بقلم العميد عبد الستار بنموسى

-III- إصلاح و حوكمة المؤسسات العمومية مسألة أكيدة وجوهرية:

    لقد مثلت المؤسسات العمومية التي لا تكتسي صبغة إدارية طيلة فترة هامة من الزمن وتحت إشراف الدولة القاعدة المركزية لإرساء البنى الأساسية للبلاد والسعي إلى تحديثها وتطويرها. فمنذ الاستقلال احتلت المؤسسات العمومية مكانة هامة في الاقتصاد وتولت الدولة مسؤولية مراقبة القطاعات الحيوية من الاقتصاد مثل المناجم والطاقة والنقل والكهرباء والماء والخدمات البنكية وساهمت المؤسسات العمومية في التنمية. إن منظومة المؤسسات العمومية  تثير اهتمام المختصين في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومكونات المجتمع المدني  وكافة أفراد الشعب لما لها من مكانة هامة في النسيج الاقتصادي  عبر ما توفره من طاقة تشغيلية ومن مساهمة في الناتج الداخلي الخام ومن خدمات اقتصادية واجتماعية وصحية واستخلاصات لفائدة ميزانية الدولة. كما تمثل العديد من المنشآت العمومية ركيزة أساسية للاقتصاد الوطني لما تقدمه من خدمات واستثمارات في قطاعات هامة كالمناجم والأسمدة والمحروقات والاتصالات والبنية التحتية. إلاّ أنه وبمرور الزمن فقدت جلّ  المؤسسات العمومية فعاليتها ونجاعتها وأصبحت تشكل عبئا ثقيلا على الدولة ممّا أثر سلبا على جدوى الخدمات ومردود المؤسسات.

    لقد أصبحت المؤسسات العمومية مهددة في نشاطها وحتى في وجودها الأمر الذي جعل مسألة إصلاحها تكتسي أهمية قصوى من كافة الأطراف مسؤولين ومواطنين و منظمات وطنية و قوى سياسية و جمعيات المجتمع المدني .

لقد تتالت الندوات والحوارات والمقالات والدراسات التي تمحورت حول التشخيص الدقيق لأوضاع المؤسسات العمومية والتفكير في الحلول الناجعة للإصلاح الذي سيكون عند انجازه محركا أساسيا للتنمية ودافعا لتطوير المنوال التنموي.

1) الوضع المترّدي لجل المؤسسات العمومية :

ما هي ملامح الوضع المتردي وما هي أسبابه ؟

أ ـ ملامح الوضع المتردي

إن الوضع المتردي لا يتعلق بالقطاع البنكي وخاصة البنوك العمومية التي سبق الحديث عنها في مقال سابق وشهدت تطوّرا. في ظلّ غياب التقييم الموضوعي والدقيق للمؤسسات العمومية طيلة عدّة سنوات قصد الإعداد المسؤول والتشاركي لاستراتيجية وبرنامج إصلاح ونظرا لضعف الإرادة السياسية لخوض غمار الإصلاح خوفا من نتائجه على الاستحقاقات الانتخابية ظلت المؤسسات العمومية طيلة عقود من الزمن تشكو من عدّة سلبيات. تراكمت شيئا فشيئا لتزيد من معاناة المواطن المتعامل معها ولتستنزف ميزاينة الدولة وتعمق عجزها من سنة إلى أخرى. لقد ازدادت أوضاع جلّ المؤسسات العمومية تدهورا منذ سنة 2011 حيث انخفضت مردوديتها وتضخم عدد أعوانها وإطاراتها وتردّت خدماتها وضعفت انتاجيتها وتفاقم عجزها المالي وأصبح بعضها مشرفا على التوقف عن النشاط وغير قادر على مجابهة الصعوبات لولا الضمانات الممنوحة من الدولة والتي ارهقت الميزانية العمومية باستمرار.

ضعف المردودية وتردّي الخدمات:

