صحيفة الأحد – Jdd Tunisie

غزوة الوثيقة

بقلم: الدكتور الصحبي بن فرج

تبدو الساحة وكأنها جاهزة لاحتضان اتفاق طُبخ بعيدا عن الأضواء، حتى “غزوة” الوثيقة فشلت في استفزاز  سيد القصر واستدراجه لإفساد المناخ الهادئ والمفاجئ الذي ساد منذ خطبة العيد.


فجأة، استقبل الرئيس السيد هشام المشيشي بعد أشهر من المقاطعة مع إشراك وزير الدفاع في اللقاء بما يوحي بأن الجلسة مع المشيشي تمت بصفته وزيرا مكلّفا بالداخلية أكثر من صفته رئيسا لحكومة لا يزال الرئيس متحفظا عليها ورافضا لأكثر من نصفها.


على غير العادة، تكلّم الرئيس بهدوء لافت لينفي أي نوايا انقلابية لديه، دون تشنّج ولا عبارات نارية، ثم وجه الرئيس لوما “ديبلوماسيا” لطيفا إلى وزير الداخلية لعدم تنفيذ بطاقة جلب النائب الخياري  وإلى مجلس النواب لإهماله مطالب رفع الحصانة عن النواب وإلى وزارة العدل لعدم تحريك النيابة العمومية وربما لـ”ترقيد” إجراءات رفع الحصانة في حق بعض النواب.


ربما راهن مسرّبو الوثيقة والقائمين عليها، على أن الرئيس سيطلق صواريخه على الجميع بما يحمّله نهائيا ولوحده وزر فشل كامل مسار المصالحة والتسوية، ولكن الرئيس لم يقع في الفخ وبدا، وربما لأول مرة، في صورة السياسي البراغماتي، الهادئ المتمسك بالديمقراطية والذي يمد يده لخصومه ويسعى لحلحلة الأزمة في إطار المؤسسات ووحدة الدولة وكأنه خرج ليبلّغ رسالة ما أو لينفي إنطباعا معيّنا وليس للردّ على حملة شرسة استهدفته.


في الواقع، وخلال الأسبوع الفارط استقر المشهد العام على جملة من المسلّمات الثابتة:
أولا، فشل كلّ من طرفي الأزمة في حسم المعركة لفائدته: لا الرئيس نجح في تغيير الحكومة ومحاصرة البرلمان ولا النهضة ومن معها نجحوا في إجبار الرئيس على التسليم بالأمر الواقع وقبول الوزراء المعينين والإمضاء على تعديل قانون المخكمة الدستورية.


ثانيا، البلاد مُقدمة على أزمة مالية تهدد بثورة شعبية عارمة قد تذهب بالجميع، و لا يمكن تفاديها إلا بضمانات و”كفالة” دولية لن تتحقق إلا بوقوع تسوية سياسية واضحة ومستقرة بين طرفي الأزمة : النهضة والقصر.

وقد تم تبليغ هذا الشرط بالتصريح الفاضح بعد أشهر من التلميح الواضح، بما لا يترك مجالا للتهرب أو المناورة.


ثالثا، الإقرار المتزايد بعجز الحكومة الحالية وبشكلها وتركيبتها الحالية على مواجهة الوضع الاقتصادي الخطير، وذلك بقطع النظر عن الخلاف القائم مع رئيس الجمهورية وعن المسؤول عنه.


بالنظر إلى جملة هذه المعطيات، انتقل الوضع تدريجيا وبهدوئ من حالة “عض الأصابع” إلى مرحلة التفاوض و البحث عن حل للمعادلة الصعبة : كيف نصيغ اتفاق بين أطراف استحالت ثقة بينها؟  كيف نخرج بسيناريو يحفظ اعتبار الجميع بحيث لا يربح الرئيس ولا تخسر النهضة؟


في هذه المعركة التكتيكية، اختارت قيادة النهضة خطة الليونة في المفاوضات  وخطاب الحزم في التصريحات بينما توقع الجميع أن يتّبع الرئيس منهجه التقليدي  بالتصلب في مواقفه والتصعيد في خطاباته.


في هذا الإطار بالذات، تنزّلت “موقعة الوثيقة” لتكون لها وظيفة محددة: تخريب مسار التسويات برمته واستدراج الرئيس واستعادة مناخ المواجهة على أمل حسمها لاحقا.


لم يفهم المستفيدون من الأزمة الحالية والمستثمرون فيها والمصرّون عليها،  أن زمن الأزمات قد ولّى وانتهى دوليا وإقليميا وأننا وطنيا، مقبلون بإرادتنا أو بدونها على زمن التسويات المستقرة و الدائمة….

ولكم فيما حصل و يحصل في المنطقة و الإقليم، عبرةٌ يا أولي الألباب. 

الخروج من نسخة الهاتف المحمول