بقلم منجي الخضراوي

ماذا فعل قيس سعيد يوم 25 جويلية 2021؟ هل غيّر طبيعة النظام السياسي في تونس؟ ماهي طبيعة المرحلة التاريخية؟

أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد مساء الأحد 25 جويلية 2021 عن خمسة قرارات سوف تظل موضوع جدل على مدى عشرات السنين ولدى أساتذة القانون والعلوم السياسية. استند على ما ورد في الفصل 80 من دستور 2014 و أعلن عن تعليق اختصاصات مجلس النواب ورفع الحصانة عن النواب وإعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي ومركزة السلطة التنفيذية والنيابة العمومية بين يديه.

الرئيس أصدر هذه القرارات خلال اجتماع مع كبار قادة الجيش والأمن، بعد ساعات انتشرت الوحدات العسكرية بالمواقع السيادية وبساحة الحكومة وداخل مجلس نواب الشعب وأغلقت أبوابه.

نحن أمام أربعة شروط جوهرية، الأوّل تمركز السلطات الثلاث بيد رئيس الجمهورية، وهي التنفيذية برأسيها والتشريعية من خلال إصدار المراسيم والقضائية عبر إعطاء نفسه سلطة النيابة العمومية. أما الشرط الثاني فهو تنفيذ قراراته بالاستناد على القوات المسلحة حسب قراءته المدنية والعسكرية، أي الأمن والجيش، والشرط الثالث هو وجود مساندة ودعم شعبيين لقرارات قيس سعيّد لا نظير لهما ولا سابق  والشرط الرابع هو الحضور القوي لشخصية الرجل إذا استطاع أن يكون مرشحا أساسيا خلال الانتخابات ولم تعرف شعبيته تراجعا يذكر.

شروط تشكّل البونبارتية

إذن نحن أمام أربعة شروط أو عناصر تشكّل في مجال العلوم السياسية ما يعرف بالبونابارتية bonapartisme وهي نظرية تقول بالممارسة الرئاسوية وسلطة تنفيذية قوية مع سند شعبي وشخصية كاريزماتية، إنها القيصرية السياسية.

البونابارتية بالنسبة إلى عالم الاجتماع والفيلسوف  الألماني ماكس فيبير Max Weber  هي مرحلة انتقالية بين الأوليغارشية والديمقراطية المفتوحة ويسميها بالديكتاتورية الليبرالية.

لقد ذهبت حنة أرنت إلى أنّ التاريخ لم يعرف نظاما كليانيا totalitaire باستثناء الاتحاد السوفياتي في عهد جوزيف ستالين أو ألمانيا في عهد أدولف هتلر في حين تظلّ بقية الأنظمة تتراوح عموما بين الأنظمة السلطوية autoritaires والأنظمة الديمقراطية، وقد تمت إضافة نظام آخر وهو البيروقراطية ولكن ماكس فيبر صنفها ضمن السلطوية.

هنا يمكننا أن نتساءل، هل تونس دولة ديمقراطية؟

تستند الديمقراطية أولا على إرادة الشعب بالمعنى الشامل للكلمة وحسب الأمم المتحدة فإنّه للديمقراطة عناصر أساسية توفرها يعتبر ضروريا وهي احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية وحرية الانضمام للجمعيات وحرية التعبير والرأي وإمكانية الوصول إلى السلطة وممارستها في إطار سيادة القانون وتنظيم انتخابات دورية حرة نزيهة على أساس الاقتراع العام والتصويت السري تعبيراً عن إرادة الشعب وإيجاد نظام لتعددية الأحزاب السياسية والمنظمات والفصل بين السلطات واستقلال القضاء وتوفير الشفافية والمساءلة في الإدارة العامة ثم تهيئة وسائط للإعلام تتسم بالحرية والاستقلال والتعددية.

فهل أن هذه الشروط تتوفر في النظام السياسي التونسي؟

عندما نبحث في هذه العناصر فإنه يمكننا ملاحظة غياب الفصل بين السلطات وغياب استقلالية القضاء مع غياب الشفافية والمساءلة في الإدارة العامة إضافة إلى غياب التعددية في وسائل الإعلام رغم وجود عنصر التعدّد. أما في باب حرية التعبير والرأي فإنها تتلازم مع حرية الضمير التي تعطي الحق في حرية المعتقد وبالتالي في حرية تغييره وهذا غير متاح في تونس إضافة إلى أنّ الدستور التونسي يفرض شرطا دينيا بالنسبة إلى الترشح لرئاسة الجمهورية إذ ينصّ الفصل 74 من دستور 27 جانفي 2014 على أنّ «الترشّح لمنصب رئيس الجمهورية حقّ لكلّ ناخبة أو ناخب تونسي الجنسية منذ الولادة، دينه الإسلام» وبالتالي فإنّ الدستوري وهو أعلى هرم القوانين لم يعط للمؤمنين بغير الإسلام من الديانات الأخرى حق الترشح لمنصب رئيس الجمهورية وهذا ما يعتبر إجراء تمييزيا يمسّ من مقومات العناصر المشكّل للممارسة الديمقراطية.

