صحيفة الأحد – Jdd Tunisie

الانتقال الاقتصادي والاجتماعي مجهول المصير.. والبلد في منعرج خطير

  بقلم: العميد عبد الستار بن موسى

مرت القارة الأوربية خلال القرون الوسطى  بفترات صعبة  اتسمت باستبداد  الأنظمة الملكيَة  وبسيطرة الكنيسة  على مفاصل الحياة  العامة والخاصة مما خلف أوضاعا اقتصادية  واجتماعية  وثقافية مزرية  ولدت احتجاجات  . فاندلعت  الثورات الليبرالية  التي تبشر بالحرية  والديمقراطية  وأهمها الثورة الفرنسية  التي انطلقت  شرارتها  سنة 1789 ضد َ القمع  والاستبداد  مطالبة بإلغاء  النظام الملكي  وبرفع أيدي الكنيسة  وفصل الدين عن السياسة  وبإطلاق الحقوق  الفردية والجماعية  وضمان الحريات  السياسية والمدنية ، كحرية التفكير والتعبير  والضمير والنقل  وتكوين الأحزاب والجمعيات  وتنظيم المسيرات  والاحتجاجات  والحق في الانتخاب  وفي الترشح .

إلا أنه اتضح من خلال الممارسة أن تلك الحقوق والحريات مفيدة للطبقة البرجوازية  ولأصحاب  رأس المال وأنها غير مضمونة  لكافة أفراد الشعب  وخاصة الفئات  الفقيرة   والمهمشة   فحتى  حق الانتخاب   كان في  البداية بمقابل مادي  لذلك أنتقدها   أصحاب الفكر النيرو التقدمي واعتبروها  مجرد حقوق شكلية  يجب دعمها  بالحقوق الأساسية  وهي الحقوق  الاقتصادية والاجتماعية باعتبار  أن من لا عمل  له ولا دخل له أو من لم يتعلم لا يمكنه ممارسة تلك  الحقوق . كما أنَ من لا ينتفع بالصحة أو ليس له مأوى يقيم فيه  لا يمكنه التمتع  بتلك الحقوق  التي تبقى  أمامه سرابا خلابا  .

ما إن وضعت الحرب العالمية الثانية  أوزارها وانتهت  بهزيمة  المحور وانتصار  الحلفاء  ضد النازية  والفاشية  حتى تأسست  الأمم  المتحدة ونصَ ميثاقها على  ضرورة  إعلان  وتعزيز حقوق الإنسان الأساسية والحريات  العامة والفردية  وهو ما تضمنه  فعلا الإعلان  العالمي لحقوق الإنسان  والعهدان الدَوليان . صدر العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية  والسياسية  و العهد الدولي الخاص  بالحقوق الاقتصادية  والاجتماعية  والثقافية  بتاريخ  غرة ديسبمر 1966  ،صادقت عليهما تونس في 18 مارس 1969 بعد أن وقعت في 30 أفريل 1968.

إن البلاد التونسية صادقت على ميثاق  الأمم المتحدة  والعهدين الدوليين في الإبان إلا أنه لم يقع تفعيل تلك المصادقة بإنزال مضامين  القانون الدولي في القوانين الوطنية .

لئن تضمن دستور 1959 العديد من الحريات الشكلية فإن القوانين الوضعية  أفرغت عديد تلك الحريات ، كحرية التعبير  والإعلام  والتنظيم  من  محتواها.  كما أنها  لم تضمن  بصفة كافية  الحريات  الاقتصادية  والاجتماعية  مما ولد  احتجاجات  عارمة ضد النظام في كامل أنحاء البلاد  كتلك التي حدثت  بسليانة سنة 1990  أو أحداث  الحوض المنجمي  التي أدت إلى اندلاع  ثورة 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011  تحت شعار شغل  حرية كرامة وطنية .

 اهتمت الطبقة  السياسية  منذ الإطاحة برأس النظام  بتلك المطالب وبفضل  نضالات  المجتمع  المدني ومواصلة الحراك الثوري تمَ إصدار عديد المراسيم التي  تتعلق بتكوين الأحزاب  والجمعيات  والصحافة والإعلام  والانتخابات.  إلا أنَ الانتكاسة حصلت سنتي 2012 و2013 كما جدَت الاغتيالات السياسية التي طالت الشهيدين شكري بالعيد  ومحمد البراهمي  وبتكاثف جهود الفاعلين السياسيين   وبفضل الحوار الوطني والحراك الاجتماعي صدر الدستور الجديد  في 27 جانفي 2014 . دستور تضمن  الحقوق المدنية  والسياسية  رغم عديد مواطن الغموض والالتباس  التي شابته   ورغم النظام السياسي الهجين  الذي أنشأه. تضمن أيضا كافة الحقوق  الاقتصادية والاجتماعية  اقتداء بالعهدين الدَوليين . إلاَ أن السلطة التشريعية عجزت عن تفعيل تلك الحقوق وتجسيدها  في إطار  قوانين  وضعية كما أن السلطة  التنفيذية  عجزت عن تكريسها على أرض الواقع  فظلت الفوارق الاجتماعية  موجودة وظلت الكرامة مفقودة وبقيت الإمكانيات الاقتصادية  للدولة محدودة .

