بقلم العميد عبد الستار بنموسى

تحتل الإدارة في مختلف أنحاء العالم العمود الفقري للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية فكلما كانت سليمة قوية إلا وتطورت البنى الأساسية والخدمات الإدارية وصارت الإدارة محركا للتنمية وللتطور، وكلما كانت ضعيفة مكبلة بالبيروقراطية إلا وصارت سببا مباشرا للتخلف والتقهقر.

لقد كانت أوروبا في عصر ما قبل النهضة الصناعية والتقنية تتخبط في مشاكل من البيروقراطية والتعقيدات الإدارية مما أثر سلبا على النمو الاقتصادي وعلى الوضع الاجتماعي.

أمّا في ربوعنا وخلال عهد حمودة باشا باي أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين فقد كانت تونس قوّة اقتصادية مزدهرة في الفضاء المتوسطي وذلك بفضل إدارتها التي تقوم على مرونة الخدمات وسرعتها وتخلصت من التعقيدات البيروقراطية، لقد علق على ذلك لويس فرانك المؤرخ وطبيب الباي آنذاك بأن الاوروبيين قد يجدون مشقة في فهم إمكانية قيام رجل واحد بجميع تلك المسؤوليات المختلفة وإدارتها بانتظام ودقّة إنما يرجع ذلك إلى اختصار المشاكل البيروقراطية والتعقيدات الإدارية التي كانت تنخر الإدارة الاوروبية واختتم بقوله : ” في الوقت الذي يجد حاكم أوروبي نفسه محتاجا لمائة موظف من مختلف المستويات الإدارية للقيام بإدارة الدولة، أربعة او ستة كتاب يكونون كافيين للقيام بنفس المهام في تونس“.

لم يهتم النواب بالمجلس الوطني التأسيسي الأول بمسألة الإدارة فلم يتضمن الدستور التونسي الصادر في غرة جوان 1959 أي فصل يتعلق بالإدارة.

ضمت الإدارة التونسية منذ 1957 وإلى حدود 2011 عدّة كفاءات متخرجة من المدرسة القومية للإدارة والجامعات التونسية والأجنبية لكنها ظلت مرتبطة بنظام رئاسوي أحكم فيه رئيس الجمهورية السيطرة على الأجهزة الإدارية مما أثر سلبا على طرق تسييرها وشوه دورها كأداة لتنفيذ السياسة العامة التي تضبطها السلطة التنفيذية وتحدد المشاريع الكبرى وتعيّن الوظائف العليا.وهكذا فقدت الإدارة حيادها وتحولت إلى أداة مطيعة لخدمة النظام السياسي المبنى على الولاءات وعلى غياب المساءلة وتكريس الإفلات من العقاب.

