البلاد في حاجة أكيدة إلى برنامج إنقاذ

بقلم : العميد عبد الستار بن موسى

يمرَ الاقتصاد التونسي منذ مدَة  بمرحلة  حرجة بل كارثيَة. لقد تعرَض إلى إصابات عميقة وبالغة حسبما كشفته  التقارير المتواترة الصادر وطنيا سواء عن المركز الوطني للإحصاء  أو البنك  المركزي أو محكمة المحاسبات ، ودوليا  سواء عن البنك العالمي أو المؤسسات  الدولية للترقيم السيادي  .مثل التقرير الأخير الصادر عن مؤسسة موديز  والذي أطلق  صيحة فزع  بالحط  من الترقيم السيادي لبلادنا من ب2 إلى ب3 مع آفاق سلبية .

إن الفترات الانتقالية التي تمرَ بها الدول عادة ما تصاحبها  هزات اقتصادية  واجتماعية  تحدَ من نسبة  النموَ . إلاَ أن عديد  الدَول التي مرت خلال فترتها الانتقالية  بصدمات اقتصادية  وهزات اجتماعية   سرعان ما استرجعت  عافيتها  مثل ما حصل  في عديد الدول المنتمية لأوروبا الشرقية والتي مرت  بمراحل انتقالية  شهد خلالها الاقتصاد  انكماشا وتراجعا في النمو طيلة أربع أو خمس سنوات  ، ثمَ تعافى  تدريجيا  بسبب التوفيق في الانتقال السياسي مما أهلها للدخول في فضاء الإتحاد الأوروبي . أماَ الدَول التي طال فيها  الركود الاقتصادي  بسبب تعثر الانتقال السياسي مثل الجمهوريات التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي فإنها شهدت  انتقالا اقتصاديا واجتماعيا متعثرا ومرتبكا.

 البلاد في حاجة أكيدة إلى برنامج إنقاذ

إن الانتقال الديمقراطي  المنشود والمحمود لا يمكن أن يتحقق إلا بنجاح الانتقال الاقتصادي والاجتماعي الذي يبقى بدوره  رهين تحقيق الانتقال السياسي  عبر إقرار الديمقراطية والحرية  والتداول السلمي  على السلطة وإقرار الرقابة والمساءلة بعيدا عن التجاذبات السياسية والحزبية.

ألم تؤكد مؤسسة موديز بان بلادنا  تمرَ بوضعية  مالية واقتصادية هي الأسوأ  منذ العشر سنوات الأخيرة، وبأن تونس خسرت  خلال تلك العشرية 8 درجات متتالية  في الترقيم السيادي وأن ذلك التخفيض السلبي  يرجع إلى 8 أسباب رئيسية ، 6 منها سياسية، تمثلت في التجاذبات السياسية  والحزبية وعدم استقرار الحكومات وضعف الإرادة السياسية في القيام بالإصلاحات الهيكليَة وانعدام الثقة في الفاعلين السياسيين وبينهم. لقد  طالب صندوق النقد الدَولي  من المسؤولين السياسيين  بمصارحة الشعب حول خطورة الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية  وتداعياتها  السلبية على استقرار البلاد. إن ما تضمنه تقرير مؤسسة موديز  من أنَ التخفيض للترقيم السيادي قد اقترن بآفاق سلبية قد يجعل بلادنا غير قادرة على تسوية وضعيتها  المالية عبر الوفاء بديونها الخارجية خاصة وهي مطالبة  خلال سنة 2021بتسديد  ديون خارجية بأكثر من 16 مليار  دينار وإن عدم تسديدها لتلك الديون في الآجال المحدَدة  يجعلها تفتقد ثقة المستثمرين الأجانب والمحليين وكذلك ثقة المانحين الدَوليين.  إن الوهن  الذي أصاب  اقتصاد البلاد  منذ سنة 2011 يرجع إلى حدوث آليات جديدة في  العمل السياسي قوامها التوافق وهو منهج ضروري في بداية المراحل الانتقالية كالمرحلة الانتقالية المتعلقة في بلادنا بكتابة الدستور وإنشاء الهيئات  الرقابية المستقلة وحماية الحقوق  والحريات العامة والفردية. إلاَ أنَ ذلك  المنهج التوافقي  حدَ من إمكانية  مجابهة  الصعوبات  الاقتصادية والاجتماعية التي إستفحلت   في البلاد خلال تلك الفترة  بسبب انكباب ممثلي الأحزاب السياسية على معالجة الأوضاع السياسية الراهنة وبناء قدرات الأحزاب الذاتية .  حصل بعد ذلك توافق أملته  عدة عوامل سواء الخارجية المتمثلة في انقلاب مصر سنة 2013 والنزاعات المسلحة في ليبيا ، أو الدَاخلية المتمثلة في الاغتيالات السياسيَة و الاعتداءات الأمنية  توافق أدَى بفضل  الحوار الوطني ونضال المجتمع المدني إلى المصادقة على دستور يضمن الحريات العامة والفردية ويضمن التداول السلمي على السَلطة، رغم احتوائه على نقائص عدَيدة وسلبيات وأحكام غامضة تستوجب عدة تأويلات.

