يتنافس أغلب المتحدثين في المنابر الإعلامية والفضاءات العامة ومن خلال البيانات، على التكلم باسم الشعب وتزكية الذات لتمثيله. وهؤلاء هم في أغلبهم سياسيون وحزبيون ونقابيون وزعامات مختلفة، لا يفوّتون مناسبة خطابية، إلاّ ويكيلون المديح لهذا “الشعب العظيم” و”الأبيّ” و”الأمة العظيمة”، تودّدا للشعب واستمالة له. ولا يختلف في ذلك من حاز مقعدا بالبرلمان بإسعاف أكبر البقايا عمّن حاز أكبر الأصوات ويدّعي تمثيل الأغلبية، إذ يستخدم “الشعب” رصيدا ثمينا من أجل التعبئة والحشد.

ورغم ما شهده المجتمع التونسي من تحولات ثقافية وقيمية، وما كشفت عنه الثورة من تنوّع كبير داخل المجتمع كان يضبط انسجامه قهر الدولة، لا يقرّ الخطباء وخاصة السياسيين، أنّ مصطلحات “التونسي” و”التونسة” والشخصية التونسية، تقتضي الإقرار بجملة من الحقائق التي لا بدّ من التوقف عندها، قبل أن تطرح مشاريع التغيير على المواطنين الذين قد لا يزالون حاملين لقيم وأخلاقيات واعتقادات وأبعاد نفسية لا تؤهّل للانخراط الكامل في فضاء حرّ وديمقراطي يعلي قيم العقل والعمل والعيش المشترك.

ربّما فوجئت النخبة في عدة مناسبات بأعمال إجرامية وسلوكات مخالفة للقانون ومن انتشار العنف اللفظي والمادي في جميع الفضاءات، ومن حجم التخريب الذي يحصل في الممتلكات العمومية والخاصة، ومن انتشار الفساد وخاصة “الفساد الصغير”، لكنّ الوصف المتواتر ظلّ يتحدّث عن “ممارسات شاذة” و”تجاوزات”، أو يعمل على تبريرها، وخاصة بإلقاء مسؤولية ارتكابها على الآخر الخصم أو على الدولة التي يعارضها.

ومن النادر أن تستمع في تونس أو تقرأ موقفا يصدح به المثقف والسياسي ناقدا هذا الشعب، مثل قصائد أبو القاسم الشابي “النبيّ المجهول” و”نشيد الجبّار”، أو المؤرخ والمفكر هشام جعيط في قوله سنة 1988 “المجتمع التونسي اليوم مجتمع جاهل جهالة لم أرها قط في حياتي في أي مجتمع”. وتحفل أيضا، الأعمال الأدبية الروائية بنماذج سردية عن حقيقة هذا المجتمع. لكن من يخوض في هذه الحقائق، قد يوصف بأنّه يحتقر شعبه ويتعالى عليه، فيما يواجه الباحثون العلميون هذا الوصف بأنّ الفشل سيظلّ حتمية ملازمة لمن يعمي بصيرته عن الحقيقة وهو يتصدّى للتغيير باسم الشعب.. وأيّ شعب؟

فهم الإنسان قبل المشاريع

نقل الهادي التيمومي في كتابه “تونس والتحديث 1831-1877″ الصادر سنة 2010، ما ذكره المستكشف الفرنسي غابريال شارم في تقاريره عن تونس غداة وقوعها تحت السيطرة الاستعمارية، فقد كتب :”التونسي مقارنة بالعربي في الجزائر وبالقبائلي، كائن رخو.. والتونسيون جنس سهل الإدارة ومهيّئ أكثر من غيره للاندماج. كما أنّ عاداتنا لا تنفره بالمرة وهو يعرفها منذ زمن طويل ويحاول حتى تقليدها وهو لا ينفر من مباهج الحياة الأوروبية وإنّما على العكس من ذلك يقتني منها كل تلك التي تسمح بها موارده وحالة البلاد، وهو يسعى للحصول على المباهج الأخرى”.

ويظهر هذا الوصف المدقّق الدور الذي لعبته هذه المعاينة، التي أنجزت برعاية الغزاة، في إنفاذ المشاريع الفرنسية الاستعمارية في تونس.

وقد نبّه عالم الاجتماع محمود الذوادي، في كتابه “الوجه الآخر للمجتمع التونسي الحديث”، الصادر سنة 2006، إلى أنّه لا يمكن الحديث عن التنمية والتحديث للمجتمع التونسي المعاصر دون الأخذ بعين الاعتبار دور الإنسان التونسي في ذلك. فهو في نهاية الأمر محرك مسيرة التنمية والتحديث وموجهها.

