تدخل مريم متسلّلة إلى “مدخل الشباب”، من باب حديدي ضيّق لا تكاد تظهر من خلاله، أشجار الصنوبر الشاهقة المنتصبة وسط مركز الصحة الانجابية بأريانة، تتوجّه مترددة إلى الممرضة الجالسة وراء مكتب خشبي رثّ تنبعث منه رائحة الأدوية والرطوبة: “جئت من أجل الإجهاض.. لست متزوجة”.
مريم (اسم مستعار) إحدى التونسيات اللّاتي خضعن للإجهاض من بين 34 ألف امرأة في العام 2018، وفقا لإحصائيات الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري. وهو رقم مهول مقارنة ببقية الدول التي يسمح فيها القانون بالإجهاض.

حقّ التصّرف في الجسد

سمح المشرّع للتونسيات، العازبات والمتجوزات الراشدات، بالقيام بعمليات الإجهاض وفقا لشرطين وضعهما الفضل 214 من المجلة الجزائيّة، أوّلا إذا لم تتجاوز مدة الحمل الثلاثة أشهر الأولى وثانيا “يرخص فيه بعد الثلاثة أشهر إذا يخشى من أن يتسبب تواصل الحمل في انهيار صحة الأم.” وفي كلا الحالتين لابد من القيام بعملية إسقاط الحمل بمستشفى (مجّانا بمراكز الصحة الانجابية) أو بمصحة مرخص لها وبواسطة طبيب مباشر لمهنته بصفة قانونية.

يوحي هذا “الاستثناء” في المنطقة العربيّة التي تحجّر الإجهاض بتمتّع التونسيين بحقوقهم الجنسية والإنجابية كاملة والتي تعرّفها منظمة العفو الدولية بـ”أنه ينبغي أن نكون قادرين على اتخاذ قراراتنا الخاصة بأجسادنا “، لكّن الكمّ الهائل من عدد عمليات الإجهاض يحيل إلى تراجع دور الدولة في وضع سياسات تنظيم الأسرة وتوفير وسائل منع الحمل.
يفيد تقرير لدائرة المحاسبات عقب مهمة تفقديّة أنّ تقديم هذه الخدمات على مستوى مراكز الصحة الانجابية الـ36 الموزّعة على كامل الجمهورية، شهد عدم استقرار وتفاوت بين وسائل منع الحمل المقدمة ولم يراع درجة نجاعة كل وسيلة علاوة على عدم توجيه الخدمات المسداة إلى المناطق غير الحضرية والجهات التي كان المؤشر الوطني الإجمالي للخصوبة لديها مرتفعا.



وأوضح التقرير الصادر سنة 2015، أنّ التصّرف في وسائل منع الحمل والإجهاض يكتسي أهميّة بالنظر إلى تأثيره على نسق استمرار خدمات تنظيم الأسرة، إذ بلغ حجم النفقات بهذا العنوان خلال الفترة 2010-2015، أكثر من 7 مليون دينار ويتم التزود بهذه الوسائل لدى الصيدلية المركزية باستثناء آلة الرحمية والواقي الذكري اللذان يتم التزود بهما عن طريق طلب عروض.

وتبين طول آجال التزود التي بلغت بالنسبة إلى حبوب الاجهاض الدوائي على سبيل المثال 271 يوما خلال سنتي 2012 و2014 مما أدى إلى نفاد مخزونها ببعض المندوبيات على غرار مندوبية تونس وتوقف تقديم الخدمات لفترة مؤقتة.

كما اتضح أحيانا قصر الفترة المتبقية للصلوحية عند تسلم الوسائل من الصيدلية المركزية حيث مثلت تلك الفترة للبعض منها 27 بالمائة من المدة الجملية للصلوحية من تاريخ الصنع مما من شأنه أن يؤدي إلى انتهاء صلوحيتها قبل استعمالها.

إشكالات عقائديّة ولوجيستية

في ردّ ديوان الأسرة والعمران البشري على تقرير دائرة المحاسبات، يقول إنّ سنة 2010 كانت سنة مرجعيّة على مستوى الخدمات الطبية وذلك بالنظر إلى ما كان يتوفر من إمكانيات بشرية ومادية واستقرار في العمل
وأرجع تدني خدمات تنظيم الأسرة في الفترة بين 2011 و2014 إلى الوضعية العامة إذ تمّ قطع الطرق أمام الفرق المتنقّلة ومنعت من مواصلة العمل على التثقيف على الصحة الجنسية والإنجابية، إلى جانب تهرّم أسطول السيارات الموضوعة على ذمة هذه الفرق إضافة إلى “الإشكاليات المرتبطة بالتوجهات السياسية والعقائديّة التي حالت دون مواصلة العمل في ظروف عادية وطبيعية ..)، وفق الرد الرسمي للديوان.