تُعرف تونس بأنّها أول بلد مسلم يُلغي العبوديّة سنة 1846 خلال حُكم البايات، وكثيرًا ما تصوّر على أنّها تجربة مثاليّة للتقدّميّة والحداثة في العالم العربيّ منذ عهد بورقيبة ومشروعه التحديثي، لكن بعد أكثر من قرن ونصف من إلغاء الرقّ فيها، لا تزال آثار العنصريّة العميقة تمزّق نسيج المجتمع التونسي على أساس لون البشرة.
مظاهر العنصرية في تونس
إنّ التمييز العنصري في تونس موجود وفي كل المناطق، موجود في العقليات والتعامل بين أفراد المجتمع، وخصوصًا عند الزواج، يحضر التمييز العنصري بقوة، فقلّما يتزوّج إنسان أبيض البشرة من إنسان ذي بشرة داكنة اللون، وحتى لو قرّرا الزواج فستقع قطيعة مع العائلة، فالعائلة التي تتكون من ناس ذوي بشرة بيضاء يظنون أنهم أفضل من غيرهم من ناحية الجمال و«أكثر تونسية» من ذوي البشرة الداكنة الذين يعتبرونهم «أفارقة» متناسين أنّ تونس في قارة أفريقيا.
كما تجدر الإشارة لوجود مناطق داخلية تشهد فصلًا عنصريًّا فادحًا حتّى في المقابر، حيث يتمّ التفريق بين قبور الموتى البيض والسود، المتواجدة في جزيرة جربة بتونس، إذ يدفن السود موتاهم في مقبرة منفصلة عن تلك التي يدفن فيها ذووا البشرة البيضاء.
من إلغاء الرّق إلى تجريم العنصرية
في عام 1841، وقبل عقدين من إعلان أبراهام لينكولن تحرير العبيد، ألغت تونس تجارة العبيد، ثم ألغت العبودية نفسها عام 1846، لتكون أول دولة عربية تفعل ذلك، وقد علل أحمد باي، والي تونس آنذاك، إنهاء الرق بقوله إن العبودية عززت انتهاكات حقوق الإنسان وهددت الاستقرار السياسي وشجعت على أسر المسلمين للمسلمين بصورة غير شرعية.
في العالم العربي المعاصر أيضاً تبنت تونس نهجاً تقدميا نسبياً فيما يتعلق بمواجهة التمييز العنصري ضد السود والتصدي له، ففي عام 2018، كانت تونس أول دولة عربية تسن قانوناً يهدف إلى القضاء على كافة أشكال التمييز العنصري (قانون مناهضة التمييز العنصري رقم 50 لسنة 2018).
وفي هذا السياق لا ينفي الباحث في علم الاجتماع طارق بلحاج محمد لـ”الترا صوت” أن “ذوي البشرة السوداء يعيشون حيفًا في تونس”، وهو في نظره “حيف ذو طابع ثقافي ونفسي ولغوي”، ويذكر أمثلة ومنها “أنهم محرومون من بعض الوظائف إذ من النادر أن تجد مذيع أخبار أو منشطًا تلفزيًا له بشرة سوداء، ومن المستحيل أن يكون سفيرًا أو وزيرًا”، لكنه يستدرك ويؤكد أن “الأمر لم ينتج شرخًا اجتماعيًا ولا يمكن الحديث عن أقلية مضطهدة، وأنه إلى حد الآن منحصر في “تعبيرات نفسية وثقافية مترسخة ومن المهم العمل عليها لتغييرها مع الزمن”.
الإسهامات غير القانونية لقانون 50-2018
يتناول القانون العضوي مسألة الوقاية من التمييز العنصري.، فبالإضافة إلى الجانب القانوني، من المفترض أن يساهم في الحد من تفشي هذه الظاهرة عن طريق فرض التزامات جديدة على الدولة التونسية، بموجب ذلك، يتعين على الدولة، وضع سياسات عامة وإستراتيجيات وخطط عمل قادرة على منع جميع أشكال وممارسات التمييز العنصري ومكافحة الصور النمطية ذات الطابع العنصري الشائعة في مختلف البيئات، ويقع على عاتق الدولة أيضا نشر ثقافة حقوق الإنسان والمساواة والتسامح وقبول الآخر داخل المجتمع، وتلتزم الدولة بوضع برامج توعية وتنشئة اجتماعية متكاملة ضد جميع أشكال التمييز العنصري في جميع الهيئات والمؤسسات العامة والخاصة مع الإشراف على تنفيذها.
