- بقلم العميد شوقي الطبيب
يخطئ من يتوهّم أن الحرب على الفساد يمكن أن تحسم في أشهر أو سنوات قليلة. يخطئ لأنّه يعتقد أنّها حرب ضدّ مجموعة من الأشخاص فقط، ويهمل تأثير الجوانب الاجتماعية والثقافية في استفحال الفساد نتيجة تراكم عدة عوامل، لعل أبرزها أن الشعب التونسي وفي علاقته بالدولة والمال العام، عاش عقودا من الشعور بالظلم والقهر والتهميش والصراع مع الدولة الجابية، المتسلطة والغنائمية، فأصبحت شرائح عديدة من مواطنينا تعيش بمنطق وسلوكيات اللامواطنة وتعتبر المال العام (رزق البيليك) الذي يسمح بسلبه والاقتطاع منه النصيب (إلي كتب). وإنّ تغيير مثل هذه السلوكات وتلك العقليات سيأخذ منا سنوات عديدة، ويتطلب جهودا وبرامج على الأمدين المتوسط والبعيد. هي برامج ينبغي أن تعتمد مقاربات وآليات من أبرزها التربية والثقافة وهو ما يتعين الوعي به، ومحاولة إنجازها خصوصا في إطار الخطط العملية للإستراتيجية الوطنية للحوكمة ومكافحة الفساد.
ويتعين كذلك التأكيد مجددا على أهمية وضرورة الاستثمار في الحوكمة ومكافحة الفساد. ويتجه في هذا الصدد، التذكير بأنّ المعايير الدولية تستوجب بأن يتم الاستثمار في هذا الخصوص بحساب خمسة دولارات على كل مواطن، وبالمقابل تشير نفس المعايير إلى أنّ دولارا واحدا يستثمر في الحوكمة ومكافحة الفساد له عائدات بقيمة أكثر من مائة وخمسة وأربعين ضعفا. ولعلّ هذا ما يفسّر بداهة أنّ الدول التي تتربع على منصة الشفافية والحوكمة، كالبلدان الاسكندنافية وسويسرا…هي نفسها التي تحقق أعلى نسب النمو الاقتصادي.
هذا المعطى كان على ما يبدو غائبا عن حكومات ما بعد الثورة، أو تعمدت تجاهله، ويكفينا للتدليل على ذلك الإشارة إلى الإمكانيات الممنوحة للسلطة القضائية ممثلة في محكمة المحاسبات التي أشارت تقاريرها بصفة دورية إلى الضعف الكبير لمواردها المالية والبشرية على الرغم من اتساع المهام الموكولة إليها [1]…أو القضاء العدلي وتحديدا القطب القضائي الاقتصادي والمالي الذي لم يتم إلى اليوم تفعيل الجهاز الفني الموكل إليه أمرُ مساعدةِ قضاته على تحليل بعض المعطيات الفنية الشائكة كما أنّ عدد قضاة القطب من تحقيق ونيابة لم يتجاوز العشرة في أحسن الحالات[2] …أما الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي رأت النور سنة 2011 فإنها لم تمنح من فترة تأسيسها إلى سنة 2020 سوى مبلغ إجماليّ بعنوان ميزانيات قدره 23 مليون دينار مع إقرارنا بالتطور الملحوظ الذي شهدته ميزانية الهيئة خلال السنوات الأربع الأخيرة…
وفي المحصلة فإنّ هذه المعطيات تطرح مجددا تساؤلا حول مدى توفر الإرادة السياسية لدى هذه الحكومات في مكافحة الفساد بحكم أنها تمنع الإمكانيات عن السلط والمؤسسات الموكول لها مكافحته.
