بقلم الدكتور الصحبي بن فرج
تقوم سياسة الولايات المتحدة الخارجية على مجموعة من الثوابت والمتغيرات يتم صياغتها في استراتيجية متكاملة تتنزل تديريجيا من الدولي إلى الإقليمي وأخيرا إلى المحلي، حسب ما تعتبره مصالح حيوية أمريكية ولا يمكن قراءة ملامح الاستراتيجية الأمريكية المحينة في عهد بايدن بعقلية الفيراج السياسي التونسي، وإنما بمتابعة ما تفعله الولايات المتحدة داخل فضائها الاستراتيجي (ونحن جزأ منه)
خلافا لعهدة ترامب ومنذ قدوم بايدن، تقوم استراتيجية أمريكا على جملة من المرتكزات:
أولا، التركيز على مواجهة المارد الصيني : محاصرته في شرق أسيا ووقف تمدده في العالم وخاصة في إفريقيا
ثانيا، الريادة القيَمية في العالم: الديموقراطية، الحريات الفردية، المساوات، الحرية، حق تقرير المصير الخ الخ الخ (طبعا باستثناء الكيان الصهيوني الذي له ترتيب خاص)
ثالثا، استعادة الريادة الاقتصادية في العالم في انتظار استكمال إعادة بناء القوة العسكرية
وكنتيجة طبيعية لذلك،
- تبريد الأزمات الإقليمية (حل الأزمة في ليبيا، العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وقف حرب اليمن، إنهاء التصعيد في غزة) من أجل التركيز على الصراع الوجودي مع الصين
*الانسحاب من مناطق التوتر ( الانسحاب من أفغانستان وقريبا من العراق ثم سوريا) لكلفتها العالية وأيضا بهدف التركيز على الانتشار والتمركز في شرق آسيا مركز الثقل الاستراتيجي للعقد القادم
*إزاحة العناصر “الموتّرة” من المشهد والتي لا تستطيع التأقلم مع المسار ( حفتر، السراج، نيتينياهو وآخرون……) والتي قد تؤدي إلى أزمات كبرى تعيق الاستراتيجية الأمريكية - العودة إلى التوازنات الإقليمية والوطنية الكلاسيكية التي نظمت علاقة أمريكا طيلة عشرات السنين، التفاهم والتفاهم وتقاسم الأدوار مع حلفائها من الدول العظمى والدول الإقليمية الكبرى،
*العودة إلى التفاهم مع القوى و التوازنات التي حكمت الدول طيلة عقود : الدولة العميقة أو الدولة الأمة حيثما وجدت وذلك بعد تحيينها وتأقلمها للمقاييس الأمريكية : حريات فردية، ديموقراطية، وتحرير الاقتصاد
كل ما يحدث في المجال الحيوي الأمريكي و يكون متماهيا مع الخطوط العريضة لهذه الاستراتيجية فهو مرحب به، وكل ما يتعارض معها جذريا مصيره الاعتراض والإفشال
نأتي الآن إلى الإسلام السياسي، في التقييم الأمريكي الإسلام السياسي فشل في مهامه التي أوكلت إليه وتعهد بها بين 2011 و 2020: - فشل في تحرير الاقتصاد وتقنين المنافسة وتفكيك اقتصاد الاحتكار و الريع والمافيا والفساد (بل أصبح جزأ منها وربما متحكما فيه)
*فشل في إدارة الدولة الوحيدة التي حكمها وتحقيق الرفاه الاجتماعي
*فشل في تحقيق الاستقرار المطلوب للاستثمار والبزنس الدولي بما أنه اصطدم أينما حل بالدولة العميقة وحاضنتها الاجتماعية المتجذرة وصلت إلى الحرب الأهلية في ليبيا مثلا، وإلى شفى الاحتراب الأهلي في تونس
*فشل في الاندماج في النخب الحاكمة كشريك في السلطة وفي المجتمع كحامل لمشروع يخدم الناس بدل أن يخدم نفسه
*فشل في صد الإرهاب والإسلام “الغاضب” الجهادي بل أصبح عمليا متحالفا معه
*أخيرا فشل في امتحان تمرير السلام الإسلامي السني |اليهودي ولم ينخرط بجدية في مسار التطبيع واندماج الكيان الصهيوني في المجتمعات العربية، و الهدف الاستراتيجي النهائي لعملية الربيع العربي
بالتالي، وبالنظر لما تقدم، تراجع الإسلام السياسي من مرتبة الحليف الموثوق و الأساسي للمصالح الأمريكية خلال فترة أوباما|كلينتون إلى مرتبة الحليف الاحتياطي المطلوب حمايته من جهة وأيضا تحييده وتحجيمه في نفس الوقت خلال فترة بايدن….. وهذا بالضبط ما فهمته أخيرا حركة النهضة فأصدرت بيانها الأخير بعد أن تجاوزت مرحلة التنطع واللوبيينغ والإنكار
هل تغير الموقف الأمريكي بين ما قبل 25 جويلية وخلاله وما بعد 25 جويلية ؟ أبدا لم يتغير وإنما بقي ثابتا على حاله
هل تغيرت موقف حركة النهضة؟ الأكيد والثابت أنها تغيرت في اتجاه التماهي مع الموقف الأمريكي والاستجابة لقواعد اللعبة الجديدة وطنيا ودوليا والدليل بياناتها المتحولة
يبقى في الأخير موقف الرئيس قيس سعيد، هل أنه أراد انتهاز اللحظة الشعبية الوطنية للذهاب إلى أبعد مدى من خطوط التماس الدولية والجيوسياسية وحتى الوطنية؟ مثلا من حيث الذهاب إلى تأسيس سياسي جديد بقواعد قد تغير التوازنات الكلاسيكية الوطنية والدولية؟
لا أحد يعلم، ولكن الثابت أن تقديم زيارة الوفد الأمريكي على أنها تأشيرة أمريكية لإنهاء الوضع الحالي وضغط من إجل العودة إلى ما كان الأمر عليه قبل 25 جويلية…. هو من قبيل الوهم والهراء
لتبيان أنه وهم وهراء تكفينا قراءة البيان الأمريكي بموضوعية ومتابعة بيانات النهضة وتصريحات قيادييها وتطابقها (مسبقا) مع ما ورد في النص الأمريكي.
بقلم الدكتور الصحبي بن فرج