تتسارع الأحداث على المسرح الاقليمي بشكل لافت: مصالحة خليجية مفاجأة ، وقف الحرب في ليبيا وتشكيل حكومة إئتلافية في انتظار تنظيم انتخابات في غضون سنة ، غزل خليجي لسوريا والحديث عن عودتها الى الجامعة العربية … وأخير بوادر تصالح تركي مصري انطلق منذ أشهر برعاية جزائرية وأثمر أولا نزع فتيل الحرب في ليبيا وتأكد اليوم بصدور الاوامر التركية بلجم الاعلام المعارض لعبد الفتاح السيسي والذي يبث من الاراضي التركية (وهو الشرط الذي وضعته الحكومة المصرية لاستمرار المفاوضات والتقارب).
نحن نعيش إذا لحظة إقليمية فارقة، تنتهي خلالها المحاور التقليدية التي نعرفها (تركيا و قطر مقابل الامارات مصر والسعودية) وقد تتشكل على أنقاضها محاور جديدة بناء على تحالفات جديدة ومصالح جديدة……
التحولات الاقليمية العميقة لم تكن معزولة عن التحوّل العميق في السياسات الامريكية عقب سقوط ترامب والثابت أن دول الاقليم بصدظ ترتيب إمورها تأقلما مع ما يجري في واشنطن إذ يتأكد تدريجيا أن فترة رئاسة بايدن ستكون مختلفة تماما عن فترة ترامب ، على مستوى التحالفات والسياسات والاولويات : الانسحاب من حرب اليمن، إحياء الاتفاق النووي الايراني، حل الأزمة الليبية، مراجعة العلاقة مع الحلفاء (بنيامين نيتانياهو ، محمد بن سلمان، رجب اردوغان، عبد الفتاح السيسي….. ).
القاسم المشترك الرئيسي لهذه المتغيرات الاقليمية والدولية هو المسار الثابت لتبريد أزمات المنطقة تمهيدا لحلها لاحقا : اليمن، ليبيا، النووي الايراني، ولن تكون الازمة السورية استثناء في هذا المسار لارتباطها الوثيق وتداخلها مع بقية الازمات (على مستوى الفاعلين والمشاركين الرئيسيين فيها)وقد تتأخر التسوية في سوريا ولكنها قادمة في كل الاحوال.
من الواضح أن الولايات المتحدة تتجه نحو ترتيب الاوضاع في الشرق الاوسط من أجل التركيز على مناطق أكثر أهمية جيوسياسية والتفرغ لأعداء أشد خطورة استراتيجية : الشرق الاقصى حيث تتمدد الصين وشمال أوروبا حيث صارت روسيا أكثر جاذبية للقارة العجوز في هذا السياق من إعادة التموضع الاستراتيجي الامريكي وتبريد أزمات المنطقة، سيكون أمام شخصيات وسياسيي التصعيد و “التأزيم” الاقليمي خيارين لا ثالث لهما : إما التنحي والانسحاب وإما التاقلم والانخراط في المشهد الجديد.
القاسم المشترك الثاني للمتغيرات الاقليمية والدولية (وفي نفس السياق السابق) هو التحول عن خيار المواجهات الى خيار التسويات والاحتكام في النهاية الى الانتخابات لتصبح الديموقراطية هي القاعدة في أنظمة الحكم وغيرها هو الاستثناء.
وفي هذا الاطار تبدو الساحات السياسية في مختلف البلدان المعنية وكأنها في حالة مخاض مؤلم يُنذر بإندثار نخبٍ نافذة طالما تحكمت في المشهد وولادة نخب سياسية جديدة : أقل صدامية، أقل إيديولوجيا و انخراطا في صراعات الماضي، أكثر نسوية، أكثر إرتباطا بمراكز القوى والبحث والجامعات الامريكية، وخاصة أقدر على التأقلم مع المرحلة القادمة سياسيا وخاصة اقتصاديا.
العنصر الأهم في هذا المسار الاقليمي والدولي الجديد هو غموض مصير مختلف تشكيلات الاسلام السياسي، الثابت أنها تفادت خطر الاستئصال الذي كان يهددها خلال فترة ترامب، ولكن الثابت أيضا أنها فقدت نهائيا فرصة التمكين التي تمتعت بها خلال فترة أوباما\كلينتون….. والاغلب على الظن أنها ستكون في منزلة بين المنزلتين، وبدرجات متفاوتة مع حتمية استجابتها لمقتضيات المرحلة: رحيل جيل المؤسسين والمجيئ بجيل جديد أقدر على الذوبان في المجتمعات والمنظومات الحاكمة.
يكفي أن نراجع مسار الازمة اليبية التي تحولت من حرب شاملة الى تسوية نهائية، ويكفي أن نقرأ بتمعن تركيبة مجلس الرئاسة والحكومة كي نتأكد من أن شيئا ما قد حصل هناك وأن شيئا ما بصدد الترتيب في كامل المنطقة.
ولا إظن أن تتطور الاحداث في تونس بمعزل عن هذا المسار المرسوم بدقة :
*تسوية سياسية دائمة مع تحييد عناصر المواجهة والصدام
*تواصل الانتقال الديموقراطي بنخب سياسية جديدة أقرب الى الدوائر الامريكية تكامل إقتصادي تونسي ليبي يخفف عبأ الازمة في تونس ويجعل من تونس(وليس غيرها) رأس الجسر الذي تمر عبره عملية إعادة إعمار ليبيا (قرابة ال400 مليار دولار)
*تحجيم دور الاسلام السياسي مع ضرورة تقاعد قياداته التاريخية
*فرض تغيير المنوال الاقتصادي والمالي بقوة التهديد بمنع تمويل الميزانية
*وبالضرورة مراجعة النظام السياسي والتوازنات القائمة منهية الصلوحية
في هذا الاطار الاستراتيجي الاقليمي والدولي يمكن رصد ومتابعة وفهم تحركات وتصريحات الفاعلين السياسيين الرئيسيين في تونس، ويمكن أيضا أن نستوعب سبب تواتر الاحداث بسرعة رهيبة خلال الاسابيع الفارطة.
بقلم الصحبي بن فرج