بقلم الدكتور الصحبي بن فرج

….أخيرا نطق الرئيس بوضوح


إذا تركنا جانبا الإطار والصيغ اللغوية المعتمدة وألفاظ التخوين ومفردات الاتهام بالتخطيط للاغتيال ( وهي للأسف تسيء إلى جوهر الموضوع وتضيع اللبّ والجوهر في سيْلٍ من الجمل والصيغ البلاغية والنارية)، إذا تركنا ذلك جانبا يمكننا  التقاط الفكرة الأساسية التي تشكل قلب مشروع الرئيس والخيط الناظم لما خطط له ولما يريد الوصول إليه والذي امتنع عن التصريح به طيلة عام ونصف،


يمكننا أيضا أن نكتشف بوضوح حجم وعمق المأزق الذي يحيط بنا من كل جانب:
أولا، يريد الرئيس حوارا لتغيير النظام الحالي الحالي  جذريا وكتابة دستور “حقيقي” وصياغة قانون انتخابي جديد.
ثانيا، يرى الرئيس وجوب المرور إلى الدستور الجديد عبر مرحلة انتقالية.
ثالثا، يجدد الرئيس الالتزام طوال هذا المسار بالمحافظة على المؤسسات وآليات الدستور الحالي الذي أقسم على احترامه.
وهنا بالذات يكمن المأزق وتتعمق الأزمة، أزمة الرئيس وأزمة السياسة في تونس….. وهي استحالة تغيير أحكام الدستور بآليات الدستور ودون مخالفة أحكام الدستور
إذ يستحيل(لا اليوم ولا غدا ولا بعد عشر سنوات) جمع 145 نائبا للتصويت على هذا التغيير فضلا على أن يتفقوا جميعهم على تعديلات النص الذي سيقترحها عليهم رئيس الدولة.


بالحد الأدنى من المستحيل أن تقبل النهضة والكرامة (وغيرهما) نظاما رئاسيا ديمقراطيا ونظاما انتخابيا على دورتين يفرز أغلبية واضحة يعرفون جيدا أنها ستحجّم دورهم وتقلّص من سلطة البرلمان (الذي يتحكمون فيه بمقتضى النظام الحالي ويتحكمون عبره في أي حكومة مهما كانت ومهما كان حجمهم الانتخابي) لن تقبل حركة النهضة بإمكانية توفر أغلبية واضحة معادية لها قد تقصيها من مشهد السلطة وتحشرها في زاوية المعارضة، هم يعلمون جيدا أن خروجهم من السلطة يعني أشياء كثيرة ليس أقلها كشف الحساب الداخلي وصراع الخلافة وفقدان موقعها داخل السيستام، من المستحيل أن تقبل النهضة بالتنازل عن موقع الحزب المفصلي الذي تتقاطع عنده جميع الخطوط والمصالح لتنكفئ إلى مجرد حزب “عادي”.


ماذا فعل الرئيس طيلة سنة ونصف؟

بعد تفريطه مرتين في هدية “حكومة الرئيس”  التي منحتها له الأحزاب والتي كان من المفروض أن تشتغل لحساب أجندته السياسية، انتهج قيس سعيد سياسة البلوكاج الآلي لاستدراج كامل المنظومة السياسية التقليدية إلى حيث يريد : مأزقا دستوريا حادا يجعل كامل المنظومة في حكم المجمّدة، مأزقا عرض أن يحله مقابل حوار وطني غير تقليدي ينتج مخرجات سياسية غير تقليدية يستحيل الوصول إليها في وضع عادي وبحوار عادي.


ببساطة معادلة الرئيس هي التالية: أنتم تملكون شرعية التمسك بالدستور الحالي وسلطة منع المرور الى نظام جديد وأنا أمتلك مشروعية الدعوة إلى نظام سياسي جديد وأملك إرادة وآلية إيقاف نظامكم و تعطيل دستوركم الذي وضعتموه لمصلحتكم: لا حكومة ولا محكمة دستورية ولا هيئات ولا يمين دستورية ولا قوانين وربما مستقبلا …… لا إمضاء لدعوة الناخبين، سأستعمل في ذلك كل الثغرات والمطبات والألغام التي تضمنها نفس دستوركم الذي كتبتموه بأيديكم.


