بقلم العميد عبد الستار بنموسى

منذ إمضاء معاهدة الاحتلال الفرنسي لتونس (وليس معاهدة الحماية) في 12 ماي 1881 ظهرت بوادر ازدواجية القضاء في تونس وتمثلت في إحداث محاكم فرنسية إلى جانب محاكم تونسية تنظر في النزاعات المدنية والتجاريّة والجزائية والإدارية يرتكز اختصاصها على موضوع المنازعة أو جنسية أطراف النزاع.

في 27 نوفمبر 1888 صدر  الأمر العلي المتعلق بالنزاعات الإدارية الذي  جعل المحاكم المدنية مختصة في قضايا التعويض ضدّ الإدارة  وهو النزاع الإداري الوحيد المسند إلى القضاء العدلي.

في غرّة جوان 1959 جعل الدستور التونسي من المحكمة الإدارية  مؤسسة دستورية تنظر في النزاعات بين الأفراد ومؤسسات الدولة والجماعات العمومية ، كما تنظر في تجاوز السلطة  من قبل الإدارة .

صدر القانون عدد 40 لسنة 1972 الذي ركزّ المحكمة الإدارية وأرسى نظامين قضائيين متوازنين عدلي وإداري وبتاريخ 3 جوان 1996 صدر القانون الذي سحب  قضايا التعويض المرفوعة ضدّ الإدارة  من المحاكم العدلية وبذلك أصبحت المحكمة الإدارية  تتمتع باختصاص عام في المادة  الإدارية  ما عدى القضايا المتعلقة بالجباية  أو الانتخابات  وبعض المهن  الحرّة كالطب والمحاماة فهي تنظر فيها إمّا استئنافيا أو تعقيبيا.

و يشهد فقه القضاء الإداري أن المحكمة الإدارية أصدرت عديد القرارات الجريئة التي ألغت بموجبها عديد المقررات الإدارية نظرا لصيغتها التعسفية إلا أن الأحكام الصادرة في النزاعات الإدارية كثيرا ما بقيت حبرا على الورق.

ونظرا لما يكتسيه القضاء الإداري من أهيمة بالغة في مراقبة مشروعية الأعمال  الإدارية وفي حماية حقوق الانسان والحريات العامة والفردية فان الباب الخامس من دستور 2014 المتعلق بالسلطة القضائية خصص الفرع الثالث للقضاء الإداري  إذ نصّ  الفصل 116 على ما يلي : “يتكون القضاء الإداري من محكمة إدارية عليا، ومحاكم  إدارية استئنافية  ومحاكم إدارية ابتدائية . يختص القضاء الإداري بالنظر في تجاوز الإدارة سلطتها وفي النزاعات الإدارية ويمارس وظيفة استشارية طبق القانون“.

إن القضاء الإداري أصبح يؤدي دورا هاما في مرحلة الانتقال الديمقراطي ذلك أنه بالإضافة إلى دوره في حماية الحقوق والحريات فإنه  يؤكدّ ضمن عديد القرارات الصادرة عن الجلسة العامة القضائية باختصاصه بالنظر في دستورية القوانين عن طريق الدفع  في ظلّ عدم تركيز المحكمة الدستورية، فضلا عن قيامه بوظيفة استشارية ولو أنها بقيت إلى حدّ الآن منقوصة و محدودة.

       كتب فيكتور هيقو سنة 1932 في كتابه الملك يلهو “لا أخشى أبدا أن أواجه وزيرا وجها لوجه فالمحاكم هي الحكم الطبيعي لهذه المبارزات الشريفة، مبارزات ليست غير متكافئة  بالقدر الذي نعتقده لأن  هناك  من جهة الحكومة بكاملها ومن جهة أخرى مواطن عادي ، لكن المواطن العادي قويّ عندما يلجأ إلى قوسكم للطعن في إجراء غير قانوني  ومن المخجل فضحه على الملأ وتخصّ  مشروعيته أمامكم“.

إن الفصل 116 من الدستور أقرّ مبدأ اللامركزية في القضاء الإداري الذي يهدف إلى تقريب العدالة من المتقاضي صيانة لحقوقه المشروعة. إلا أن ذلك يستوجب إجراء إصلاحات هيكلية للسلطة القضائية وتنظيمية للقضاء الإداري وذلك بمراجعة جذريىة للقانون المتعلق بالمحكمة الإدارية حتى يصبح متناسقا مع الدستور.

وفي هذا الإطار أعدّ القضاة الإداريون بمساعدة خبراء دوليين مشروع مخطط استراتيجي للمحكمة الإدارية يمتد من 2014 إلى 2020 وهو مخطط يتناول تنظيم المحاكم الإدارية والاجراءات المتبعة لديها ولا يتناول مختلف جوانب تنظيم القضاء الإداري وعمله  وكان من المستحسن تشريك مكونات المجتمع المدني المهتمة بالحقوق والحريات حتى يكون الإصلاح شاملا ومستندا إلى الحراك الحقوقي وحتى ورشة مناقشة المخطط التي انتظمت يوم 12 فيفري 2020 فقد خصصت لقضاة وأعوان المحكمة الإدارية ولم يقع تشريك مكونات المجتمع المدني والمؤسسات التي لها تواصل مع المحكمة الإدارية ومنها مصالح الموفق الإداري المختصة قانونا بتقديم المقترحات والتوصيات التي تهدف إلى رفع العراقيل أمام تنفيذ الأحكام الإدارية.