ويبقى السؤال الملحّ الذي يتعين علينا أن نطرحه دوما على أنفسنا: ألم يكن بإمكاننا أن نحقق نتائج أكبر ونتقدم خطوات أسرع لو انصبت جهودنا على التالي؟:
- إذا أسرعنا في استصدار النصوص التكميلية والتطبيقية لبعض القوانين المهمة التي -والحق يقال- أصبحنا نغبط عليها كالقانون المتعلق بالإبلاغ عن الفساد وحماية المبلغين أو القانون المحدث للقطب القضائي الاقتصادي والمالي والقانون المتعلق بالتصريح بالمكاسب والمصالح ومكافحة الإثراء غير المشروع وتضارب المصالح…
- إن قمنا بما يتعين في مجال تنسيق الجهود الوطنية لمكافحة الفساد عبر دعوة مختلف السلط والهيئات والأطراف إلى مزيد التنسيق والتكامل فيما بينها، ولم يعتبر بعضها مكافحة الفساد “كعكة” أو “أصل تجاري” للاستثمار الشخصي أو السياسي. وهنا استحضر النزاع أو المعركة الباردة القائمة حاليا بين الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ولجنة الحوكمة بالبرلمان حول أحقية وضع وتنفيذ الخطة العملية الثانية للاستراتيجية الوطنية للحوكمة ومكافحة الفساد [3]…
- إن استثمرنا أكثر في مجالات الحوكمة ومكافحة الفساد عبر منح جميع القوى والسلط الوطنية المتدخلة والمعنية بهذا الملف الإمكانيات الكافية بل وفي بعض الأحيان حتى الدنيا لإنجاز مهامها.
- إن أسرعنا الخطى في مجالات إصلاح إدارتنا العمومية عبر رقمنتها بالخصوص.
- إن تمّ رصد ميزانية خاصة بالإستراتيجية الوطنية للحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد تأكيدا للإرادة السياسية وتشجيعا للأطراف الداعمة دوليا التي ربطت مساهمتها بتفعيل مساهمة الدولة التونسية.
- إن استكملنا الإطار التشريعي المنظم لتمويل الأحزاب السياسية وذلك بإصدار النصوص القانونية وتحديد الضوابط اللازمة لتخصيص التمويل العمومي والمساعدات العمومية.
- إن انصبت الجهود على تعزيز مبدأ الشفافية في تمويل الجمعيات ووسائل الإعلام ونشر تقارير دائرة المحاسبات والتعامل الموضوعي مع التقارير والإحصائيات المتعلقة بالحياة السياسية.
- إن تم تنفيذ العقوبات المنصوص عليها بقانون الانتخابات لجعلها متناسبة ورادعة وفعالة.
- إن تم توضيح المفاهيم المرتبطة بنفقات الاِنتخابات وبقواعد المحاسبة.
- إن تم تعزيز التدابير المتعلقة بالتنسيق وتبادل المعلومات بخصوص فتح الحسابات البنكية من قبل االمترشحين أو الأحزاب السياسية بين مختلف المتداخلين.
- إن تم تجريم الأفعال المتعلقة بتلقي المزايا والمنافع والعطايا لتشمل الغير بالمعنى المطلق ولا تقتصر فقط على العون العمومي.
- إن تم تحديد العناصر المكونة للركن المعنوي في جرائم الفساد في القطاع العمومي.
- إن تم التنصيص بصفة صريحة على أحكام جزائية تتعلق بالجريمة المنظمة.
- إن تم تجريم الرشوة في القطاع الخاص بجميع أشكالها.
- إن تم إصدار التشريعات اللازمة لتجريم الأفعال التي تكيف باعتبارها جرائم فساد والمتعلقة بالموظفين الأجانب.