 
   كيف تصرفت النهضة وحلفاؤها؟

يبدو أنهم اعتقدوا في البداية أنهم يتعاملون مع رئيس تقليدي، سينقطع تدريجيا عن حاضنته الشعبية ويتخلى عن وعوده كما فعل الذين من قبله،  ويترك “مشروعه” الانتخابي الذي اعتبروه هلاميا ومغرقا في المثالية وفي جميع الاحوال غير قابل للتحقيق،
هذا ما يفسّر وقوعهم في الخطإ القاتل بإضاعة فرصة تشكيل حكومتهم بسوء اختيارهم للحبيب الجملي وإهدائها على طبق إلى الرئيس و خصومهم،
ثم انتبهوا بعد ذلك إلى خطورة التحالف الوثيق بين الفخفاخ وقيس سعيد ومحمد عبو فاستماتوا في إسقاط الحكومة ولما فوجؤوا باستقالة الفخفاخ وعودة التكليف إلى الرئيس ، اشتغلوا سريعا على الاستحواذ على المكلف الجديد هشام المشيشي وتحويل  وجهته منذ اليوم الأول من شخصية مستقلة تابعة للرئيس إلى رئيس حكومة مضمونة ومصطفة إلى جانبه.
هذا ما يفسّر حدة الأزمة القائمة سواء بين قيس والمشيشي أو بين قيس والنهضة وذلك بالنظر إلى حجم الرهان وهو السيطرة على السلطة التنفيذية أو مفتاح التحكم في مسار المواجهة.
في مرحلة متقدمة، اتبعت حركة النهضة وحلفاؤها وماكيناتها الإعلامية سياسة تشليك وتتفيه قيس سعيد واتهامه بتعطيل دواليب الدولة ووصمه بالسعي إلى الانقلاب على الدستور و المؤسسات والنزوع إلى الاستبداد والاستفراد بالسلطة (راجعوا كتابات رفيق عبد السلام وتصريحات نواب الكرامة وتسريبات الخياري ووثائق الانقلاب العديدة).


في هذه المعركة، يعوّل قيس سعيد إلى جانب قدرته على البلوكاج الدستوري، على رأي عام شعبي واسع ونخبٍ سياسية وغير سياسية تعتبر في أغلبها أن منظومة ما بعد الثورة، وبالأساس حركة النهضة، أنتجت طبقة سياسية فاشلة وفاسدة ووضعت نظاما سياسيا مصلحيا فاسدا على مقاسها ومقاس مصالحها وأهواء اللوبيات التي تدعمها، وترى هذه الأغلبية أن الحل لا يكون إلا بإسقاط المنظومة بنظامها ودستورها والسير نحو نظام رئاسي حازم وعادل.


كما يعتمد الرئيس على ما يبدو  على دعم ضمني من عدد من شركاء تونس في الخارج الذين خلصوا إلى ضرورة تغيير هذا النظام السياسي البائس الذي جعل من تونس دولة فاشلة و “عالة” على شعبها وشركائها (لاحظوا أن المسألة السياسية تتصدر  توصيات الجهات المالية المانحة لتونس).


أما نقطة ضعف الرئيس الكبرى فهي توجسه المزمن من كل الفاعلين السياسيين، حتى القريبين منه وإصراره على المضي لوحده في ما يخطط له بدون أدنى تنسيق أو تشاور مع الأحزاب والشخصيات والمنظمات الوطنية، إضافةً طبعا إلى الضعف الفادح لفريقه الاستشاري دبلوماسيا وسياسيا واتصاليا.


في المقابل تستعمل حركة النهضة كل مواقعها وعلاقاتها وشبكاتها ونفوذها  داخل الدولة لتؤكد أولا دفاعها عن “السيستام” بصفتها الحزب القوي الوحيد المدافع على مصالحه و الضامن لاستمراره والقادر على ذلك،
وثانيا، لتؤكد للمجتمع السياسي و”الثوري” في الداخل ولشركاء تونس في الخارج بأنها القوة الوحيدة المضادة لقوى الردة والمدافعة الأولى عن الانتقال الديمقراطي “في وجه الشعبوية والفاشية وكل من يريد أن يعيدنا ألى عصر الاستبداد وحكم الفرد”.
أما نقاط ضعف حركة النهضة فهي كثيرة: انقساماتها الداخلية، تراجع شعبيتها، تآكل خطابها و مصداقيتها بعد عشر سنوات من الحكم، تحالفاتها مع قلب تونس والكرامة… وتبقى نقطة ضعفها الأخطر على الإطلاق هي هشام المشيشي وحكومته العاجزة تماما عن تقديم أي حل للأزمة الصحية أو المالية التي ستتحول إذا استمرت  إلى عاصفة شعبية تنهال  عليها وعلى كل من يساندها.
في رأيي الشخصي المتواضع، نحن في وضعية توازن القوى،  توازن مستقر وسلبي:  لا الرئيس سينجح في تغيير النظام بالآليات الدستورية المتاحة وسيواصل بالتالي سياسة البلوكاج ولا النهضة ستنجح في تحجيم الرئيس ولا ستتفادى تداعيات الأزمة المالية والصحية ومنع انهيار المنظومة برمتها أمام الغضب الشعبي وستواصل فقط المناورة بما يتوفر لديها من عناصر قوة.
لا أرى حلا سوى عرض الأمر على الشعب ليفصل بين المعسكرين عبر تنظيم استفتاء يحسم بينهما : إما نظام رئاسي ديمقراطي ونظام اقتراع يفرز أغلبية وإما نظام برلماني مطلق بنظام اقتراع نسبي،
عدى ذلك فهو حرث في البحر، وخطوة نحو الهاوية.