تصرف نواب الشعب كممثلين لأحزابهم يدافعون عن المصالح الضيقة عوض الدفاع عن مصالح البلاد والعباد.

إلاَ أن الوضع الأمني سرعان ما تدهور والاستقطاب السياسي  سرعان ما تصاعد مما دفع بالأحزاب الفائزة في انتخاب 2014 (النداء والنهضة) الاشتراك  في السلطة السياسية .لئن ساعد ذلك بلادنا مؤقتا على تفادي المخاطر الأمنية  والحروب الأهلية التي  حصلت ببعض البلدان الإقليمية فإن سياسة الإجماع  والوفاق  برهنت على قصورها في إصلاح الأوضاع. فالإجماع كان في ظاهره وفاقا وفي باطنه نفاقا. إذ أفرز  تقاعس الماسكين بتقاليد السلطة السياسية عن القيام  بالإصلاحات  الهيكلية الضرورية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية. كان كل حزب يفكر في مستقبله السياسي و في الانتخابات المقبلة .لا يرغب في القيام بالإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى( كإصلاح منظومة الدعم والتقشف والتحكم في كتلة الأجور وإصلاح أوضاع الشركات  الوطنية ومقاومة الفساد والتهريب بجدية ) مخافة أن يدفع  ثمنها خلال المحطات الانتخابية الموالية سواء الوطنية أو المحليَة  . تصرف نواب الشعب كممثلين لأحزابهم يدافعون عن المصالح الضيقة عوض الدفاع عن مصالح البلاد والعباد.

 لقد أثرت الطبقة السياسية بصفة سلبية وعميقة على مفاصل الاقتصاد ببلادنا فأدى التنافس السياسي بين الأحزاب إلى السعي المحموم للحصول على تمويل من اللوبيات و الشركات  مقابل غض الطرف عن الإخلالات  والتجاوزات التي تشوبها. استمر النظام السياسي الجديد أسوة بما كان معمول به  قبل سنة 2011 في ممارسة التأثير السلبي على ميدان الأعمال والأموال والتراخي في مقاومة الفساد . بالتوازي  مع تدهور  أوضاع الشركات  الصغرى  التي أفلس جلها  زاد  نفوذ الشركات  الصناعية والتجارية الكبرى وازدهر الاقتصاد الموازي بفعل نفوذ أباطرة التهريب وبمساعدة اللوبيات السياسية وفي حين  تدهور الوضع الفلاحي بسبب الإهمال المتواصل للقطاع وعدم تشجيع  الفلاحين زادت ثروة الوسطاء وأصحاب  مراكز التخزين الذين  أصبحوا يتحكمون في السوق يتلاعبون بالأسعار  ويعرضون قدرة المواطن الشرائية للانهيار .

