بقلم العميد عبد الستار بن موسى

يشكل القضاء حلقة أساسية ومركزية في مسار الانتقال الديمقراطي لما له من دور محوري في إفشاله أو إنجاحه. فإذا كان القضاء ضعيفا تابعا وفاسدا عمّ الظلم وصار العدل مفقودا ممّا يؤدي حتما إلى فشل مسار الانتقال الديمقراطي بأكمله وإذا كان القضاء مستقلاّ قويّا ونزيها صارت العدالة والحريات والمساواة مضمونة وبذلك ينجح الانتقال الديمقراطي.

 إن الدستور التونسي الصادر في غرّة جوان 1959 ولئن خصص الباب الرابع للسلطة القضائية فإن ذلك الباب اقتصر على 4 فصول ولم ينص على استقلال السلطة القضائية بل اكتفى في الفصل 66 بالتنصيص على استقلال القضاة وهو استقلال منقوص باعتبار أن تسمية القضاة حسب ذلك الفصل تتمّ بأمر رئاسي وبمجرد ترشيح من المجلس الأعلى للقضاء الذي كان يرأسه رئيس الجمهورية. كما أن المجلس الأعلى للقضاء الذي يشرف عليه رئيس الجمهورية يتحكم في مسارهم المهني.

 من المعايير الدولية لاستقلال القضاة عدم نقلتهم إلَا برضاهم أو لمصلحة العمل إلا أن دستور 1959 لم ينص على ذلك ـ كما أن القوانين التي كانت سارية تجيز للسلطة التنفيذية التدخل في نقلة القضاة إذ كثيرا ما يتعرض القضاة المستقلون والذين يرفضون التعليمات أو الذين ينتقدون السلطة السياسية إلى نقل تعسفية داخل البلاد مثلما حصل لأعضاء الجمعية التونسية للقضاة خلال العشرية الأخيرة من القرن الجديد.

  لقد شكلت ثورة جانفي 2011 ميلاد فجر جديد مهَد الطريق لمسار ولو متعثر من الاصلاحات التي شملت عديد المرافق الحيوية ومن أهمها مرفق العدالة.

 اندلع حراك الثورة من أجل الحرية والعدالة والديمقراطية وأصبح مبدأ استقلال السلطة القضائية المطلب الأول لمكونات المجتمع المدني والسياسي باعتباره المعيار الأساسي لأي نظام ديمقراطي حسبما كرّسته الاتفاقيات الدولية والدساتير  والتشاريع الوطنية.

  إن التنصيص على هذا المبدأ بالدساتير وبالمعاهدات الدولية غير كاف حتى لا يبقى الاستقلال مجرد شعار أجوف في المحافل والمناسبات نمجده وفي الواقع نفتقده. يجب ضمان هذا المبدأ عبر إصلاحات جوهرية تستوجب قرارا سياسيا وحوارا مجتمعيا.

 بادرت الحكومة التونسية منذ سنة 2012 بالتفكير في إصلاح المنظومة القضائية فأحدثت لجنة قيادة لمشروع الإصلاح تنفيذا لاتفاقية التمويل مع الاتحاد الأوروبي  مهمتها اعداد استراتيجية شاملة لإصلاح مرفق العدالة وضبط آليات العمل لانجاز تلك الاستراتيجية.

 نظمت لجنة القيادة استشارة وطنية واسعة مع كافة المتدخلين في مرفق العدالة ومع المجتمع المدني والمتقاضين إضافة إلى الشركاء التقنيين والماليين في برنامج الإصلاح. لقد استفادت الحكومة لأجل ذلك بعدة تمويلات من الاتحاد الاوروبي  : خمسة وعشرون مليون أورو سنة 2012  وخمسة عشر مليون أورو سنة 2015 أما بعنوان البرنامج الثالث من خطة الاصلاح فقد تحصلت الحكومة سنة 2019 على مبلغ  ستين مليون أورو منها عشرة مليون أورو في شكل مساعدة فنية تم إعدادها ولم تنفذ إلى حدّ الآن.

 قبل سنة 2014 كان رئيس الجمهورية يترأس المجلس الأعلى للقضاء الذي يشرف على المسار المهني للقضاة وعلى نقلتهم وتأديبهم وبالتالي كان سيفا مسلطا على القضاة. ما انفكت جمعية القضاة تطالب باستقلال السلطة القضائية وقد تعرض أعضاء مكتبها إلى عدّة  تضييقات أهمها العقوبات التأديبية والنقل التعسفية لذلك سارع المجلس التأسيسي في شهر ديسمبر 2012 بتعليق نشاط المجلس الأعلى للقضاء وعوضه بهيئة قضائية مؤقتة هي الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي وعلى المسار المهني للقضاة .إلا أن وزارة العدل واصلت التدخل في مسار القضاة من تعيين وترقية ونقلة و إعفاء، من ذلك أن وزير العدل آنذاك قرر خلال شهر ماي 2012 إعفاء 75 قاض بطريقة  تعسفية بتعلّة الفساد وغيره من التهم  مع حرمانهم من حق الدفاع و ردّ الاتهامات الموجهة ضدهم وقد طعن عديد القضاة في تلك القرارات أمام المحكمة الادارية التي ألغت العقوبات ورغم ذلك لم يقع إرجاع جلهم إلى عملهم ـ كما  أن وزير العدل  قرر في اكتوبر 2013 نقلة اثنين من أكبر القضاة بدون الحصول على موافقتهما أو حتى بإعلامهما مسبقا وتقديم أسباب تلك النقلة.

