عانت المناطق الداخلية في تونس من التهميش واللامساواة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية منذ نظام زين العابدين بن علي، ولا تزال إلى حد اليوم تواجه هذه التفرقة الجهوية من خلال ارتفاع منسوب البطالة، وتردي الخدمات الصحية والتعليمية، ونقص في المؤسسات التشغيلية والمرافق العمومية، في ظل غياب إرادة سياسية قوية لتغيير هذا الواقع وتكريس مبدأ المساواة بين الجهات والفئات.
حسب تقرير نشره المعهد الوطني للإحصاء، تحتكر 3 مناطق في تونس قرابة ثلاثة أرباع الثروة، وهي تونس الكبرى بـ 35.9 بالمائة والوسط الشرقي بـ 23.8 بالمائة والشمال الشرقي بـ 13.5 بالمائة.
وكشف هذا التقرير أن نصيب الفرد السنوي من الناتج المحلي الإجمالي بلغ 7943 دينار على المستوى الوطني، ويصل إلى 11780 دينار في تونس الكبرى مقابل نسبة فقر تقدر بـ 3 بالمائة، وينخفض نصيب الفرد السنوي في المناطق الداخلية ولا يتجاوز 6797 في الجنوب الشرقي و4472 دينار في الوسط الريفي الذي تبلغ فيه نسبة الفقر 30 بالمائة.
العوامل الهيكيلية
وفي هذا السياق يقول الباحث في علم الاجتماع فؤاد غربال “المشكل أن النموذج التنموي لم يقع تغييره، ومنذ الثورة نعيش دون نموذج تنموي أو رؤية اقتصادية واضحة وحتى الخيارات الاقتصادية المعتمدة تكرس اللامساواة بين الجهات وبين الفئات الاجتماعية، لأن الدولة انسحبت وأحالت نفسها على التقاعد من خلال اللامبالاة في وضع حلول جدية للمشاكل القطاعية الكبرى ( النقل، التعليم، الصحة، التشغيل)”.
وأضاف محدثنا “تناست الدولة أن لها دورا أساسيا في تعديل وخلق الفرص للمواطنين، وواصلت العمل بنفس قوانين ورؤى المنظومة القديمة، ولم تبادر بتغيير التراتيب القانونية أو إصلاح الإدارة التونسية، لتسهيل العمل وخلق فرص جديدة.
متابعا ” النموذج التنموي مرتبط بالقرار السياسي، فالحكومات المتعاقبة منذ الثورة لا تملك أي مشروع.. تلخصت مهمتها فقط في إدارة الموجود، من خلال تسيير البؤس وتسيير الفقر، دون وضع خطة أو تصور سياسي واضح”، وفق تعبيره.
وفقا لبيانات البنك الدولي العام 2014، يتركز 85 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي وأكثر من نصف سكان تونس قرب ثلاث مدن هي الأكثر اكتظاظا بالسكان تونس العاصمة، وصفاقس وسوسة، وكذا الأمر بالنسبة إلى المقرات العامة لنحو 90 بالمائة من الشركات العاملة في القطاع الصناعي، إذ لا تتواجد في المناطق الداخلية من البلاد سوى عُشر الشركات الأجنبية العاملة في تونس، حسب ما نشره مركز مالكوم كير-كارينغي للشرق الأوسط.
وتوجد عوامل أخرى اعتبرها غربال تاريخية تعود إلى سياسة المستعمر التي عملت على تفريغ ونهب المناطق الداخلية والتي كانت تمثل مصدر الثروات لتصديرها إلى الخارج، مما تسبب في إنشاء بنية تحتية تصديرية مترمكزة في المناطق الساحلية، لأن الاقتصاد الاستعماري هو اقتصاد متخارجي “économie extravertie”.
التهميش.. خلق التهريب
في ظل غياب الدولة أصبحت المناطق الداخلية تعول على نفسها عبر منظومة التهريب، فمنذ التسعينات لجأت هذه المناطق إلى الاقتصاد الموازي لخلق نوع من التنمية التلقائية “développement spontanée”، من أجل توفير فرص عمل.
أما إذا استعملنا المقاربة الجزئية micro-économique، نلاحظ أن المناطق الساحلية تعاني بدورها من اللامساواة داخل نفس الولاية، وأصبحت هذه المدن غير مدمجة نطرا للظروف الاقتصادية الصعبة التي تشهدها البلاد، وفق الباحث في علم الاجتماع غربال، مشيرا إلى أن هذه المدن بدورها تطالب بالعدالة الاجتماعية.
وتعد السجائر من أكثر السلع المهربة في تونس ففي الثمانية أشهر الأولى من سنة 2019 قدرت قيمة المحجوزات من السجائر 18 مليون دينار، ويعد تهريب السجائر 40 بالمائة من المعاملات التجارية في إطار التجارة الموازية، وتصدر كل من ولاية مدنين وتطاوين على المراكز الأولى من حيث نسبة المحجوزات 70 بالمائة، حسب إحصائيات سنة 2019.
وذكر تقرير الشرق الأوسط تحت عنوان “الانتقال المعطل في تونس:فساد مالي ونعرات جهوية “، أن البلاد ظلت منقسمة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي وذلك على غرار انقسام الخارطة خلال الانتخابات التشريعية والرئاسية سنة 2014، فأغلبية المشاريع المتوسطة والكبرى توجد في العاصمة والمناطق الساحلية بينما يعيش جزء من المواطنين في المناطق الداخلية (الجنوب الشرقي والوسط والمناطق الغربية) على التهريب مع الجزائر وليبيا، كما لا يزال الحصول على شغل والنفاذ إلى المرافق العمومية غير عادل ومجحفا بشكل كبير بين جزئي البلد الواحد”.
وقد استفاد “رجال الظل” وأصحاب الأعمال من هذه المشاورات السياسية وأصبحوا يحركون خيوط اللعبة السياسية في الكواليس، دفاعا عن مصالحهم الاقتصادية، فمنذ سقوط النظام الاستبدادي الذي كان يحصر الصفقات المربحة في أوساط المقربين الضيقة، استشرى الفساد المالي مستفيدا من كثرة الأسواق، وفق نفس التقرير.
من خلال ما تشهده تونس اليوم من أزمة اقتصادية فاقمتها جائحة كورونا على مدى سنتين على كامل مستوى الجمهورية، أصبح النقاش حول التفاوت بين الجهات مجحفا، ولا يمكن اعتباره أداة صالحة للتحليل الواقع التونسي، لأن التهميش أصبح يعم على كامل البلاد التونسية.