وصرّح المدير التنفيذي لجمعية منامتي زياد روين لـ “JDD” بعد 3 سنوات من سن القانون، لم نشهد إلى يومنا هذا، أي خطة عمل أو إستراتيجية وطنية لمنع التمييز العنصري ومكافحته، ولم أطلع شخصيا على أي برنامج يعتني بالتوعية في المؤسسات العامة أو الخاصة، ولا تسليطا للضوء على معاناة الأشخاص المعرّضين للتمييز العنصري، لا ننكر بعض المجهودات التي تساهم في الحدّ من استشراء هذه الظاهرة، لكن ذلك لا يخفي الميز العنصري الذي لا يزال قائما ضد النائبة السوداء الوحيدة في البرلمان التونسي في ديسمبر 2019، وتسببت جائحة كوفيد 19 في تفاقم هذه الظاهرة، حيث سُجلت العديد من الحوادث العنصرية التي استهدفت المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء الكبرى المقيمين في تونس، خلال فترة الحجر الصحي.
بعد مرور ثلاث سنوات، هل حقق هذا القانون أهدافه؟
يبدو أن الإسهامات القانونية قد أصبحت حقيقة واقعة، إذ تمكن بعض ضحايا التمييز العنصري من اللجوء إلى القضاء والحصول على أحكام تعويضية، حتى وإن كانت بعض الأحكام الصادرة مع وقف التنفيذ، تبدو محل ريب وشك.
جدير بالذكر أن الأمر يتعلق ببعض الضحايا فقط، فأغلبيتهم يعيشون ظروفا صعبة لا تسمح لهم بتوكيل محام، لذا قامت المنظمة غير الحكومية “Minority Rights Group International” بتوكيل المحامين المتواجدين في عدة ولايات، حتى يتسنى لهم تقديم المساعدة القانونية لضحايا التمييز العنصري، طيلة المدة التي تستغرقها إجراءاتهم القضائية، وقد توّلت إحدى المحاميات التي استفادت من دورات التدريب، الدفاع عن قضية شهيرة مرتبطة بهذا القانون، حيث كان الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية بمدنين بتاريخ 14 أكتوبر 2020، من آخر الأحكام التي تمت الإشادة بها في تونس وخارجها، حيث أذِنت لمواطن في الثمانينات من العمر، بحذف إشارة تمييزية في لقبه، تحيل إلى حالة موروثة من عبد تم تحريره، تعرف باسم “عتيق”.
وباعتبار أن هذا القانون هو قانون عضوي، فهو يلغي كل ما تحته من نصوص غير مطابقة لما جاء به من بنود، ولا سيما المتعلقة بعدم تسجيل الأسماء الأولى غير العربية في سجلات الأحوال المدنية التونسية، وقد تم إلغاء هذه الممارسة في جويلية 2020 من خلال إصدار المذكرة رقم 13 بتاريخ 15 جويلية 2020 من قبل وزارة الشؤون المحلية، والموّجهة إلى البلديات التونسية، وتشمل هذه المذكرة على وجه الخصوص السكان التونسيين من أصول أمازيغية، الذين لم يتمكنوا من تسجيل أبنائهم بالأسماء الأمازيغية.
صحيح أنّ تونس تمّكنت من المصادقة على مشروع قانون يقّر بوجود التمييز العنصري ويحمي الضحايا ويجرّم الاعتداءات المسلّطة على أساس تمييز وخاصة يؤثث لثقافة احترام الآخر وقبول الغير، بل أكثر من ذلك، لم يبق هذا القانون حبرا على ورق وإنّما تمّ تطبيقه لأول مرة بعد ثلاثة أشهر فقط من المصادقة عليه كما سبق بيانه، ولكّن الأهّم من القانون هو تغيير العقليات والقطع مع الثقافات البالية التي كانت ومنذ الأزل لا تنفك تقصي الآخر بسبب اختلافه، الأمر الذي يحتاج ليس فقط لنصّ تشريعي خاص به وإنّما يستدعي تطوّرا فكريا وثقافيا.