إن المحكمة الإدارية تعاني من البطء في الفصل في النزاعات الإدارية تعددت أسبابه لعلّ أهمّها كثرة القضايا  وندرة الفضاءات وقلّة  القضاة والأعوان ففي سنة 2013 على سبيل المثال تم تسجيل 8081 قضية جديدة إلى درجة أن بعض القضاة اعتبروا أن الزمن القضائي بالمحكمة الإدارية أصبح يشكّل إنكارا للعدالة. وفي هذا الصدد وبغية العمل على التسريع في البت في القضايا التي طال نشرها صدرت عدّة مذكرات كما صدرت أوامر حكومية سنة  2017 تتعلق بإحداث  12 دائرة ابتدائية و4 دوائر استئنافية  ودائرة تعقيب وتمّ دعم الإطار البشري  بـــ60 قاض و120 بين الكتبة والعملة والموظفين ذلك تزامنا مع إجراء أول انتخابات بلدية في إطار الدستور الجديد.

إلاّ أن البناء الهيكلي لا يكتمل إلإّ بإرساء المحكمة الإدارية العليا التي تشكل  أعلى هرم للقضاء الإداري باعتبارها  تسهر على مراقبة حسن تطبيق  القانون من قبل مختلف الدوائر لتوحيد فقه القضاء الإداري.

لقد افرزت الممارسة في مجال القضاء الإداري عدّة نقائص من بينها طول آجال الفصل في القضايا ذلك أن أمد نشر القضايا يتجاوز غالبا الثلاث سنوات بالنسبة للطو الابتدائي والتعقيبي ومن بينها كذلك عدم امتثال الإدارة للأحكام الإدارية  الصادرة ضدّها وخاصة الأحكام الصادرة  في مادة تجاوز السلطة . تعود تلك النقائص إلى غياب مجلة إجراءات إدارية  على غرار مجلة المرافعات المدنية والتجارية المعتمدة في القضاء العدلي وكذلك إلى عدم منح القضاة أي  إمكانية  لتوجيه أوامر للإدارة أو إلزامها بتنفيذ الأحكام الصادرة ضدها استنادا إلى الفصل 111 من الدستور .

إن هذا العجز يقوّض الثقة في القضاء الإداري ويؤدي إلى نتائج سلبية عندما  تصدر المحكمة الإدارية أحكاما تؤكدّ عدم شرعية المقررات الإدارية وتبقى دون نتائج عملية. كذلك يحتاج النظام الأساسي للقضاة الإداريين إلى مراجعة معمقة قصد تكريس مبادىء الشفافية والكفاءة والحياد وتكافؤ الفرص وهي المبادىء التي تضمنها القانون الأساسي  للمجلس الأعلى للقضاء. إن هذا يستوجب الأخذ بعين الاعتبار لمعيار الكفاءة عند نقلة القضاة ذلك أن مجلس القضاء  الإداري دأب على اعتماد  معيار الأقدمية  فقط عند النظر في الترقية وإسناد الخطط الوظيفية.

إن استقلال القضاء يستوجب بالضرورة الاستقلال الداخلي للقضاة في عملهم تجاه رؤسائهم أي كبار القضاة حتى يقوموا بواجباتهم بعيدا عن التدخلات والإملاءات وهو ما يستوجب تقليص صلاحيات رئيس المحكمة العليا ورؤساء المحاكم القضائية الإدارية ونقل معظمها إلى مجلس القضاء الإداري. إلاّ أن مشروع تعديل القانون المنظم للقضاء الإداري  حافظ على صلاحيات الرئيس بكل محكمة وخاصة صلاحية تعيين القضاة بمختلف الدوائر وتعيين مواعيد جلسات المرافعة وبالتالي يهيمن رئيس  كل محكمة إدارية على الإجراءات.

من المبادىء التي تضمن حسن سير مرفق القضاء الإداري هو كفاءة القاضي الإداري وتمتعه بمؤهلات علمية وخبرات مهنية تؤهله للقيام  بعمله بكل حرفية ونجاعة ومسؤولية هذا  يتطلب تكوينا مستمرا في كامل المسار المهني  للقضاة منذ الانتداب إلى التقاعد  تكوينا يؤهل القضاة والكتبة والموظفين  وينمّي قدراتهم المعرفية وثقافتهم القانونية ويكون من بين المعايير المعتمدة عند الانتداب  أو الترقية أو التكليف بخطط وظيفية. بالإضافة إلى تنزيل المبادئ الدستورية المتعلقة  بهيكلة القضاء الإداري على أرض الواقع عبر تنقيح القوانين المنظمة للمحكمة الإدارية  فإنه لا بدّ من تهيئة البنى التحتية والوسائل اللوجيستية والتقنيات الحديثة لجهاز القضاء الإداري لتطوير إدارة المحاكم وتحسين ظروف العمل داخلها. في هذا الإطار يتم الاهتمام منذ مدّة برقمنة الإدارة وبإطلاق منظومة التصرف في القضايا الإدارية ومتابعتها عن بعد وتمكين المتقاضين والمحامين  من الإطلاع عبر الوسائل الالكترونية الحديثة على مراحل الدعاوي ومآل القضايا وعلى الأحكام والقرارات التحضيرية ومختلف المعلومات التي تهمّ النزاعات الإدارية.