إن الطبقة السياسية منذ 2011 تتحمل مسؤولية تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية  و تفاقم الأزمة من سنة إلى أخرى  بسبب عدم استقرارها، وخضوعها  للتجاذبات السياسية والحزبية .إن الاستقرار السياسي  المبني على الحس الوطني  والمتشبع بالقيم والمبادئ الديمقراطية  هو الذي يسمح بالتفرع بجدية ومسؤولية إلى رصد مواطن  الضعف  في الملف الاقتصادي والاجتماعي والسعي إلى معالجتها معالجة جذرية وناجعة.

لقد تفاقم  ضعف الدولة فأصبحت  غير قادرة على أداء أدنى واجباتها والقيام بأبسط مهامها . يعود ذلك إلى هجانة النظام السياسي  الذي أفرزه القانون الانتخابي . نظام نخره الخلل وأصابه الفشل . فضلا عن غياب الهيئات الدستورية التي تراقب الحياة العامة  وتحد من المناورات الحزبية والسياسية والمحكمة الدستورية التي تسهر على احترام الدستور  وتختَص بتأويله    وتبت في الخلافات بين مختلف السلط السياسية.

 إن  إجراء أي انتخابات في ظل القوانين السارية والظروف الحاليَة سيفرز نفس المنظومة  من برلمان فسيفسائي  وحكومة غير مستقرة.  لذلك يجب إصلاح النظام السياسي  بصفة جذريَة  وتعديل  الدستور بكل مسؤولية وتركيز المؤسسات الدستورية  وإصلاح المنظومة  التربوية والأمنية  والقضائية والإدارية بصفة كليَة  وإصلاح الأوضاع  الاقتصادية والاجتماعية  بكل جديَة  بعيدا عن التجاذبات  السياسية والحزبية  و الإستئناس بآراء الخبراء  كل في ميدانه .

بلادنا في حاجة ماسة إلى عمليَة إنقاذ عاجلة سياسيا

إنَ وضع مخطط إستراتيجي  وبرنامج متكامل  لنظام سياسي  بديل ولنظام اقتصادي  بديل يستوجب  بالضرورة  تقييمات وحوارات  ومؤتمرات قد تستغرق الوقت الطويل لا يسمح به الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي العليل. إن الملاذ في تبني  برنامج إنقاذ عاجل وشامل  .

لذلك فإن بلادنا في حاجة ماسة إلى عمليَة إنقاذ عاجلة فسياسيا يُجمع الملاحظون والخبراء المحليون والدوليون بأن الثقة في النظام السياسي  تقلصت كثيرا ،وتكاد تنعدم بفعل  القطيعة  بين مكونات السلطة السياسية وتنامي سياسة  كسر العظام . لذلك لا بد من وضع حدَ إلى هذه المعضلة والحلول كثيرة ومبادرات الحلول الممكنة متعددة وأهل مكة أدرى بشعابها في انتظار الإصلاح الجذري والمسؤول للوضع  السياسي  والاقتصادي والاجتماعي  الذي يتطلب وقتا  وجهدا ومسؤولية وكفاءة وروح وطنية فإن خطة الإنقاذ العاجلة  تستوجب الإجراءات التالية في المجال السياسي :

-الإسراع  بتركيز المحكمة الدستورية باعتبارها  هيئة قضائية  تضطلع  بدور هام في حماية النظام الجهوري  وتعزيز الديمقراطية وتحقيق الاستقرار السياسي والسهر على ضمان الحقوق والحريات الفردية والجماعية من أجل رفع العراقيل التي حالت دون إرسائها. يجب الإسراع في تنقيح القانون  الأساسي عدد 50 المؤرخ في 3 ديسمبر 2015 وذلك بحذف كلمة تباعا في الفصل 10 والحفاظ على الأغلبية المعززة عند انتخاب أعضاء المحكمة مع النظر في إمكانية التقليص  منها قليلا عند استحالة الاختيار في جولات متتالية .

– الإسراع بإرساء الهيئات الدستورية واختيار أعضائها  طبقا للدستور والقانون الأساسي المتعلق بها وبعيدا عن المحاصصة الحزبية والتجاذبات السياسية حتى تؤدي  مهامها وتقوم بواجباتها في نطاق الاستقلالية  والجدية والمسؤولية .