طيلة أكثر من 65 سنة على الاستقلال أي قبل وبعد 2011 حافظت الإدارة التونسية على النمط التقليدي المبني على البيروقراطية والتعقيدات الإجرائية والوصولية والزبونية رغم المجهودات المبذولة لإصلاح الأجهزة الإدارية والهياكل المحدثة كمكاتب العلاقات مع المواطن ومؤسسة المواطن الرقيب قصد تحسين العلاقة بين المواطن والإدارة وتطوير الجودة والإنتاجية ظلت بوادر الإصلاح مبتورة تفتقر إلى توجه استراتيجي شامل ومتكامل وإلى برنامج إصلاحات جوهرية على مستوى الأنظمة والهيكلة والممارسات الإدارية وتوحيد آليات الرقابة الإدارية وتكريس آليات المكافأة المبنية على النزاهة والإخلاص في العمل والمساءلة الناجمة عن سوء التصرف والتقاعس في العمل. إلا أن الإدارة التونسية رغم الأمراض والعلل التي تعاني منها وبفضل الكفاءات التي تزخر بها حافظت على كيانها ولم تندثر عند انهيار أسس السلطة التنفيذية سنة 2011 بل بقيت تضمن مصالح المواطنين وتدفع رواتب العملة والموظفين وتسهر على الأمن العام إلا أن السياسات التي اتبعتها حكومة الترويكا بعد الثورة عبر الآلاف من الانتدابات العشوائية وإدماج المتمتعين بالعفو العام في الوظيفة العمومية مع تمتعيهم بترقيات مهنية استثنائية رغم محدوديتهم المهنية الأمر الذي أدى إلى إغراق الإدارة وتضخم عدد الموظفين بها دون انتاجية ملموسة خاصة وأن الانتدابات والترقيات لم تكن تخضع للكفاءة والمردودية بل كانت تخضع لمنطق الولاءات والمحاباة. عمّق ذلك عجز الميزانية وأساء إلى المرفق العمومي بصفة منهجيّة. وفي المقابل تمّ إعفاء عديد الموظفين ذوي الخبرة والكفاءة لأسباب سياسية دون محاكمات بل لمجرد شبهات كما أن العديد من الكفاءات هجرت الإدارة والبلاد تمّ بالتالي إفراغ الإدارة من العديد من كفاءاتها تحت ضغط المجتمع المدني . وبفضل الحوار الوطني تضمن الدستور الجديد اهتماما واضحا بالإدارة وأخرجها من جبّة الجهاز الممثل الميداني لسلطة التنفيذ والمنفذ المطيع لأوامرها إلى الإطار المجسّد للمرفق الذي يقوم بخدمة المواطنين والمترفقين عموما، إذ نصّ الفصل 15 من الدستور بأن :”الإدارة في خدمة المواطن والصالح العام، تنظم وتعمل وفق مبادئ الحياد والمساواة واستمرارية المرفق العام وفق قواعد الشفافية والنزاهة والنجاعة والمساءلة. فهل تمّ تفعيل هذه المبادئ وتنزيلها على أرض الواقع“؟

ما انفكت الحكومات المتتالية تهتم بموضوع إصلاح الإدارة وتتعهد باتخاذ جملة من الإجراءات التحديثية والقيام باستشارة وطنية حول إصلاح الوظيفة العمومية والإصلاح الإداري تسبقها ورشات اقليمية. وتعددت الندوات والاستشارات وتم ضبط استراتيجيات في الغرض إلا أن تنفيذها اتسم بالتردد واجترار واصطدم بمقاومة شرسة من أهل الدار.

لقد تضمنت استراتيجية تحديث الإدارة وإصلاح الوظيفة العمومية عدّة محاور أهمّها:

  • فيما يتعلق بالتحديث الإداري :

تضمن التوجه الاستراتيجي الأول:

  • إرساء خدمات ذات جودة عالية للمتعاملين مع الإدارة وذلك بتكريس آلية ميثاق المواطن الذي تم وضعه بمقتضى الأمر الحكومي عدد 1067 المؤرخ في 25 ديسمبر 2018 ويتمثل الميثاق في دعوة مصالح الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات والمنشآت العمومية بجرد الخدمات الرئيسية التي تقدمها للمتعاملين معها والالتزام بتحسين الخدمات ضمن وثيقة “ميثاق المواطن” في أجل محدد ووفق مقاربة تشاركية.

في نفس الإطار تم العمل على تفعيل دور المواطن الرقيب وتوسيعه عبر تنويع مهامه الرقابية للتثبت من جودة الخدمات الإدارية وجودة الاستقبال بالمصالح العمومية عبر وسائل الاتصال المباشر او البريدي أو الالكتروني وتطوير آليات عمل فريق المواطن الرقيب. وفي هذا الغرض صدر الأمر الحكومي عدد 1079 المؤرخ في 12 أوت 2016. تمّ أيضا تنفيذ برنامج وطني لتطوير مهارات الاستقبال والتواصل بالمصالح العمومية عبر تنظيم دورات تكوينية على المستوى المركزي والجهوي واختتمت الدورات التكوينية بالمصادقة على ميثاق جودة الاستقبال الذي يتضمن أهم الواجبات والالتزامات لتطوير الاستقبال والتواصل مع المرتفقين كما تمّ إصدار مدونة سلوكية لأعوان وموظفي الدولة والمؤسسات التي تدير مرافق عمومية.