لقد تراجع مناب القيمة المضافة المحصلة من الناتج المحلي من 13 بالمائة سنة 2010 إلى 9.5 بالمائة سنة 2013. تضمن الكتاب الابيض الذي أعدته رئاسة الحكومة بصفة تشاركية سنة 2018 حول إصلاح وحوكمة المؤسسات العمومية، أن قطاع المؤسسات يتكون من 102 منشأة عمومية منها 46 شركة خفية الاسم و73 مؤسسة عمومية لا تكتسي صبغة إدارية و24 مؤسسة صحة عمومية وبالإضافة إلى ذلك فإن الدولة مساهم عمومي في عدد من المؤسسات كان يشرف عليها أشخاص مقربون من النظام السابق ضمن أملاك تمّ الحصول عليها بصورة غير مشروعة وهي حاليا مصادرة إلا أنها تعاني من سوء التصرف وسوء الحوكمة. لم يرتفع مجموع المداخيل لكافة المؤسسات العمومية بين سنتي 2010 و 2014 سوى بـــ 27 بالمائة في حين تراجعت المرابيح بنسبة 55 بالمائة وذلك نتيجة الخسائر المسجلة سنة 2013 والتي شهدت ارتفاعا غير مسبوق وشهدت بذلك عديد المؤسسات العمومية عجزا ماليا وهيكليا مع مردودية ضعيفة.

لقد أثرت الوضعية المالية الصعبة للمؤسسات العمومية والمنشآت على نوعية الخدمات المسداة. فقطاع النقل البري على سبيل المثال أصبح يشكل معاناة يومية للمسافرين سواء عن طريق الحافلات التابعة لشركة نقل تونس أو الشركات الجهوية للنقل أو عن طريق القطارات وعربات الميترو وترجع تلك المعاناة إلى عدّة أسباب أولها تردّي البنية التحتية من طرقات وسكك حديدية وعدم صيانتها كعدم تجديد أسطول الحافلات والقطارات وعدم إصلاح وسائل النقل المعطلّة بسبب عدم توفر قطاع الغيار. بالإضافة إلى نقص المعدّات بحيث تشهد وسائل النقل وخاصة الحافلات والميترو عدم انتظام في مواقيتها واكتظاظا رهيبا ساهم في انتشار الجريمة وتفشي الأوبئة خاصة زمن الكورونا.

أما شركة الخطوط التونسية فإنه نظرا لوضعيتها المالية الصعبة لم تتمكن من تجديد أسطولها وشراء طائرات جديدة وأصبحت عديد الطائرات معطلّة نظرا لعدم تمكن الشركة من شراء قطع الغيار بالعملة الصعبة التي أصبحت نادرة ممّا أدّى إلى ضعف الأسطول وقدمه كما أصبحت الرحالات الجوية تشهد تأخيرا وعدم احترام مواعيدها وكثيرا ما تعود الطائرة دون انجاز الرحلة بسبب عطب طارئ كما أن المشاكل المتعلقة بضياع الأمتعة أو حتى إتلافها أصبحت تؤرق المسافرين فضلا على أن مطار تونس قرطاج أصبح يشهد اكتظاظا يوميا وأحيانا سوء معاملة للمسافرين.

أمّا قطاع الصحة العمومية فقد أصبح يعيش تدهورا خطيرا بعد أن كان يشكل مفخرة لبلادنا منذ تعميم منظومة الصحة العمومية سنة 1956 على نحو اجباري وشبه مجاني بواسطة الدّعم الذي توفره دولة الرعاية الاجتماعية. إلاّ أن المشروع المؤسساتي بدأ في الانحدار منذ ثمانينيات القرن الماضي فضح ذلك تآكل العقد الاجتماعي كما فضحته ثورة 2011 ولئن ضمن الدستور الجديد الحق في الصحة فإنه لم يقع تفعيل ذلك الضمان على أرض الواقع وما فتئ قطاع الصحة يعاني من تدهور البنية التحتية من نقص الأدوية والمعدات الضرورية خاصة في ظّل جائحة كورونا.

لقد كانت مسألة المصعد المعطل بمستشفى جندوبة أسوء دليل على ذلك كما أن وزير الصحة صرّح أخيرا بأن المستشفى الجهوي بباجة لا يصلح ليكون مستشفى. كما أصبح قطاع الصحة يعاني من مخاطر الفساد في مختلف القطاعات التابعة للصحة العمومية مثل فضيحة البنج منتهي الصلوحية ومسألة زرع لوالب قلبية انتهت صلوحيتها وكذلك سيطرة شبكة طبية على مفاصل وزارة الصحة منذ سنوات وتعرقل تطبيق أي برنامج إصلاحي في القطاع الصحي العمومي لصالح القطاع الخاص. بحيث أصبح المواطن الذي لا يتمتع بتأمين صحي والذي لا يمتلك امكانيات مادية عاجزا عن التداوي من الأمراض المستعصية أو المزمنة مما جعل الحق في الصحة الذي ضمنه الدستور الجديد عبارة عن سراب.