  توجت نضالات القضاة والمحامين بتنصيص دستور 2014 على إنشاء مجلس أعلى للقضاء في شكل مؤسسة دستورية تضمن حسن سير القضاء واستقلاله.

 لقد كان مخاض المصادقة على القانون المتعلق بالمجس الأعلى للقضاء عسيرا وصدر القانون الأساسي بتاريخ 28 أفريل 2016 خارج الآجال القانونية التي نصّ عليها الدستور. تضمّن فصله الأول بان المجلس الأعلى للقضاء مؤسسة دستورية  ضامنة في نطاق  صلاحياتها حسن سير القضاء و استقلالية السلطة القضائية طبق أحكام الدستور  والمعاهدات الدولية المصادق عليها.

 يحظر القانون الجديد نقلة القضاة بدون موافقتهم المكتوبة حتى في صورة الترقية إلا عندما تكون النقل لمصلحة العمل كما أن الدستور الجديد حجّر في الفصل 109 التدخل في سير القضاء.

 إلا أن المجلس الأعلى للقضاء الجديد ظلّ يفتقر لأغلبية من القضاة المنتخبين إذ بموجب الفصل 8 من القانون الاساسي يتكوّن المجلس الأعلى للقضاء من مجلس عدلي ومجلس مالي ومجلس إداري ويتكون كل مجلس من 15 عضو 6 قضاة منتخبين و 4 معينين بالصفة و 5 من غير القضاة وممثلين من المحامين والأساتذة الجامعيين وعدول التنفيذ.

 من خلال تلك التركيبة وخاصة عن طريق القضاة المعينين ستتمكن السلطة التنفيذية من التأثير على أعمال المجلس الأعلى للقضاء. كما أن وزارة العدل مازالت تهيمن على التفقدية العامة بموجب القانون عدد 67/29 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة وهي الهيكل المكلف بتفقد أعمال الدوائر القضائية ومختلف المؤسسات  التابعة لوزارة العدل حيث يتم تعيين المتفقد العام بموجب مرسوم رئاسي.

كثيرا ما يتظلّم حاليا القضاة من حركة نقلهم التي تصدر بتأخير كبير ولا تراعي مصلحة ورغبة العديد منهم.

  لقد اتضح جليّا من خلال الممارسة أن مبدأ استقلال القضاء ولئن تم تضمينه في الدستور والقوانين لم يتحقق بعد على أرض الواقع وذلك بشهادة العديد من أفراد العائلة القضائية إذ أكدت في هذا السياق جمعية القضاة  أن تحقيق استقلال القضاء وحماية نزاهته بما يمكنه من الاضطلاع بمهامه في اقامة العدل وحماية البلاد من آفة الفساد لا يتوقف فقط على مجرد سنّ تشريعات ووضع نصوص قانونية بل وأيضا من خلال الاسراع في البت في الملفات التي أثارت الجدل حول نزاهة القضاء لشبهات التدخل  فيه والتأثير على مساره والمنسوبة لوكيل الجمهورية السابق لدى المحكمة الابتدائية  بتونس أو شبهات الفساد المتعلقة بالرئيس الاول لمحكمة التعقيب والتي تستوجب مآخذ جزائية  وتأديبية أو الشبهات المتعلقة بعديد القضاة.

  في نفس السياق أشار الناطق الرسمي باسم المحكمة الادارية بأنه على الجسم القضائي المؤسساتي فتح ملف الفساد في القضاء بكل جرأة  وشجاعة  عبر آليات تحييد القضاء عن تأثير النفوذ السياسي والمالي والتنزيل التشريعي للمبدأ الدستوري الذي تضمنه الفصل 109 والمتعلق  بتحجير التدخل في القضاء والتنصيص على العقوبات اللازمة للحدّ من تلك الظاهرة الخطيرة .كما أنه من الضروري تخليص الادارة القضائية من البيروقراطية  والشكلانية التقليدية  وتعصيرها عبر تعميم الرقمنة وتمكين المحامين والمتقاضين من الولوج إلى المعلومة المطلوبة في إبانها. كما أنه من الضروري الإسراع بالبت في قضايا الفساد  عبر دعم القطب القضائي  والمالي بالإمكانيات البشرية واللوجستية اللازمة خاصة من القضاة والكتبة وبإعادة النظر في تركيبة لجنة التحاليل المالية والإجراءات المتبعة لديها قصد الإسراع في الابحاث التي تقوم بها.