وأشار الباحث إلى أنّ الشخصية التونسية القاعدية المستنفرة هي عامل سلبي بالنسبة إلى إنجاز مشروع التنمية والتحديث في أسرع وقت ممكن وفي أليق الملامح الحضارية التي يمكن أن تتصف بها المجتمعات المدنية. فالشخصية المستنفرة مصدر للتوترات وعدم الانسجام في علاقات الأفراد والمجموعات، وفق الذوادي.

وأي تشخيص لمشاكل المجتمع التونسي اليوم سيكون غير مكتمل إذا أهمل الدور المركزي للشخصية التونسية القاعدية المستنفرة في ذلك.

وتعرّف الشخصية القاعدية بأنّها “الخصائص التاريخيّة والأنثروبولوجيّة والاجتماعيّة المميّزة لمجمل مكوّنات المجتمع”.   

الشخصية المستنفرة

يخلص محمود الذوادي إلى وصف شخصية التونسي بأنّها “شخصية مستنفرة”. فهي شخصية ينقصها حافز التعاطف والتقارب مع التونسي الآخر (البراني أو الغريب) وسمة الاستنفار هذه تجعل سلوك التونسي في تعامله مع التونسي الآخر يتصف عموما بالحذر والتوتر والخوف والتوجّس. وكثيرا ما تكون تلك الحالات النفسية العلاقاتية سببا في ظواهر السلوكات العدوانية بين الأفراد.

ويشير الذوادي في كتابع المذكور سابقا إلى أنّ واقع المجتمع التونسي يتصف بظاهرة تنوع وتعدد السلوكات العنيفة والعدوانية بين التونسيين. ولا يستبعد أن يلجأ الفرد التونسي، لأتفه الأسباب أحيانا، إلى العنف اللفظي والجسدي إزاء التونسي الآخر.

وخطاب السب والشتم والسفاهة عند التونسي الذكَر مشهود له ببذاءته وكثرة تداوله أثناء التفاعلات مع الاجتماعية مع الغريب والصديق على حد السواء. فمَنْ من التونسيين لم يشاهد أو لم يسمع أو لم يتبادل التراشق اللفظي البذيء في حياته وذلك ابتداء من سن مبكرة؟

أمّا الأنثى فتساهم هي الأخرى في ظاهرة التراشق بكلمات وعبارات السب والشتم مع التونسيات والتونسيين الغرباء. ويغلب على الخطاب النسائي “الدْعا” على الآخر.

ومن الظواهر المنتشرة في المجتمع التونسي ما يطلق عليه بالعامية “الدزّان” وهي ميل الأفراد التونسيين في ظروف معيّنة كحالة الاكتظاظ مثلا إلى التدافع. ولا تقتصر الظاهرة على وسائل النقل بل هي ظاهرة عامة في المجتمع التونسي سواء كان في المغازات العمومية أو في مراكز البريد أو في البنوك أو في المطارات كما أنّ شوارع مدن تونسية لا تخلو من هذه الظاهرة بين المشاة.

وهي ممارسة تدل، وفق استخلاص الباحث، على حالة التوتر والضيق والخوف والتوجس التي تسود تعامل الغرباء فيما بينهم. ولذلك يجزم محمود الذوادي بأنّ “الفرد التونسي على هذا المستوى لا تزال تفصل بينه وبين روح الحداثة والتمدّن في التعامل مع الآخر فجوة غير هيّنة”.

العنف والنظرة الدونية للمرأة

يبيّن المؤرخ الهادي التيمومي، في كتابه “تونس والتحديث” أنّ من صفات الرجولة لدى التونسي ممارسة العنف وخاصة منه اللفظي، وقد بيّنت محاضر جلسات محاكم ستينات القرن 19 أنّ قضايا العنف المادي واللفظي تحتل المرتبة الثالثة بعد قضايا الديون وقضايا السرقة.

والتونسي يؤمن بقيم الفحولة ويحمل نظرة دونية جدا للمرأة وللمخنّث وللجنسية المثلية السلبية لا الجنسية المثلية النشيطة. وقد كان اللواط متفشّيا في المدن التونسية في ستينات القرن التاسع عشر حسب ما تبيّنه محاضر جلسات المحاكم.

ويشير التيمومي إلى أنّ التونسي يسعى إلى تحقيق أقصى النتائج بأقل مجهود ممكن. ولا يُعرف عن التونسي أنّه ميّال إلى العمل المتعب وخاصة منه العضلي. والذهنية التجارية تجعل التونسي ينظر إلى الدين الإسلامي نظرة نفعية. والتونسي لا يبذل إلاّ المجهود الذي يفضي إلى نتيجة مباشرة وعاجلة.

ويؤمن التونسي كثيرا بالسعر والشعوذة وبأصحاب الكرامات وبالجنّ والعفاريت وبـ”الحروز” و”العزّامة” الذين هم على كل شيء قادرون بما في ذلك على استخراج الكنوز الدفينة في باطن الأرض، وهو ما لاحظه ابن خلدون في “المقدمة”.