– تعميم رقمنة الإدارة  وتحيين مواقع الواب لكل الوزارات  والمؤسسات العمومية والهيئات والولايات والبلديات  وإصدار مجلد سنوي  يشتمل على جميع المعطيات الإدارية  والاقتصادية  والاجتماعية  والسياسية  والسياحية والصحية  والتربوية وكل الإحصائيات  والبيانات الرسمية في مختلف المجالات

– تفعيل قرارات محكمة المحاسبات والإسراع في البت في القضايا المتعلقة بالفساد والإرهاب .

– تطبيق القانون الخاص بالأحزاب والجمعيات فيما يتعلق بأنشطتها  والتثبت من مسكها  للمحاسبات  ومدى نشرها.  كزجر المخالفات و الإخلالات خاصة وقد اتضح أن عديد الجمعيات مشبوهة  وعديد الأحزاب صوريَة أو تموَل من موارد بعض الجمعيات. كتمكين البنك المركزي  من التحقيق في حسابات الأحزاب والجمعيات  والكشف عن التمويلات المشبوهة الواردة من الخارج . يجب أيضا الإسراع  بالبت  في القضايا المرفوعة ضد الأحزاب  والجمعيات

– الإسراع في إصدار مجلة الجماعات المحلية وتعديل قانون البلديات  في إطار دعم اللامركزية والمحافظة على وحدة الدولة ..

أما في الميدان الاقتصادي فإن خطة الإنقاذ تستوجب الإجراءات العاجلة الآتية :

– الإسراع في إعداد  ومناقشة  مشروع الميزانية  التكميلية لسنة 2021 في الآجال المتعهد بها والابتعاد على الفرضيات الشعبوية والاعتماد على معطيات واضحة  ودقيقة  تمكن البلاد  من الوفاء بالتزاماتها داخليا وخارجيا.

– إعداد خطة واقعية ودقيقة  تبيَن كيفية خلاص الديون الخارجية وطرق إيجاد الأموال اللازمة لخلاص الديون .

– مضاعفة الجهود لتعزيز مدخرات البلاد من العملة الصعبة وذلك بالسعي الدءوب إلى استرجاع الأموال المنهوبة المودعة بالخارج وتشجيع أبناء الوطن بالخارج على إدخال أكبر مبلغ ممكن من العملة الصعبة المتوفرة لديهم قصد المساهمة في إصلاح الأوضاع المالية للبلاد.

– مقاومة التهريب والتوريد العشوائي بكل صرامة ووضع حدَ  لمعضلة الاقتصاد الموازي والتهرب الجبائي.

– إعادة  إرساء  المجلس الاقتصادي والاجتماعي باعتباره إطارا للحوار المستمر بين كافة مكونات المجتمع المدني والسياسي حول الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية .

– ترشيد مصاريف الدولة  المخصصة للأجور والاستهلاك  والحد من توريد المواد الكمالية  أو غير الضرورية  وتشجيع التصدير  مع ضمان الجودة .

– مقاومة الاحتكار مهما كانت أشكاله  ودوافعه .

– الحدَ  من التداين الداخلي والخارجي  وصولا إلى إلغائه .

– تشجيع الاستثمار في الميادين  الصناعية  و الفلاحية  وذلك بمساعدة  الشركات الصغرى  والمتوسطة والإحاطة بالفلاحين  وإحكام استغلال الأراضي  الفلاحية التابعة للدولة والتي ظلَ جلها مهملا أو في أيدي خواص  دون متابعة ومراقبة .وإعادة توزيعها على الفنيين والشباب المعطل مع  إحكام الإحاطة والمتابعة .

– حماية مواقع الإنتاج من الأعمال الفوضوية  والتخريبية  مع احترام حق الإضراب والاعتصام  الذي لا يعطَل الإنتاج .

– البدء في الإصلاحات المستعجلة للشركات الوطنية قصد إنقاذها من الإفلاس.

العميد عبد الستار بن موسى