تفاقم المديونية :

ارتفعت المديونية نهاية سنة 2015 لعديد المؤسسات العمومية مثل الشركة التونسية للكهرباء الغاز التي بلغت مديونيتها أكثر من 50 بالمائة وشركة تونس الجوية وأصبح العجز كبيرا وغير محتمل. إذ بلغت المديونية الخارجية للمؤسسات العمومية والتي حظيت بضمان الدولة 12 بالمائة من الناتج الداخلي الخام مقابل 10 بالمائة سنة 2013 . وبمرور سنوات ازدادت الوضعية المالية بجّل المؤسسات العمومية سوءا إذ تضمن التقرير حول المنشآت العمومية الملحق لمشروع قانون المالية 2021 أرقاما مفزعة بالنسبة لمديونية 31 منشأة عمومية نورد على سبيل الذكر بعضها:

    – الديوان الوطني للبريد : بلغت المديونية سنة 2016 مبلغ 64.4 مليون دينار من أهمها الديون تجاه الصناديق الاجتماعية وبلغت سنة 2017 قيمة 124.9 مليون دينار وارتفعت سنة 2018 إلى 136 مليون دينار أي بزيادة قدرها 8.8 بالمائة.

– الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية : بلغت المديونية سنة 2016  1947.7 مليون دينار وسنة 2017  2259.7 مليون دينار وارتفعت سنة 2018 إلى 3021.1 مليون دينار أي بارتفاع بنسبة 33.7 بالمائة ويرجع ذلك إلى تدهور الوضعية المالية للصندوق منذ 2012 والتي آلت إلى عجزه على تسديد ديونه تجاه الصندوق الوطني للتأمين على المرض.

– الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي : بلغت المديونية تجاه الصندوق الوطني للتأمين على المرض 1247 مليون دينار سنة 2017 مسجلة إرتفاعا بقيمة 748 مليون دينار بالنسبة لسنة 2016 أي بنسبة عالية  جدّا  بلغت 149.9 بالمائة. كما ارتفعت المديونية سنة 2018 إلى 1712 مليون دينار أي بنسبة 37.3 بالمائة.

كما بلغت مستحقات الصندوق الوطني للتأمين على المرض  سنة 2019  – 1712 مليون دينار  أي بزيادة قدرها 465 مليون دينار وبنسبة 37.3 بالمائة.

– الصندوق الوطني للتأمين على المرض : بلغت مديونية الصندوق سنة 2017 قيمة 1885 مليون دينار وبارتفاع  قيمته 842 مليون دينار عن سنة 2016 أي بنسبة 70 بالمائة وتشمل  تلك المديونية 952 مليون دينار تجاه القطاع الصحي العام و665 مليون دينار تجاه القطاع الصحي الخاص. أما في سنة 2018 فقد انخفضت المديونية بنسبة 3.7 بالمائة إذ بلغت 1815 مليون دينار لئن تم سنة 2019 خلاص كافة ديون الصندوق تجاه الدولة فإن مديونية الصندوق تجاه المؤسسات العمومية خاصة هياكل الصحة العمومية والصيدلية المركزية ارتفعت بنسبة 10 بالمائة لتبلغ 950 مليون دينار سنة 2019 نظرا لتواصل أزمة توفّر السّيولة.

           –  شركة الخطوط التونسية : لقد بلغت مديونية الشركة سنة 2017 مقدار 2567.5 مليون دينار لترتفع سنة 2018 إلى 3098.8 مليون دينار أي بنسبة 20.7 بالمائة ويعود ذلك إلى ارتفاع ديون الشركة  تجاه البنوك خاصة وبسبب تدهور سعر صرف الدينار تجاه اليورو. والديون تجاه الشركات الفرعية  وديوان الطيران المدني والمطارات وكذلك الديون تجاه الدولة.

– الشركة الوطنية للملاحة : بلغت ديون الشركة سنة 2018 مقدار 346 مليون دينار أي بارتفاع نسبة 2.4 بالمائة مقارنة بسنة 2017 التي بلغت فيها المديونية 338 مليون دينار. أمّا سنة 2016 فقد بلغت المديونية 321.5 مليون دينار. أمّا سنة 2019 فقد بلغت المديونية 362 مليون دينار وهي ديون تجاه الدولة والبنوك وخاصة الاجنبية منها فتعمقت بفعل تدهور صرف الدينار تجاه العملة الاجنبية.

