دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربيّة لغتها و الجمهوريّة نظامها. بهذه العبارات عرّف الفصل الأوّل من الدّستور التونسي لسنة 2014 الدّولة التونسية مستعيرا حرفيّا ما جاء بالفصل الأوّل من دستور 01 جوان 1959 مضيفا إليه جملة ” لا يجوز تعديل هذا الفصل “. ظاهريّا لم يكن مضمون الفصل الأول يطرح إشكالا و لم يكن موضوع جدل يذكر بين مؤسسي دستور 2014 تماما مثلما كان الشأن بالنسبة لمؤسسي دستور 1959 .كانت عباراته تبدو واضحة و مضامينه تبدو بديهيّة إلى درجة أنّه لم يكن من العسير على مؤسسي دستور 2014 أن يحصّنوه صراحة من التعديل و المراجعة . لقد كان واضحا بأنّ الانتشاء الثّوري جعلهم غير منتبهين لطبيعة النصوص الوضعيّة الخاضعة بحكم نشأتها الإنسانيّة إلى قاعدة التطوّر و قابليّة التعديل مهما بدت مكتملة في زمانها و أن النصوص السّماوية وحدها ثابتة لا تقبل المراجعة .. .
تطرح أحكام الفصل الأوّل من الدستور التونسي إشكاليات متفاوتة الأهميّة سواء على المستوى النّظري وعلى المستوى العملي .ولكنّ مسألة دين الدّولة تبدو في نظرنا الأكثر إثارة للجدل. هل يمكن ان يكون للدّولة دين ؟ ما هي نتائج اختيار دين للدولة و تكريسه على مستوى النصوص الدستورية على سير مؤسساتها؟ كيف يمكن التّوفيق بين صفتين متناقضتين للدّولة: دولة ذات دين و في نفس الوقت مدنيّة تقوم على المواطنة بصريح الفصل الثاني من دستور 2014 ؟ هل يمكن أن تعتمد دولة نظاما جمهوريا أوّل مبادئه المساواة بين جميع المواطنين ومن جانب آخر تتبنّى رسميّا توجّهات جزء منهم دون جزء آخر ؟
نظريّا عادة ما يرتبط النقاش حول موضوع دين الدّولة بجدل لا ينتهي حول الهويّة و الثقافة و التاريخ و غير ذلك من المسائل التي حسمتها الحضارة و ثورات العقل منذ قرون … . لقد قدّم الفلاسفة و فقهاء القانون عددا لا يمكن حصره من المساهمات في تعريف الدّولة الحديثة أجمعت كلّها على أنّها أولا و قبل كلّ شيء مؤسسة و أنّ هذه المؤسسة بطبيعتها متميّزة بالدّيمومة و الإستقلاليّة عن المجموعات البشرية التي تقيم في اقليمها و تلتزم بقوانينها و تخضع لسلطتها . و من مظاهر تميّز الدولة أنها لا تتديّن كالبشر الذين يشرفون على تسييرها و بالتالي لا يمكن أن تترجم تديّنها بأي ّ سلوك و لا طقوس مثلما هو شأنهم
نحن أمام مفهوم للدّولة يصعب استيعابه في منظومة فكريّة و اجتماعيّة تنبذ التصوّر و التجريد و تستعيض عنهما بالتشخيص البسيط .و يزداد التساؤل حول معنى دين الدّولة إذا انتقلنا بالجدل إلى المستوى العملي الذي ينتقل فيه إعلان المبادئ إلى مجال الممارسات الإجتماعيّة و السياسية اليوميّة . حينها نجد أنفسنا امام دستور متذبذب التوجهات و يصعب حلّ التضارب الذي يميّز العديد من أحكامه .
جاء بالفصل السادس من دستور 2014 أنّ الدّولة ” راعية للدّين ، كافلة لحريّة المعتقد و الضّمير و ممارسة الشعائر الدّينيّة ، ضامنة لحياد المساجد و دور العبادة عن التّوظيف الحزبي ” . بقراءة أوّليّة يبدو هذا الفصل مكرّسا لحرّية الضمير و المعتقد و حاميا لمعتقدات كلّ فرد سواء كانت دينيّة او غيرها . و لكنّ صياغته توحي بعكس ذلك تماما . فعبارة ” راعية للدّين ” جاءت باستعمال المفرد المعرّف ممّا يوحي بأنّ الدّين في دستور الدّولة معروف و واحد ولا حاجة لتوضيح إن كان دينا إسلاميا او مسيحيّا او يهوديّا او غيره من الأديان و بالنتيجة فلا تحظى باقي الدّيانات بنفس الرّعاية التي نصّ عليها بالفصل السادس من الدستور .عديدة هي الإشكاليات التي يطرحها هذا الفصل و ليس آخرها هذا التمييز المدستر بين مواطني الدّولة على أسس دينيّة .
هذا التمييز نجده مكرّسا بأكثر وضوح في الفصل 74 من الدّستور المتعلّق بالشروط الواجب توفّرها للترشّح لمنصب رئيس الجمهوريّة إذ ينصّ صراحة بانّ المترشّح يجب أن يكون دينه الإسلام . بالرّجوع إلى مداولات المجلس الوطني التأسيسي حول هذا الفصل لا نجد بها شرحا مقنعا لهذا الإشتراط الذي من شأنه أن يحدّ من حقّ النّاخب في الإختيار الحرّ . و بمزيد التأمّل تبدو عبارات الفصل 74 أكثر خطورة من مجرّد المسّ من حق الإنتخاب الحر إذ من شأنه أن يحرم ضمنيّا كلّ مواطن تونسي غير مسلم من الترشّح و يتعارض بالتالي مع ما جاء بالفصل 21 من أنّ المواطنين و المواطنات ” متساوون في الحقوق و الواجبات و هم سواء امام القانون من غير تمييز ” . و بقراءة متوازية بين الفصلين يمكن التجرّؤ على القول بأنّ الدّستور التونسي يقدّم الإنتماء الدّيني كشرط من شروط المواطنة و بالنتيجة لا يعتبر التونسيين اللّادينيين أو المنتمين لدين غير الإسلام من ضمن المواطنين .
في الحقيقة لا يقتصر التداخل بين العامل الديني و مقتضيات الدّولة المدنيّة على نصّ الدّستور بل نجده مكرّسا أحيانا بصفة ضمنيّة و أحيانا بصفة صريحة في العديد من النّصوص التشريعيّة خاصّة المتعلّقة منها بالوظيفة العمومية التي تكرّس مبدأ المساوة يبين جميع الموظّفين و جميع المترشحين لممارسة الوظيفة العموميّة . من الأمثلة على ذلك يمكن أن نذكر تلك المتعلّقة بالوظائف العموميّة ذات الصبغة الدّينيّة ( الوعّاظ و الأئمّة مثلا ) التي يصعب تصوّر ممارستها من الموظّفين العموميين من غير المسلمين او الوظائف التي تشترط لممارستها أداء قسم بطريقة تحيل بوضوح إلى التّعاليم الإسلاميّة .
و لكن مهما كانت مواقع الغموض في علاقة الدّولة بالدّين متعدّدة و متواصلة في الزّمن فلا يجب أن ننسى أنّ هذه الحالة ليست سوى نتيجة لغموض تاريخي في المفاهيم . نحن في حاجة للاتفاق اوّلا حول تعريف دستوريّ عقلانيّ للدّولة و رسم حدود واضحة لعلاقتها بالمجموعة البشريّة التي تعيش فيها .
شكري عزّوز