       من أهم الاخلالات الأخرى التي تعيق استقلال القضاء :

  •  اشراف وزارة العدل على النيابة العمومية الامر الذي ينجرّ عنه خضوعها لأجندات سياسية يقررها وزير العدل والحال أن النيابة العمومية يجب أن تكون  مستقلة.
  • اشراف وزارة العدل على التفقدية العامة المكلفة بمساءلة القضاة والتي من حقها حفظ الشكايات الموجهة ضدّ القضاة دون مساءلتهم أو فتح الأبحاث الجزائية والإجراءات التأديبية ضدهم.
  • اشراف وزارة الداخلية على الشرطة العدلية المختصة بتحرير المحاضر بمراكز الامن بحيث تكون تلك المحاضر أمنية عوض أن تكتسي صيغة عدلية وقد تخضع لضغوطات وزارة الداخلية. علما بأن المحاضر يعتمدها القاضي ولا يمكن اثبات ما يخالف مضمونها إلا بالبينة  أو الزور أو التدليس وهي شروط تعجيزية.

       كما أن مجلة الاجراءات الجزائية مازالت تشتمل على عدّة فصول تمس من مبدأ استقلال القضاء  فالفصل 22 ينص بأن الوكيل العالم للجمهورية مكلف تحت اشراف وزير العدل بالسهر على تطبيق القانون،  أما الفصل 21 فقد  تضمن بأنه على النيابة العمومية  تقديم طلباتها كتابيا طبقا للتعليمات التي تعطى لها حسب الشروط  الواردة بالفصل 23 الذي يخوّل لوزير العدل أن يبلغ إلى الوكيل العام للجمهورية  الجرائم التي يصل له العلم بها  وأن يأذن بإجراء المتابعة سواء بنفسه أو بواسطة من يكلفه وبان يقدم إلى المحكمة المختصة الملحوظات  الكتابية التي يرى الوزير من المناسب تقديمها كما أن الفصل 49 نص بأنه

إذا كان بالمحكمة عدة حكام تحقيق فإن وكيل الجمهورية يعين لكل قضية الحاكم المكلف بالبحث فيها. يجب العمل على فصل السلطة التنفيذية عن القضاء و ذلك بالتنصيص صلب القوانين المنظمة للسلطة القضائية على اللآليات و الإجراءات التي تكرس استقلال القضاء و من بينها:

  • جعل النيابة العمومية هيكلا مستقلا بذاته.
  • إسناد مهمة تكليف قاضي التحقيق إلى رئيس المحكمة.
  • إلغاء الرقابة المسلطة على قاضي التحقيق من قبل النيابة العمومية و إسناد تلك الرقابة إلى رئيس دائرة الاتهام بعد إصلاح هيكلتها و جعلها مجلسا استئنافيا ينظر في إستئناف القرارات التحقيقية.
  • جعل الشرطة العدلية تحت إشراف النيابة العمومية.
  • مساءلة القضاة و محاسبتهم من قبل المجلس الأعلى للقضاء و نشر القرارات التأديبية و الأحكام الجزائية الصادرة ضدهم. كما أنه من الضروري إرساء نظام تكوين مستمر و إجباري للقضاة و كتبة المحاكم قصد تنمية معارفهم و دعم كفاءتهم كل في اختصاصه.

إن مشروع تنقيح مجلة اللإجراءات الجزائية الذي يحدّ من تدخلات السلطة التنفيذية في القضاء تم إعداده من قبل لجنة مختصة بعد حوارات ولقاءات ونقاشات مع أهل الاختصاص إلا أنه مازال يراوح مكانه لضعف الارادة السياسة في تنقيح المجلة في اتجاه تحصين استقلال القضاء و تنزيله على ارض الواقع. إلى جانب هذه الاصلاحات القانونية والهيكلية لا بد من إصلاح المرفق القضائي من خلال الاعتناء بالبنية التحتية المتهرئة في جل المحاكم وإعادة تهيئتها وتوفير المكاتب الخاصة بالقضاة والكتبة لتخفيف الضغط عنهم و توفير الفضاءات الخاصة للمتقاضين والمحامين و الترفيع في عدد قاعات الجلسات لتفادي الاكتظاظ والقطع مع البطء في سير القضاء كتوفير التجهيزات والمعدات العصرية وخاصة الإلكترونية و تمكين المحامين و المتقاضين من الاطلاع على مآل قضاياهم عبر وسائل الاتصال الالكترونية الحديثة.

إن القضاء في بلادنا مازال أمامه طريق طويل وشاق لتحقيق استقلالية السلطة القضائية وجودة المرفق القضائي و مكافحة الفساد و دعم النزاهة و الحياد. هناك عديد الهيئات والجمعيات القضائية ومنظمات  المجتمع المدني التي تعمل بكل جهدها من أجل تطهير القضاء وفرض استقلاليته وجعله في خدمة العدل بعيدا عن التجاذبات السياسية والحزبية و الضغوطات المادية و المالية.

بقلم العميد عبد الستار بن موسى