 إن عدم تفعيل  الحقوق الاقتصادية والاجتماعية يعود إلى عدة أسباب أولها عدم تنظيم نقاش  مستفيض حول المسائل الاقتصادية والاجتماعية  واقتصار الحوار الوطني الذي  قاده الرباعي  الراعي للحوار  على الحقوق المدنية والسياسية  استنادا إلى خارطة الطريق  التي أمضت عليها الأحزاب المشاركة  في الحوار وكان من الأفضل  تضمين الحوار  الاقتصادي في خارطة الطريق  وتشريك الخبراء  في المجالين الاقتصادي والاجتماعي.

إن أهمية الحوار الاقتصادي والاجتماعي تكمن  في تقييم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ورصد أسباب تدهورها  التي توجد أساسا في النظام التنموي الممنهج لمدة عشريات عديدة  والذي اثبت فشله وصولا إلى ضبط إستراتيجية واضحة المعالم  ترمي إلى تفعيل  بنود الدستور  وتكريس  الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على ارض الواقع

لقد نصت الفصول عدد38 وعدد39 وعدد40 من الدستور الجديد على ضمان الحقوق في الصحة والتغطية الاجتماعية وفي التعليم والعمل كما أشارت إلى أن الدولة تتخذ كلَ التدابير الضرورية  لضمان  تلك الحقوق إلا أنها  لم تبين آليات الضمانة .

كما تم إلغاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي والحال أنه كان من الأجدر دسترته . لم يقع  أيضا تفعيل تلك الحقوق وتكريسها عبر إصدار قوانين وضعية مثلما  نص عليه  العهد الدَولي  الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية  الذي ضمن  في المادة  السادسة  الحق في العمل والزم الدول المصادقة على اتخاذ  التدابير لتأمين ذلك الحق كتوفير  برامج التوجيه  والتدريس للتقنيين والمهنيين وإتباع سياسات وتقنيات  من شأنها  تحقيق تنمية اقتصادية  واجتماعية  مطردة وعمالة منتجة  في ظل شروط  تضمن للفرد  الحرَيات السياسية والاقتصادية الأساسية . كما ضمنت المادة عدد 11 من ذلك العهد حق كل شخص في مستوى معيشي كاف له ولأسرته يوفر حاجياتهم من الغذاء والكساء والمأوى وألزم الدول  المصادقة باتخاذ التدابير  اللازمة لإنفاذ ذلك الحق . كما أقرت المادة 12 من العهد حق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى  من الصحة الجسمية والعقلية  وبينت بكل دقة  التدابير  التي يتعين على الدول الأطراف  في العهد اتخاذها لتأمين  الممارسة الكاملة للحق في الصحة أما المادة 13 من نفس العهد  فقد أقرت  حق كلَ فرد في التربية والتعليم وبينت التدابير  التي على الدَول المصادقة اتخاذها لضمان الممارسة التامة لذلك الحق  ومن بينها إلزامية ومجانية التعليم في المرحلة الابتدائية  والثانوية  وجعل التعليم  العالي مجانيا  ومتاحا للجميع على قدم المساواة تبعا للكفاءة .

 لقد ظلت الحكومات المتعاقبة  منشغلة  في تصريف الأعمال  اليومية  مكبَلة بالأزمات السياسية  .  لم تتمكن من ضبط إستراتيجية  إصلاح شاملة وجوهرية  للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية .

إن منوال التنمية  الذي فرضه  البنك العالمي  وصندوق النقد الدولي  والمتمثل في السياسات  االنيو- ليبرالية  منذ الثمانينات  كان  السبب الرئيسي للأزمات  الاقتصادية  والاجتماعية  التي عرفتها البلاد  والدافع الرئيسي للحركات الاجتماعية والثورة .

عوض أن تشهد بلادنا إثر الثورة  وخاصة  بعد الدستور  الجديد إصلاحا منهجيا  للسياسيات  الاقتصادية  وتحسنا  في الأوضاع الاجتماعية  لمسنا تدهورا  مستمرا  لتلك الأوضاع من شهر إلى آخر  ومن سنة إلى أخرى

ألم يصرَح  السيد الحبيب الصيد  أول رئيس  حكومة  بعد الانتخابات  التشريعية  التي جرت  في موفى  سنة 2014  في حوار تلفزي  بان الوضع الاقتصادي  صعب للغاية  ويبعث  على الانشغال  مِؤكدا  أن حجم الاستثمارات  في تونس تراجع  سنة 2014  بنسبة 32 % ، مما كان عليه  سنة 2010 ، وأن عجز  ميزانية  الدولة  لسنة 2015 ارتفع   إلى 7.4 مليار دينار  مقابل 3 مليار دينار  سنة 2010  وان البطالة تفاقمت  وأصبحت  تشمل أكثر  من 31 بالمائة  من خريجي  الجامعات،  و أن معدلات  النمو الاقتصادي  تراجعت  فبعد أن كانت تصل  إلى 5 %  حتى سنة 2010  تدحرجت  إلى 1.9  بالمائة  سنة  2011 و 2.15 %  سنة2014   .