  • توفير خدمات إدارية سهلة النفاذ انطلاقا من التشخيص الميداني الذي تم انجازه سنة 2016 والذي أبرز وجود تفاوت ملحوظ في نسبة تغطية الخدمات الإدارية ذات الاولوية لدى المواطن ( الكهرباء والغاز – الماء الصالح للشراب – التغطية الاجتماعية والصحية – البريد الاتصالات – التشغيل – البلدية – القباضة المالية) إذ بلغ المعدل الوطني 45% لينخفض إلى 20% في 65 معتمدية . وبناء على ذلك التشخيص ارتكز التمشي الجديد على إحداث دور جديدة للخدمات وضبط أصنافها وتحديد الأولوية في الإحداث.
  • تبسيط الإجراءات الإدارية : وذلك بحذف إجراء التعريف بالإمضاء وإجراء الشهائد المطابقة للأصل. وفي هذا الصدد صدر الأمر عدد 1067 المؤرخ في 25 ديسمبر 2018 والمتعلق بضبط الإطار العام للعلاقة بين الإدارة والمتعاملين معها وتمّ بمقتضاه إلغاء 52%من عدد الحالات التي تستوجب التعريف بالإمضاء و54% من عدد الحالات التي تستوجب مطابقة النسخ لأصولها وإصدار قائمة حصرية في الغرض.

كما تمّ إعداد تقرير تضمن تشخيصا لمسار الحصول على رخصة البناء ومقترحات عملية لإصلاح ذلك المسار قصد تبسيط الإجراءات المعقدة. في نفس السياق صادق مجلس وزاري يوم 9 جوان 2020 على مشروع قانون يتعلق بتنقيح أحكام الفصل 96 من المجلة الجزائية الذي كان يلحق الأذى المادي والمعنوي بعديد الموظفين دون أن يرتكبوا ذنبا ومازال مشروع القانون يراوح مكانه كما أعلنت رئاسة الحكومة سنة 2021 على عدّة إجراءات للتخفيف من البيروقراطية والتنقيص من التراخيص الإدارية.

  • جعل الإدارة منفتحة تجاه المواطنين : وذلك بتكريس الحق في النفاذ إلى المعلومة عبر إصدار القانون الأساسي عدد 22 المؤرخ في 24 مارس 2016 وإعداد منشور تفسيري في الغرض وهو المنشور الصادر عن رئاسة الحكومة في 19 ماي 2018 أي بعد أكثر من سنتين من إصدار القانون.

كما تمّ النظر في تكريس المقاربة التشاركية في إعداد السياسات العامة عبر إصدار الأمر الحكومي عدد 328 المؤرخ في 29 مارس 2018 المتعلق بتنظيم الاستشارات العموميةـ تمّ في نفس الاتجاه إرساء الحكومة المفتوحة من خلال إعداد برنامج شراكة الحكومة المفتوحة ومتابعة تنفيذه تحت إشراف الإدارة الالكترونية وذلك منذ 16 جانفي 2014 تاريخ انضمام بلادنا لمبادرة شراكة الحكومة المفتوحة.

وفي هذا الغرض أشار التقرير الذي أصدرته الحكومة في مارس 2019 حول استراتيجية تحديث الإدارة أنه تمّ تنفيذ 15 تعهدا فقط من جملة 35 تتعلق بتكريس وتعزيز مبادئ الشفافية والمشاركة والمساءلة على غرار القانون الأساسي عدد 10 لسنة 2017 والمتعلق بالإبلاغ عن الفساد وحماية المبلغين والقانون عدد 46 لسنة 2018 المتعلق بالتصريح بالمكاسب.