شخصيّة غير منتجة تهدر الوقت كثيرة التذمّر

نشر عالم الاجتماع المنصف ونّاس في كتابه “الشخصيّة التونسيّة: محاولة في فهم الشخصيّة العربيّة”، الصادر سنة 2010، نتائج دراسة ميدانيّة شملت عددا من الولايات. وانطلق البحث من مفهوم الشخصيّة القاعديّة، مثلما تناوله محمود الذوادي أيضا في كتابه المذكور سابقا.

المرحوم المنصف وناس يقدّم كتابه حول الشخصية التونسية

وقد رصد ونّاس، أيضا، لدى التونسي ملامح الشخصيّة المتوتّرة والعنيفة من خلال رصده لظاهرة العنف اللفظي في فضاء المقاهي والملاعب والمطاعم والحدائق العامّة.

وحسب وناس يوجد لد التونسي سلوك اجتماعيّ سائد أساسه الوساطة والمحسوبيّة واعتماد الشتيمة في مواجهة الخصم، ليعبّر ذلك عن رفض المواجهة بدل المحاورة وتفضيل أسلوب الالتفاف على الصعوبات والمشاكل والتنازل عن ممارسة الحقّ، أو قل عدم الوصول إليه بطريقة قانونيّة ومؤسّسات مشروعة.

والتونسي إلى جانب ذلك، مهووس بالكنوز رسخت لديه عقليّة البحث عن الحلول الفرديّة وحبّ الإثراء وشرعنة السلوك غير السويّ من أجل الوصول إلى الغايات المنشودة. وبسبب ذلك أصبح المال أولوية عند التونسي. وهو ما يفسّر تفشي سلوك الرشوة الذي يؤدّي إلى اغتصاب حق الغير، دون مراعاة للأخلاق الاجتماعيّة والقوانين والأعراف.

ورغم أنّ شخصيّة التونسيّ مندمجة ومنفتحة، مثلما عاين ذلك المكاتب الفرنسي “غابريال شارم”، إلاّ أنّ الباحث الاجتماعي توصل إلى أنّ التونسي شخصيّة غير منتجة تهدر الوقت ولا تستبطن العمل، وكثيرة التذمّر والتأفّف، وتقوم المقاهي دليلا على اغتيال الوقت وإهدار التواصل والتلاقي والتفاعل بين مكوّنات المجتمع.

كما توصل الباحث إلى أنّ الشخصيّة التونسيّة غير خلاقة، “تعتمد النقل بدل العقل والإشاعة بدل التدقيق والتمحيص وتبنيّ المعلومة دون تثبّت”.

وعلى غرار ما ذهب إليه محمود الذوادي، دعا المنصف وناس إلى ضرورة الانكباب على دراسة الروابط الاجتماعيّة وفهم أسباب ضعفها وتفككها لتشخيص المشاكل الفعلية في المجتمع التونسي، وذلك من أجل إعادة بناء الشخصيّة القاعديّة إذا رُمنا المراهنة على المستقبل.

بين الشجاعة العلمية وتطويع الجماهير

كشف مؤسس “علم نفسية الجماهير” غوستاف لوبون، في كتابه “روح السياسة” أنّ السعي لحشد الناس وتطويع اتجاهات الرأي لديهم واستقطابهم، يستبطن احتقار الجماهير باعتبارها “كالنساء تتحزب للأشخاص”، حسب تعبير لوبون. ويمضي قائلا: “ليس للجماعات رأي خاص صريح، فهي تشاطر رأي الخطيب الذي يخطب أمامها، سواء أجمهوريا كان أم إكليروسيا أم وطنيا أم دستوريا أم نقابيا ثوريا. والجماعات رغم غرائزها الثورية الظاهرة لا ترى إلاّ أن تطيع، والتاريخ حافل بما يؤيّد ذلك، فأشد العمال عنفا يخضعون غير مجادلين لأوامر اللجان الثورية، فيعتصبون دون أن يفكروا ولو قليلا في نتائج الاعتصاب”.

ولعلّ الخطباء وهم يجيدون فنون استقطاب الناس، هم أكثر المسؤولين على ترك هؤلاء في حالة انتظارية في انتظار المخلّص الذي يناضل باسمهم ويستقوي بهم ليفاوض، فيكرّس لديهم التواكل والزبونية. ويظل التغيير مشروعا مؤجلا لأن المطلوب هو الانتصار العاجل لصالح “الطليعة” أو “القادة الأفذاذ”. أمّا إعادة بناء شخصية الإنسان الفاعل والمنتج من خلال جهد علمي وثقافي ونفسي وروحي عميق، فذلك يحتاج الصراحة الصادمة والشجاعة العلمية.. المفقودة.

لطفي الحيدوري