كما يتجه بذل مزيد من الجهد للإسراع في تهيئة وصيانة المقرات الجهوية  والمركزية والمقرّ المخصص للمحكمة العليا الإداية ووضع حدّ لتشتت المقرات التابعة لمحكمة واحدة ولطول نشر القضايا وذلك بالزيادة في عدد الدوائر بكل محكمة  وفقا لعدد القضايا المنشورة  أمامها حتى  يتمكن القضاة من دراسة القضايا بعناية والإسراع  بالفصل فيها بعيدا عن أي ضغوطات.

أما مسألة عدم تنفيذ الأحكام الادارية من قبل الإدارات المركزية والجهوية والمحلية والمؤسسات التي تدير مرافق عمومية فقد شكلت في البداية ظاهرة لتصبح مع مرور الزمن معظلة لا تملك المحكمة الادارية احصائيات  دقيقة عن الاحكام التي تعطّل تنفيذها إلاّ أن النسبة تبدو مرتفعة وتناهز الثمانين بالمائة حسب بعض الاحصائيات الغير رسمية.

إن الأسباب الاساسية في تعطيل تنفيذ الأحكام الإدارية ترجع إلى عدم وجود وسائل عقابية وتأديبية ضدّ الموظفين الذين يعرقلون أعمال التنفيذ وكذلك إلى عدم جواز استعمال ضدّ الإدارة  وسائل التنفيذ الجبرية المستعملة ضدّ الخواص كالقوة العامة أو عقلة الأموال المنقولات للحدّ من هذه المعضلة وتطبيقا للفصل 111 من الدستور الذي نصّ على أنه يحجّر الامتناع عن تنفيذ الأحكام أو تعطيل تنفيذها واعتبارا إلى  أنه لا ينفع التمتع بحق لا نفاذ له فقد تضمن مشروع تنقيح القانون المنظم للقضاء الإداري آليات جديدة  لتسهيل تنفيذ الأحكام الإدارية مثل إنشاء  لجنة وطنية لدى المحكمة العليا تختص بمتابعة تنفيذ الاحكام الإدارية كإلزام الإدارات بتقديم قائمة في الأحكام المعطّلة  إلى المحكمة الإدارية وبيان أسباب التعطيل وتتولى المحكمة العليا  النظر في إيجاد الحلول المناسبة لتذليل الصعوبات  التنفيذية ثمّ إدراج كل البيانات صلب تقريرها السنوي.

و من المستحسن أن تضم اللجنة ممثلين عن الهيئات التي لها دور في تيسير تنفيذ الأحكام الإدارية كمصالح الموفق الإداري.

كما أن مشروع التنقيح تضمّن توسيعا لمجال تدخل القضاء الاستعجالي قصد تعزيز وظيفة القاضي الإداري في حماية الحقوق والحريات طبقا لمقتضيات الفصل 49 من الدستور.

       إن تطوير القضاء المستعجل وربطه بآجال مقتصرة من شأنه أن يصون الحقوق والحريات ويضع حدّا لتعسف الإدارة بذلك يصبح دور القاضي الإداري أكثر نجاعة وتصدر قراراته المستعجلة في إبانها وتنفذّ دون تعطيل كي لا يبقى دوره مقتصرا حاليا بفعل البطء الشديد في الفصل في النزاعات  الإدارية على اصدار أحكام  إدارية بصفة متأخرة جدّا يستحيل تنفيذها ولا يستفيد صاحبها إلاّ بغرامة تعويضية غير عادلة.

       إنّ تفعيل الفصل 111 من الدستور يستوجب إحداث عقوبات تأديبية مدنية وجزائية ضدّ كل موظف ساهم عمدا في تعطيل تنفيذ حكم إداري  نهائي.

       لا بدّ من الإسراع في إصدار مجلة القضاء الإداري عبر مراجعة جذرية للقوانين المنظمة للمحكمة الإدارية التي لا تتلاءم مع الدستور وجعل المحاكم الإدارية مختصة بالنظر في كلّ النزاعات الإدارية ومنها الاختصاصات الجديدة التي أوردتها مجلة الجماعات المحلية والقانون المتعلق بالإبلاغ عن الفساد وحماية المبلغين.

       هل سيتمكن البرلمان الحالي في ظلّ التجاذبات السياسية والحزبية  من النظر في ترسانة القوانين المودعة لديه وهل سيجد الوقت الكافي لمناقشة مجلة القضاء الإداري هل ستتمكن السلطة من إيجاد التمويلات  اللازمة لإصلاح البنى التحتية وتوفي الموارد البشرية والمادية واللوجستية  في ظلّ شحّ الموارد المالية وعجز الميزانية ؟