تمّ أيضا إرساء المنظومة الالكترونية المتجهة للشكاوى “مواطن” وتطوير منظومة الميزانية المفتوحة “ميزانيتنا” وإعداد بوابة للبيانات المفتوحة خاصة بقطاع الطاقة والمناجم والصناعة وإصدار أمر منظم للاستشارات العمومية سنة 2018. كما تمّ أخيرا إحداث منصة “إدارتي” للحدّ من البيروقراطية وتسهيل الحصول على المعلومة وتبسيط الإجراءات والمعاملات الإدارية ويقدم الموقع حسبما تمّ الإعلان عنه خدمة معلوماتية للمرتفقين تستجيب لمشاغلهم وتمكنهم من الحصول على معلومات دقيقة وحينية.

  • رقمنة الإدارة :

في إطار مشروع دعم إرساء الإدارة الالكترونية والحكومة المفتوحة الممول من قبل البنك الافريقي للتنمية تمّ إعداد استراتيجية الحكومة الذكيّة 2020 وفق مسار تشاركي ضمّ جميع الهياكل العمومية المعنية ومن بينها وزارة تكنولوجيا الاتصال والاقتصاد الرقمي وتمّ رسم خارطة طريق تتضمن 56 مشروعا أفقيا و20 مشروعا قطاعيا ـ كما تضمن بعث ثلاثة بوابات وطنية : موقع الحكومة التونسية وبوابة البيانات المفتوحة وبوابة المشاركة الالكترونية و12 خدمة باعتماد 12 تطبيقة عبر تكنولوجيات الهاتف الجوال، كما تمّ تنظيم 7 دورات تكوينية حول عديد المحاور المتعلقة بالإدارة الالكترونية والنظم المعلوماتية والتقنيات الحديثة شملت حسب تقرير الحكومة المشار إليه 140 إطار في مختلف الهياكل العمومية وخاصة المركزية وأسفرت عن إعداد مطويات وومضات إشهارية تحسيسية لنشر الوعي حول أهمية الإدارة الالكترونية والحكومة المفتوحة.

اما بالنسبة لإصلاح الوظيفة العمومية :

فلقد تضمنت الاستراتيجية إجراءات تهدف إلى تركيز وظيفة عمومية ذات كفاءة في خدمة المواطنين وظيفة عمومية ناجعة تقوم على تنمية القدرات الذاتية لأعوانها لتدعم الحراك الوظيفي وإعادة توظيف الأعوان العموميين. وفي هذا الشأن صدر سنة 2019 المنشور المتعلق باعتماد سياسة تدوير الموارد البشرية وإعادة توظيفها بين الهياكل الوزارية والإدارات وتضمن المنشور جملة من الإجراءات والتدابير الاستثنائية للتحكم في الترقيات وإخضاعها إلى مبادئ الكفاءة والتميز والتصرف بإحكام في الساعات الإضافية من خلال إسنادها عند ثبوت العمل المنجز وترشيد منحة الانتاج وربطها بالأداء الفعلي.

كما تمّ إقرار مراجعة جذرية للنظام الأساسي العام للوظيفة العمومية قصد تحديث الإدارة وتبسيط التصرف العمومي وتنمية قدرات الموارد البشرية وإصلاح منظومة التكوين عبر مراجعة النصوص الترتيبية المتعلقة به.

لقد تتالت الوعود من قبل مختلف الحكومات بإصلاح المنظومة الإدارية والوظيفة العمومية وتمّ إعداد الاستراتيجيات والبرامج ذات الصلة وتنظيم الاستشارات الجهوية والمركزية والندوات التكوينية داخل البلاد وخارجها واقتناء التجهيزات بمختلف أنواعها وخاصة وسائل الاتصال الحديثة وإصدار القوانين والأوامر والمناشير وإعداد جملة أخرى من مشاريع القوانين والأوامر مازالت تقبع في الرفوف. فهل تطورت الإدارة التونسية وهل تحسنت العلاقة بينها وبين المواطن وهل أصبحت حديثة في خدمة المجتمع والبلاد ومحركا للتنمية ودافعا لتطور الاقتصاد؟

أم أن الإصلاحات الجذرية ظلت أضغاث أحلام لتتحول إلى مجرد أوهام؟