بقلم شكري عزّوز


منذ أن صادق مجلس نوّاب الشّعب في 26 جانفي 2021 على التركيبة الجديدة للحكومة بعد التحوير الذي اجراه رئيسها السيد هشام المشيشي قبل عشرة أيّام من ذلك التاريخ أصبحت الدّولة تعيش حالة من التعطيل السياسي و الإداري سببها إحجام رئيس الجمهوريّة عن قبول الوزراء الوافدين لأداء اليمين لديه و بالتالي عدم إصدار الأوامر اللازمة لتسميتهم و التي بموجبها يمكنهم ممارسة وظائفهم الدّستوريّة .
جدل واسع أثارته هذه الأزمة تمحور معظمه حول الخلفيات السياسية و الشخصيّة لرفض تنظيم موكب اليمين و انقسمت الآراء بين مؤيّد يعتبر قبول الوزراء الجدد لآداء اليمين حقّا خوّله الدستور لرئيس الجمهوريّة في إطار سلطته التقديريّة يمكنه ممارسته مثلما يمكنه تجاهله و معارض لذلك الموقف معتبرا أنّ تنظيم موكب اليمين سلطة مقيّدة لا يمكن لرئيس الجمهوريّة التصرّف فيها و لا التخلّي عن ممارستها و أنّ موقفه الرّافض يجعله مرتكبا لخرق دستوريّ جسيم … هذا جدل عميق تناوله منذ عقود فقه القضاء و فقهاء القانون العام بمساهمات ثمينة ذات فضل ثابت على التجربة الدستوريّة و السياسية سواء في تونس أو خارجها .
إلاّ أنّ ذلك كان يخفي وراءه موضوعا آخر لا يقلّ عنه أهميّة و لكن لا نرى أنّه حظي بنفس الاهتمام . موضوع الثّقة البرلمانيّة . هل كان من اللازم أن يمرّ التحوير الحكومي بمصادقة مجلس نوّاب الشّعب ؟ ما الذي يجعلنا نتعامل مع التحوير الحكومي بنفس المنطق و نفس الإجراءات المتّبعة عند تركيز حكومة جديدة بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعيّة ؟ نحن أمام إجراء لا أثر له في أيّ فصل من فصول دستور 26 جانفي 2014 و لا غيره من النّصوص القانونيّة سوى أحكام الفصل 144 الوارد بالعنوان الأوّل من الباب التاسع من النّظام الدّاخلي لمجلس النوّاب الذي جاء بفقرته الثانية أنّه :” إذا تقرّر إدخال تحوير على الحكومة التي نالت ثقة المجلس إمّا بضمّ عضو جديد أو أكثر أو بتكليف عضو بغير المهمّة التي نال الثقة بخصوصها فإنّ ذلك يتطلّب عرض الموضوع على المجلس لطلب نيل الثقة .” بقراءة اوّليّة تبدو عبارات هذا الفصل واضحة و لا تطرح إشكالا على مستوى التطبيق . و لكنّ الحقيقة غير ذلك . فالواضح بأنّ النظام السياسي الذي أرساه دستور 2014 استعار الكثير من تقنيات النّظام البرلماني الذي يشترط بدوره ان تكون الحكومة مزكّاة من المجلس النيابي على أساس برنامج يتطلّب نيل ثقته و يخضع لرقابته . وقد تجسّم هذا التوجّه خاصّة في الفقرة الخامسة من الفصل 89 من دستور 2014 الذي اقتضى بأنّ مجلس نوّاب الشعب يمنح ثقته لبرنامج حكومي لا للوزراء بصفتهم الشّخصيّة و عموما في باقي فصول الدّستور التي تجعل من الحكومة مسؤولة بكاملها عن البرنامج الذي نالت من اجله ثقة المجلس النيابيّ لا من أجل الأشخاص المكلّفين بتنفيذ ذلك البرنامج .
و يزداد الوضع تعقيدا في الجزء الثاني من الفصل 144 الذي يشترط الحصول على ثقة المجلس حتّى عندما يقرر رئيس الحكومة تكليف عضو بغير المهمّة التي نال الثقة بخصوصها . الفرضيّات المشمولة بهذه الأحكام عديدة منها مثلا حالة ضمّ وزارتين لبعضهما و تكليف وزير واحد للإشراف على تسييرهما او حالة الشغور على رأس وزارة أو أكثر يقرر على إثرها رئيس الحكومة تكليف أحد وزرائه المباشرين بتولّي وزارتين أو أكثر في نفس الوقت … هذه الوضعيّات و مثلها تجعلنا أمام تداخل واضح بين اختصاصات السّلطة التنفيذيّة و السلطة التشريعيّة و لنقل بأنّ الأمر يتجاوز مجرّد العمل الرّقابي – المشروع دستوريّا – ليتحوّل إلى وصاية غير مبررة يمارسها المجلس النيابي على عمل الحكومة . و يتعزز هذا الرّأي عند النّظر إلى الصياغة التي جاءت بها أحكام الفقرة الثانية من الفصل 144 التي اقتضت بأنّه ” إذا تقرّر إدخال تحوير على الحكومة …” دون توضيح الجهة التي تقرّر إدخال هذا التّحوير. في حين أوكلت أحكام دستور 2014 بصفة صريحة مهمّة تكوين الحكومة و إجراء تحويرات على تركيبتها إلى سلطة رئيس الحكومة دون غيره .
على المستوى النّظري – أي المتعلّق بواقع النّصوص الدّستوريّة و التشريعيّة – تبدو الحاجة إلى الإصلاح أكيدة . إصلاح مضاعف ينصبّ أوّلا على مراجعة نصوص الدّستور و النّظام الدّاخلي لمجلس نوّاب الشّعب من جهة و العمل على تناسقها و تفادي التّضارب فيما بينها من جهة أخرى . و لكنّ على المستوى العملي لا يبدو الأمر متاحا في المستقبل المنظور بالنّظر لطول الإجراءات الواجب اتباعها و تشعّبها سواء منها المتعلّقة بتنقيح الدستور أو حتّى تلك المتعلّقة بمراجعة النّظام الدّاخلي لمجلس نوّاب الشّعب .
يستمدّ الجدل حول إجراء التحوير الحكومي و ضرورة مروره بالمصادقة البرلمانيّة أقصى أهميّته من الواقع السياسي اليومي الذي تعيشه تونس . هل علينا الإنتظار طيلة المدّة التي تستوجبها إجراءات التنقيح الدّستوري و التشريعي حتّى نخرج من الأزمة السياسية المكبّلة و المتفاقمة يوما بعد آخر ؟ الأكيد أنّ النصوص الدّستوريّة و القانونيّة عموما ليست مجرّد بناء فكريّ سابح في العالم الموضوعي بعيدا عن الواقع الاجتماعي و السياسي . و الأكيد كذلك أنّ النّظام السياسي مهما كانت طبيعته و مهما كان شكله ليس غاية في حدّ ذاته بل هو وسيلة لتحقيق غاية المجتمع في الإزدهار و الاستقرار .و من هذا المنطلق نجد انفسنا اليوم في حاجة عاجلة لقراءة براغماتيّة و أكثر مرونة للنّصوص المنظّمة لمسألة التحوير الوزاري حتّى نتمكّن من تجاوز الحلقة المفرغة التي تدور فيها الحياة السياسية في تونس و تفادي نتائجها السلبيّة في المستقبل .