء المعلومات من المصادر التي تحظى بالثقة أوّلاً وأخيرًا، هو ما يعزّزُ حصانة المواطن ضدّ الأخبار المزيّفة، وضدّ كلّ من يسعى إلى النيلِ من أمنه وأمنَ بلاده.