بهذا المعنى فإنّ وجود انتخابات حرّة مع حرية للتعبير وتعدّد في وسائل الإعلام دون تعدّدية وتداول سلمي على السلطة، لا يعني أننا بصدد دولة ديمقراطية، رغم أنها عناصر أساسية من أجل القول بذلك.

 هذا في المستوى السياسي أما في المستوى الاقتصادي والاجتماعي، فإنّ الثروة لا يتمّ توزيعها بشكل عادل في تونس بل تخضع لمعطيات الاحتكار الطبقي والاجتماعي والجهوي، إذ استفاد الكثير من رجال الظل والمهربين من سيطرة حركة النهضة على الحياة السياسية منذ 2011 وأصبحت نظرية التوافق التي تمّ الترويج إليها خاصة بعد 2014 مدخلا مهمّا للقنوات غير الرسمية لإجراء الوساطات والحوارات السياسية وهو ما فتح الأبواب لأدوار سياسية لشخصيات مؤثرة اقتصاديا وجهويا ولعائلات وللعلاقات الذاتية وفق تقرير أنجزته منظمة كريزيس.

كما بقيت البلاد منقسمة اقتصاديا واجتماعيا بين مختلف الجهات إذ استأثرت العاصمة ومدن الساحل بالمشاريع الكبرى والمتوسطة بينما تعيش أغلب بقية المناطق خاصة على الحدود الغربية والجنوب على التهريب والفلاحة التقليدية كما لا يزال الوصول  إلى الشغل قائما على التمييز بين جزئي البلاد ولم تستطع كلّ الحكومات التي تعاقبت على إدارة البلاد منذ 2011 على حلّ المشكل الاقتصادي والاجتماعي.

إذن بناء على المعطى السياسي والاجتماعي والاقتصادي فإنّه لا يمكننا أن نعتبر أنّ تونس هي دولة ديمقراطية كما لا يمكننا أن نعتبرها دولة نظامها سلطوي، بل هي في مرحلة بصدد التشكّل قد تكون ديمقراطية إذا توفرت عناصرها وفق للحتميات التاريخية  وقد تجنح إلى السلطوي إذا فُقدت تلك العناصر.

البونبارتية وقيس سعيد

بهذا المعنى، فإنّ اعتبار النظام السياسي من الوجهة السياسية هو نظام شبيه بالبونبارتية أي هو نظام في مرحلة بين مرحلتين، حتى في المستوى التاريخي فإنّ نابليون أوقف انسياب مكونات نظام تضخّم وتأزم وكان يعمل على العودة إلى الملكية وإجهاض كلّ مقومات الثورة الفرنسية كما حلّ حكومة الديركتوار وتنصيب حكومة القناصل التي جمع فيها السلطة التنفيذية بين يديه، كما قرّر بونابارت حلّ مجلس الخمسمائة الذي يشرّع ومجلس الحكماء الذي يصادق على تلك التشريعات، وهي تقوم مقام البرلمان، ثمّ بدأ بإعادة المجلّة المدنية والمجلّة الجزائية.

الانقلاب الذي أنجزه نابليون بونابارت في 18 برومير بالتقويم الفرنسي القديم الذي يناسب تاريخ 9 نوفمبر1799 اعتبره لينين جزءا من الثورة الفرنسية باعتبارها مرحلة تلت فيها البرجوازية السلطة، وهو تقريبا ما ذهب إليه كارل ماركس. والبرجوازية في الثورة الفرنسية هي الطبقة الثورية التي ألغت الاقطاع وأنهت سيطرة الكنيسة وأعلت حقوق الإنسان وأنشأت لبيبرالية سياسية داخل المجتمع الفرنسي ثم في كلّ أنحاء أوروبا فالعالم.

لا يمكننا أن نعتبر قيس سعيد شبيها بالعسكري نابليون بونابارت ولكن المرحلة التاريخية التي أنشأها قيس سعيد راهنيا هي مرحلة بونابارتية أو قيسرية، تتجمع فيها السلطات بيد شخص واحد مدعوم شعبيا وعسكريا وأمنيا وله الشرعية التاريخية والمشروعية السياسية والقانونية وجاء استجابة لمتطلبات المرحلة التي أدّت إلى الأزمة في كلّ أبعادها الهيكلية.