- إن تم افراد جريمة استعمال الموظف العمومي لنفوذه بنص خاص على اعتبار أنها جريمة مستقلة بذاتها…
وغيرها من الإصلاحات التي تنصب في خانة تفكيك منظومة الفساد وليس في مجرد محاسبة بعض الفاسدين الذين استفادوا من تلك المنظومة…
نعلم جميعا علم اليقين أن الإكراهات عديدة وأن المصاعب جمة، وأننا في هذا الملف بالخصوص نجد أنفسنا في مواجهة لوبيات ومصالح متغلغلة في مفاصل الدولة بل وحتى داخل المجتمع، كما لم يعد خافيا أن هذه اللوبيات تمكنت من التغلغل في حيز زمني مريح منذ عشرات السنين حليفها أخبث ما في النفس البشرية: الجشع والطمع ووقودها اللامبالاة التي تتسم بها الأغلبية وليس النخب السياسية دون سواها كما يتم تداوله عادة. وللتدليل على ذلك يمكن الرجوع الى المعطيات التي وردت في مداخلة رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بمعهد الدفاع الوطني بتاريخ 02 جوان 2020 حول الفساد كظاهرة اجتماعية، اذ جاء فيها أنه بالاعتماد على احصائيات خلية مجابهة الاحتكار خلال أزمة كورونا التي تم تركيزها بالهيئة في الفترة من 20 مارس الى غاية 06 ماي 2020 ما يلي:
بلغ عدد التبليغات للهيئة 10069، وصلت عن طريق الرقم الأخضر المجاني…شكل الصنف الأول منه، والذي يشمل مخالفات الاحتكار والزيادة في الأسعار والبيع المشروط والتداخل في مسالك التوزيع حوالي 57 بالمائة…في حين بلغت نسبة الصنف الثاني من المخالفات التي تشمل المحاباة في توزيع المواد المدعمة والمحاباة في توزيع الشهائد الإدارية لرخص الجولان والاخلال بتراتيب الدعم حوالي 08 بالمائة فقط، في حين توزعت النسبة المتبقية على المخالفات التي لها علاقة بخرق الحجر الصحي الشامل أو الذاتي…وما يمكن استنتاجه من ذلك هو ان الصنف الأول من المخالفات والتي تشكل نسبة ال 57 بالمائة، ارتكبت من طرف المواطنين غير المتحملين لمسؤوليات القرار أو السلطة كالتجار والمهربين… على خلاف الصنف الثاني من المخالفات والتي تشكل نسبة ال 08 بالمائة ارتكبت من طرف ” أصحاب النفوذ ” كالوزراء والنواب بالبرلمان والولاة ورؤساء البلديات والعمد…والفرق الكبير بين النسبتين لا يمكن بحال الا أن يكون مؤشرا إضافيا يصب في دعم الرأي القائل بأن الفساد يتمتع بحاضنة اجتماعية يتعين تحليلها وتفكيكها…
وعليه فإن دولتنا مدعوة إلى القيام بمراجعات عميقة وإلى الاتجاه رأسا نحو مجابهة منظومة الفساد بمختلف مكوناتها من جهة، وإلى دراسة وفهم المكونات والمبادئ التي تقوم عليها الحوكمة بهدف إرساء منظومة فعالة لها بمختلف القطاعات وإلى خلق مناخ سياسي واقتصادي ملائم من أجل تأمين ثرواتنا ومقدّراتنا من الفساد وحسن التصرف فيها من جهة ثانية.
بل إنّه بات لزاما علينا اليوم تجاوز مرحلة التوصيف والشروع في العلاج عبر ممارسة جميع أنواع الإقناع والضغط الإيجابي بهدف تطوير وتجويد منظومتنا التشريعية بحكم أنها من أهم آليات مكافحة الفساد..علينا كذلك تنفيذ إستراتيجيات وطنية وإقليمية للحوكمة ومكافحة الفساد بهدف تحقيق الغايات المنشودة وفي أسرع وقت ممكن، ولن يتسنى هذا الأمر إلا عبر تبيان واستيعاب حقيقة الإكراهات المعطّلة للتقدم في مكافحة هذه الآفة الأمر الذي يخرج مقاومتها من مجرد الشعارات إلى الفهم الحقيقي للظاهرة والشروع في تنفيذ الإجراءات الواقعية في مقاومتها بعد توزيع المسؤوليات بين مختلف الأطراف وضبط خارطة طريق على ضوئها لتنفيذ الخطة بما تعنيه من التزامات ومصاريف مالية…
وبناء على ما تقدّم «فلنستثمر في مكافحة الفساد» …
[1] جاء بالصفحة الرابعة من التقرير السنوي الواحد والثلاثون لدائرة المحاسبات الصادر في نوفمبر 2018 ما يلي: …ولئن تسجل الدائرة ارتياحها الكبير لتمكينها من مقر مركزي جديد يليق بمكانتها الدستورية واشعاعها على الصعيد الدولي فإنها تتطلع الى مزيد دعم مواردها المادية والبشرية وذلك في ظل الارتفاع غير المسبوق في حجم أعمالها الرقابية ومنها القضائية…ويأتي في صدارة هذه الحاجيات تمكين الغرف الجهوية للدائرة من مقرات تتلاءم مع تطور نشاطها وتستوعب قضاتها وأعوانها ووثائقها وتسمح لها بتنظيم الجلسات الحكمية العلنية في ظروف تكرس مكانة الدائرة كمكون للسلطة القضائية…
[2] جاء بالصفحة من 67 الدراسة المعدة من طرف رئيسة مجلس القضاء العدلي القاضية مليكة مزاري، في اطار المؤلف الجماعي 10 سنوات من الانتقال الديمقراطي تحت عنوان: عشر سنوات من مسار اصلاح القضاء في تونس: الصعوبات والتصورات، منشورات مركز الكواكبي للتحولات الديمقراطية ما يلي: …ويسجل علاوة على ذلك عدم توفر ظروف طيبة للعمل داخل المحاكم التونسية سواء فيما يتعلق بقاعات الجلسات أو مكاتب القضاة أو وسائل العمل المادية الأخرى، ومواصلة العمل بوسائل بدائية، مما أدى الى حصول تأخير في فصل القضايا ورقن الأحكام، فضلا عن البطء في الحصول على المعلومة حول مآل القضايا المنشورة لدى المحاكم.