– شركة نقل تونس : بلغت مديونيتها سنة 2016 مقدار 1195.7 مليون دينار كما بلغت سنة 2017 مقدار 862 مليون دينار وسنة 2018 مقدار 969 مليون دينار وسنة 2019 مقدار 1187 مليون دينار وهي ديون موزعة تجاه البنوك والمنشآت العمومية مثل الشركة الوطنية لتوزيع البترول والصناديق الاجتماعية كما تتمتع الشركة بضمانات الدولة البالغة 46.4 مليون دينار سنة 2017 مقابل 53.6 مليون دينار سنة 2016 و 51.6 مليون دينار سنة 2018.

– الشركة الوطنية للسكك الحديدية : بلغت مديونيتها سنة 2016 مقدار 1028.5 مليون دينار لترتفع سنة 2017 بــــــــ 1326 مليون دينار  وسنة 2018 إلى 1096.3 مليون دينار وهي ديون تجاه البنوك والصناديق الاجتماعية والمنشآت العمومية كالشركة الوطنية لتوزيع البترول. كما سجلت مديونية الشركة الوطنية للسكك الحديدية سنة 2018 ارتفاعا بنسبة 9.5 بالمائة  سنة 2018 ومبلغ 1179.5 مليون دينار.

– شركة فسفاط قفصة : بلغت ديون الشركة سنة 2017 مقدار 488.3 مليون دينار ـ كما ارتفعت سنة 2018  إلى 510.8 مليون دينار ذلك نتيجة حجم مستحقات البنوك والمنشآت العمومية وأساسا المجمع الكيمائي التونسي والشركة الوطنية لتوزيع البترول والشركة الوطنية للكهرباء والغاز. كما بلغت سنة 2019 مقدار 598.4 مليون دينار أي بارتفاع نسبة 17.15 بالمائة مقارنة بسنة 2018.

– الشركة التونسية للكهرباء والغاز : بلغت مديونية الشركة سنة 2017 مقدار 8594 مليون دينار لترتفع سنة 2018 إلى 11397.4 مليون دينار أي بنسبة 32.6 بالمائة ويعود ذلك إلى ارتفاع  القروض البنكية  خاصة الممولة من مؤسسات خارجية  للقيام بالاستثمارات وشراء  الغاز الطبيعي  بالعملة الصعبة وقد عمّق التداين خسائر الشركة  خاصة بفضل تدهور  قيمة صرف الدينار التونسي تجاه العملة الاجنبية. هذا وقد بلغت مديونية الشركة سنة 2019 مقدار 12104.5 مليون دينار مسجلة ارتفاعا بنسبة 6.9 بالمائة.

هذه عيّنة من الأوضاع المالية الصعبة للمنشآت العمومية التي أصبح يرتكز تأمين مواصلة نشاطها على الدعم المالي للدولة. إذ يتمّ سنويا تخصيص اعتمادات لفائدة تلك المؤسسات بميزانية الدولة بعنوان منح توازن ومنح استثمار وقروض خزينة وقد بلغت مجمل تحويلات الدولة خلال سنة 2019 مبلغ 5514 مليون دينار مقابل 5270 مليون دينار سنة 2018  و4201 مليون دينار سنة 2017 مسجلة ارتفاعا سنويا

ب ـ أسباب الوضع المتردي للمؤسسات العمومية :

من المفارقات المفزعة أن تتحول المؤسسات العمومية من رافعة اقتصادية هامة تمّول الدولة إلى عبء ثقيل عليها ويعود ذلك إلى عدّة أسباب أهمّها ضعف الحوكمة وتقلّص دعم الدولة.

  • ضعف الحوكمة :

    تشكو المنشآت العمومية من سوء التسيير المتأتي من تشتت هياكل الإشراف والمتابعة من خلال تعدد سلطات الإشراف بين رئاسة الحكومة ووزارة المالية من جهة ووزارة الإشراف القطاعي من جهة أخرى. إن تعدد الهياكل المكلفة بالإشراف وتعقيد المسالك الإدارية  بالإضافة  إلى الاعتصامات والإضرابات أضرّ كثيرا بأداء المنشآت العمومية.

    يجمع الخبراء وأهل الاختصاص أن الوضع الصعب الذي تعيشه المؤسسات العمومية يعود إلى ضعف آليات الحوكمة التي تتسم بالتشعب والبيروقراطية المفرطة مما جعل  الإخلالات في التسيير تتراكم رغم العدد الهائل  من عمليات الرقابة والتي  عوض أن تؤدي إلى إصلاح المؤسسات  تلحق أضرارا بسيرها وأدائها. كما اتضح جليا ضعف الرقابة الخارجية بسبب كثرة الهياكل وعدم التنسيق بينها وضعف الرقابة الداخلية للمؤسسات العمومية.