لكن نطرح سؤالا هنا، هل غيّر قيس سعيد طبيعة النظام السياسي؟

طبيعة النظام السياسي

عندما نتحدّث هنا عن النظام السياسي فإننا لا نتحدّث عن السيستام Le système politique بل نتحدّث عن النظام باعتباره le régime politique  أي طبيعته الشكلانية في مستوياتها القانونية والسياسية دون الخوض في طبيعة الائتلاف الحاكم والماسك بوسائل الإنتاج وبالثروة وعلاقة نمط الإنتاج التونسي بالرأسمالية العالمية وبالمتروبول المالي العالمي. سنظل فقط في مستوى تغيير الريجيم السياسي أي المساس بالنظام الانتخابي وبأسلوب الحكم من برلماني إلى رئاسي وبالقوانين والدستور.

لقد كشف التقرير العام لدائرة المحاسبات حول نتائج مراقبة تمويل الحملة الانتخابية للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها والانتخابات التشريعية لسنة 2019 ومراقبة مالية الأحزاب تورّط عدد من الشخصيات والأحزاب في تجاوز سقف التمويل والقيام بخروقات خطيرة، وباعتبار تنصيص القانون المنظم للانتخابات في تونس وهو القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 مؤرخ في 26 ماي 2014 يتعلق بالانتخابات والاستفتاء في فصله 80 على منع تمويل الحملة الانتخابية بمصادر أجنبية والفصل 81 ينصّ على السقف الجملي للإنفاق وتمويل الحملة، ولقد نصّ الفصل 143 على أن هيئة الانتخابات تثبتت من مدى «احترام الفائزين لأحكام الفترة الانتخابية وتمويلها. ويمكن أن تقرّر إلغاء نتائج الفائزين إذا تبيّن لها أن مخالفتهم لهذه الأحكام أثّرت على نتائج الانتخابات بصفة جوهرية وحاسمة وتكون قراراتها معللة».

أمّا الفصل 163 الشهير فهو ينصّ بوضوح على أنّ من يتلقى تمويلا أجنبيا يفقد عضويته في مجلس نواب الشعب والأخطر أنه لا يحق له الترشّح في الانتخابات الموالية وقد ورد فيه في مستوى الفقرة الثانية « يفقد أعضاء القائمة المتمتّعة بالتمويل الأجنبي عضويتهم بمجلس نواب الشعب ويعاقب المترشّح لرئاسة الجمهورية المتمتّع بالتمويل الأجنبي بالسجن لمدّة خمس سنوات. ويُحرم كل من تمّت إدانته بالحصول على تمويل أجنبي لحملته الانتخابية من أعضاء قائمات أو مترشّحين من الترشّح في الانتخابات التشريعية والرئاسية الموالية.»

إجراءات متوقعة لتغيير تاريخي ممكن

إذن، باعتبار أن رئيس الجمهورية فعّل الفصل 80 من الدستور الذي يعطيه الحق في إعلان إجراءات استثنائية في حالة خطر داهم مهدّد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة وأن يتخذ تدابير تحتمها تلك الحالة الاستثنائية.

يمكن لرئيس الدولة بهذا المعنى أن يتجه نحو إنفاذ القانون والاستناد إلى تقرير دائرة المحاسبات وأخذ القرارات اللازمة على معنى أحكام الفصول 80 و 81 و 143 وخاصة الفصل 163 والإعلان عن فقدان عدد من أعضاء مجلس نواب الشعب لعضويتهم وبالتالي إما تغيير المشهد في البرلمان أو إعلان الانتخابات تشريعية سابقة لأوانها.

إنّ تاريخ 25 جويلية 2021، هو لحظة مهمّة في تاريخ تونس باعتباره غيّر مجريات الأحداث السياسية في انتظار تغيير المعطيات الاقتصادية وبالتالي الاجتماعية. إذا ظلّت الإجراءات التي أعلن عنها قيس سعيد، مجرّد إجراءات سياسية، فإنّه لن يجد الوقت الكافي للقيام بالإصلاحات والآمال التي يطمح فيها الشعب التونسي، أما إذا أعلن تغيير النظام السياسي في اتجاه إقرار جملة من التغييرات الأساسية في مستوى المنظومة الاقتصادية لضرب لوبيات الاحتكار والتهريب ومجموعات الاستئثار بثروات الدولة وعصابات الفساد وذلك عبر تغيير قوانين اللعبة وتغيير منظومة قانونية كانت في خدمة القوى الاحتكارية على مدى سنوات وإعلان إصلاحات جذرية في مستوى الصحة والتعليم والإعلام.

يمكننا أن نعتبر تونس حقلا اختباريا مهما، يمكن أن يمثّل منطلقا حقيقيا لمقاربة إنسانية جديدة قادرة على إعادة النظر في النماذج القائمة وإعلان محاولة انسانية أخرى قد تتحوّل إلى نموذج. لقد كانت أثينا مجرّد محاولة وهي اليوم مرجعية.