وعلى مستوى الخدمات القضائية، فالعدالة بطيئة، مكلفة ومعقدة، وهو أمر يتضايق منه المتقاضون لما يشكله من عائق للوصول الى العدالة، فعدد القضايا كثير وكل ملف له كلفته الخاصة، هذا الى جانب مشكل نقص وسائل العمل الازمة وعديد المشاكل الأخرى مثل تجهيز المحاكم والوصول الى المعلومة القضائية…
[3] تعهدت خلال السنة المنقضية، بقرار من مكتب مجلس نواب الشعب، لجنة الاصلاح الاداري والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد ومراقبة التصرف في المال العام بمجلس نواب الشعب بملف اعداد وانجاز استراتيجية وطنية للحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد 2021 – 2025، حول بعث تنسيقية وطنية للغرض تحت اشراف مجلس نواب الشعب وذلك في مخالفة صريحة لنص الاتفاقية الاممية لمكافحة الفساد لسنة 2003 وللقانون عدد 16 لسنة 2008 المؤرخ في 25 فيفري 2008 المتعلق بالموافقة على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وعلى الأمر عدد 762 لسنة 2008 المؤرخ في 24 مارس 2008 المتعلق بالمصادقة على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، حيث نصت المادة 5 من الاتفاقية على ضبط سياسات وممارسات مكافحة الفساد الوقائية وهو ما دعمه الدليل التقني لاتفـاقـيـة الأمم المتحدة لمكافحة الفساد حين استعرض الحلول العملية والوقائية للحد من مخاطر الفساد ومنعه من خلال ضبط سياسات عامة لذات الغرض، حيث تعهد تلك المهمة الى الهيئات أو الادارات المعنية بمكافحة الفساد وليس للسلطة التنفيذية او التشريعية.
وحيث تنص المادة 6 من الاتفاقية الاممية لمكافحة الفساد على ما يلي:
«هيئة أو هيئات مكافحة الفساد الوقائية»
1 – تكفـل كـل دولـة طـرف، وفقـا للمبـــادئ الأساســية لنظامــها القــانوني، وجــود هيئــة أو هيئات، حسب الاقتضاء، تتولى منع الفساد، بوسائل مثل:
(أ) تنفيذ السياسات المشار إليها في المادة 5 من هـذه الاتفاقيـة، والإشـراف علـى تنفيذ تلك السياسات وتنسيقه عند الاقتضاء.
كما نص الفصل 130 من الدستور «تسهم هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد في سياسات الحوكمة الرشيدة ومنع الفساد ومكافحته ومتابعة تنفيذها ونشر ثقافتها، وتعزّز مبادئ الشفافية والنزاهة والمساءلة»
أما المرسوم الإطاري عدد 120 لسنة 2011 المؤرخ في 14 نوفمبر 2011 المتعلق بمكافحـة الفســاد فقد نص في الفصل 12 على ما يلي: ” تحدث هيئة عمومية مستقلة تسمى “الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد” تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال الإداري والمالي.
وأضاف الفصل 13من نفس المرسوم «تتولى الهيئة القيام خاصة بالمهام التالية:
1- اقتراح سياسات مكافحة الفساد ومتابعة تنفيذها باتصال مع الجهات المعنية،
2- إ صدار المبادئ التوجيهية العامة باتصال مع الجهات المعنية لمنع الفساد ونظم ملائمة لكشفه”…