بقلم المحامي والمحلل السياسي شكري عزوز

مراجعة الدستور و تنقيح القانون الإنتخابي إلى جانب إرساء المحكمة الدستوريّة هي أهمّ المطالب التي ما انفكّت تحتّل حيّزا كبيرا على أعمدة الصحف و في البرامج الإعلامية و شغلت الخاصّة و العامّة و عادة ما تقدّم على انّها إكسير إصلاح الحياة السياسية في تونس لتحقيق الاستقرار السياسي – الاجتماعي المنشود .


لكن هل تنجح تونس في تثبيت ديمقراطيتها بالإكتفاء بتطوير النصوص و استكمال إقامة المؤسسات ؟ ليس الأمر بالبداهة التي يبدو عليها . أبدا …. فلنفترض مثلا أنّ مزارعا جلب أفضل أنواع الأشجار المثمرة و أغلاها ثمنا و تولّى غراستها في أرض جدب لا تصلح فيها فلاحة و لا زراعة ، هل يمكنه ان يأمل أن تزهر هذه الأشجار و تنتج ثمارا ؟ كذلك النّصوص القانونيّة و الدّستوريّة و المؤسسات على اختلاف حجمها و أهمّيتها لا يمكن ان تغيّر واقعا إلّا إذا أقيمت في بيئة إجتماعيّة مناسبة. تجارب الشّعوب عبر التاريخ – خاصّة في الغرب الأوروبّي – تقرؤنا دروسا لا يمكن تجاهلها في هذا الخصوص . أوّل درس أنّ المؤسسات مهما كان تماسكها و النّصوص القانونيّة و الدستوريّة مهما كانت دقّتها و درجة تطوّرها لا يمكن ان تغيّر شيئا إذا وجدت في مجتمعات لا يعترف أفرادها بالحقّ في الإختلاف و لا تعرف للتعايش بين أفرادها معنى . .


قبل ثورة 14 جانفي 2011 لم يكن العمل السياسي في تونس مؤسسا على فكر عقلانيّ تأسيسيّ بل كان مختزلا في مجتمع مدني و سياسي معارض في مواجهة سلطة سياسية مستبدّة و متخلّفة . لم يكن المجتمع السياسي التونسي متهيّأ بالدّرجة الكافية للتغيير الذي شهدته البلاد – بصورة جوهريّة – على مستوى القوانين و المؤسسات فكانت النتيجة أن وجد الجميع أنفسهم فجأة امام المرآة يشاهدون صورتهم التي لم يتعوّدوا على مشاهدتها … بعد رحيل نظام الاستبداد لم يجد مكوّنو المشهد السياسي التونسي في جرابهم أيّ تصوّر لمفهوم الدّولة و لا لمفهوم الحزب و لا العمل السياسي عموما … لم يجدوا حتّى ما يبررون به وجودهم بعد أن رحل ما كان مبرّرا لوجودهم سوى إحياء صراعاتهم القديمة الغبيّة … و كانت النتيجة الآليّة ان رجع كلّ إلى خلفيّاته و منطلقاته الأصليّة ، بعضها دينيي و بعضها الآخر إيديولوجي قديم و كلاهما يرهن وجوده بنفي الاخر…


تفعيل دولة القانون و المؤسسات مكبّل بعوائق ثقافيّة هذه حقيقة ثابتة … و لكن هل معنى ذلك أن نؤجل كلّ مشاريع الإصلاح إلى حين تحقيق ثورة ثقافيّة شاملة يحلّ فيها الفكر السياسي العقلاني محلّ فوضى الإيديولوجيا و العواطف الدّينيّة؟ هل نحن أمام حتميّة الإنتظار لعشرات أو ربّما مئات السنين حتى تتغيّر معطياتنا الثقافيّة لتكوّن بيئة ملائمة لبناء نظام ديمقراطيّ تعدّدي حقيقيّ ؟ عادة ما يستدعي حاملو هذه الفرضيّة تجارب الشعوب الأوروبيّة إبّان ثورات القرن السّابع عشر والثامن عشر لتبرير واقع اجتماعيّ و سياسيّ مريض و إكسائه بطابع القدرّ المستعصي غير منتبهين للتّطور التقني و التكنولوجيّ الذي حقّقته الإنسانيّة بما جعل تداول الأفكار و وسائط التغيير أكثر سرعة و نجاعة.


إذا سلّمنا بأنّ هذا العالم مبنيّ على جملة من الأولويّات يكون من العبث التوجّه نحو تغيير النّصوص و إقامة المؤسسات قبل العمل على تهيئة الأرضيّة الإجتماعيّة المناسبة . إرساء نظم تعليميّة تؤسس للتعايش و تطبّع مع الإختلاف إلى جانب تنقية الفضاء العام ( وخاصّة الفضاء الإعلامي ) من خطاب المواجهة و التحريض شرطان ضروريّان في غيابهما يصبح كلّ عمل إصلاحيّ مجهودا سيزيفيّا لا طائل من ورائه