    إن غياب التسيير الناجح والناجع يؤدي إلى الضغط على الموارد العمومية  وتفاقم  عجز الميزانية  وتردي الخدمات في جلّ المجالات . إن ضعف أداء المؤسسات العمومية وتقلص مردودها وتردي خدماتها تشكل مجتمعة حجر عثرة في مسيرة النمو وإهدار الحقوق الاقتصادية.

  • تقليص دعم الدولة :

    لقد تضمن الكتاب الابيض المشار إليه أن قيمة الدّعم بعنوان ميزانيات الاستغلال والاستثمار الذي منحته الدولة للمنشآت العمومية بلغت سنة 2013 نسبة 8.9 بالمائة وسنة 2014 نسبة 7.5 بالمائة  وجهت إلى 9 منشآت وهي الشركة التونسية للكهرباء والغاز والشركة التونسية لصناعة التكرير والديوان التونسي للتجارة وشركة نقل تونس والشركة الوطنية للسكك الحديدية والشركة الجهوية للنقل بصفاقس وشركة النقل بالساحل وقد ساهمت هذه التحويلات في الابقاء على التمتّع بالخدمات العمومية وفي المقابل فإن العديد من المؤسسات العمومية الأخرى التي تشكو عجزا ولم تحصل على أي دعم من الدولة سنتي 2013 و 2014 شهدت نقصا في السيولة فتراكمت ديونها وتقلّص مردودها.

  • تدهور الانتاج وتضخم كتلة الأجور :

    لئن تضخم عدد الأعوان بالمنشآت العمومية خاصة منذ سنة 2011 وارتفعت كتلة الأجور فإن الانتاج تقلصّ و كثيرا ما شهد تعطلا.

    من خلال المعطيات الواردة في تقرير وزارة المالية في سياق الإعداد لميزانية 2020 يتضح أن كتلة الأجور ارتفعت كثيرا فعلى سبيل المثال عرفت كتلة الاجور لأعوان الشركة التونسية للكهرباء والغاز ارتفاعا ملحوظا يعود إلى تسوية وضعيات المنتفعين بالعفو التشريعي والعاملين في إطار المناولة (2012) والزيادات في الاجور (2016-2019) والانتدابات لتعويض المتقاعدين وادماج الأعوان المنتهية عقود إلحاقهم في إطار التعاون الفني  (2016-2019) كذلك بالنسبة لشركة الخطوط التونسية فإن أعباء الأجور سجلت ارتفاعا بنسبة 6.4 بالمائة.

    أمّا بالنسبة لشركتي فسفاط قفصة والمجمع الكيمياوي فإن ارتفاع كتلة الأجور التي أدت إلى تدهور الوضعية المالية للشركتين لم يكن نتيجة انتدابات بل كان نتيجة إحداث الشركات الوهمية (البيئة) التي سعت مختلف الحكومات إلى إنشائها لشراء السلم الاجتماعي  بالحوض المنجمي ويتم خلاص أعوان تلك الشركات الوهمية من شركة فسفاط قفصة والمجمع الكيمياوي.

    إن المؤشرات الواردة بتقرير وزارة المالية تبيّن بوضوح  تدني الانتاج في عديد المؤسسات العمومية. ولئن فسّر المسؤولون ذلك بالإضرابات والاعتصامات ببعض المؤسسات على غرار شركة فسفاط قفصة والحوض المنجمي فإنهم اخفوا الأسباب الحقيقية المتمثلة في دور اللوبيات في تأجيج الإضرابات والاعتصامات وفي تعطيل نقل الفسفاط بواسطة القطارات وبالتالي تعطيل استثمارات شركة السكك الحديدية، كل ذلك خدمة لمصالحهم والانفراد بنقل الفسفاط عبر وسائل نقلهم وصولا  إلى تفليس الشركات المعنية وخوصصتها.

    أشار نعوم تشومسكي في كتابه “من يملك العالم” إلى أن “الطريقة المثالية لخوصصة القطاع العمومي تعتمد أولا على قطع التمويل المالي لهذه المؤسسات ثم تعيين مسؤولين عديمي الكفاءة أو فاسدين فتتعثّر الخدمات والوضعيات المالية لهذه المؤسسات  فيتذمر المواطنون عندئذ تقوم الجهات الرسمية بشيطنة المؤسسة وتلوّح بخوصصتها فتجد الرأي العام مستعدا لهذا“.   

              أليست هذه الوصفة السحرية التي تحاول العديد من اللوبيات في بلادنا العمل بها؟