إلا أن الأوضاع  المالية  والاجتماعية  زادت  قتامة منذ ذلك  التاريخ فمعهد الإحصاء  الوطني أكَد أخيرا  بان الاقتصاد  الوطني  أصابه انكماش  قياسي بلغ 21.6  %  سنة 2020 . كما تتوقع الدراسات  الاقتصادية  أن نسبة  الفقر في بلادنا  ستبلغ خلال  السنة الحالية 21  بالمائة  في حين ستتجاوز  نسبة البطالة  20 بالمائة .

لقد تعددت الأسباب  التي أدت إلى هذه  الوضعية الكارثية  التي مست كل  مفاصل الاقتصاد  من صناعة  وفلاحة وسياحة .

إن مناخ الاستثمار ببلادنا تدهور . تفاقم الفساد وازدهر الاقتصاد الموازي  المتمثل  أساسا في تهريب  سلع  واستيراد سلع أخرى  دون المرور عبر المصالح الديوانية مرد  ذلك ضعف الدولة  في إنفاذ القوانين  وارتباط بعض بارونات  التهريب  بمختلف  مفاصل الدولة  وازدياد  معدَلات  محابة المقربين .لقد أصبح اقتصاد البلاد  محصورا في الاستهلاك  بعيدا عن الاستثمار  وبالتالي غير منتج للقيمة المضافة. فالمؤِسسات  الخاصة  لم تزد من إستثمارتها  من سنة 2011  وتحولت  إلى قطاعات  ريعية  تحقق ربحا  أكبر ونموَا أقل.

كما أن عديد  المؤسسات  الصغرى  أصبحت  تمر بأوضاع مالية  صعبة  تهدد وجودها  ولم تلق  في الغالب مساندة  من الدولة  حول الضمان في القروض  التي ترغب فيها  من البنوك  والمؤسسات  المالية . لقد ظلَ  الاقتصاد  التونسي مثلما كان في السابق  يستند إلى البحث  عن توفير  فرص عمل  بعيدا عن المكاسب  الانتاجية والابتكار والتنافسية  .

إن الترقيم السيادي لبلادنا  ما انفك  يشهد عديد  التخفيضات  آخرها  التخفيض الذي قامت به وكالة الترقيم موديز  من ” ب2″ إلى “ب3”  مع الإبقاء على آفاق سلبية . يترجم هذا التخفيض الوضعية  الحرجة للمالية التونسية وسيؤثر بصفة سلبية جدا على الاستثمار والاقتصاد بصفة عامة في وقت تراجعت فيه  نسبة النمو  الداخلي الخام  إلى 8.8 بالمائة  سنة 2020.كما أن أبواب الاقتراض الاجنبية ستوصد كليا أمام البلاد.

أما الفلاحة  فهي  تشكل العمود الفقري لاقتصادنا  إلا أنها ظلت  مهمشة دون إستراتيجية واضحة  ودون حوكمة رشيدة  . فالإستغلال سيئ خاصة للأراضي التي تملكها الدولة والإنتاج ضئيل . إن مختلف الفلاحين يتخبطون  في مشاكلهم  دون دعم أو مساندة  من الدولة  التي أصبحت  تستورد  عديد المنتجات  الفلاحية  من الخارج  كالحليب  والطماطم  والحال  أنَه كان بالإمكان  تحقيق الاكتفاء الذاتي  وفتح باب التصدير  نحو الخارج  وخاصة أفريقيا  عند حصول  فائض . فعلى سبيل المثال في هذا الإطار أصبحت منظومة  الحليب  مهددة بسبب غلق المصانع  التحويلية والاقتصار على تخزين المواد الفلاحية  حيث يستفيد الوسطاء ويخسر المنتجون .

لقد أصبحت بلادنا تستورد الأسمدة الكيمائية  حتى مادة الآمونيتر .

أما السياحة فقد شهدت انهيارا غير مسبوق  وذلك  بسبب انعدام الأمن  سنتي 2011 و 2013  وتفاقم العمليات الإرهابية  سنتي 2015 و2016  مما تسبب  في إغلاق العديد من النزل وإحالة الآلاف من الموظفين  والعملة على البطالة .

إن الوضع  الإقليمي  المتدهور أمنيا  خاصة في ليبيا أثَر سلبا على اقتصادنا حيث  فقدت تونس السوق الليبية  كما أن انعدام  الحوكمة وسوء التصرف داخل الشركات الوطنية  كان له نصيب  الأسد في تقهقر الاقتصاد . فبعد أن كانت جل تلك الشركات  تساهم في مجهود الدولة  وفي تعزيز الميزانية  أصبحت الدولة  تضخ الأموال  لفائدة هذه الشركات  الوطنية للتخفيض عن عجزها المالي .

 إن شركة فسفاط  قفصة  أصبحت مهددة بالإفلاس.  تفيد التقارير الرسمية  بأن الوضعية المالية  للمجمع الكيمياوي  تلامس  الكارثية إذ أصبح  المجمع عاجزا  عن توفير أجور العاملين . لقد أفاد المدير العام للإنتاج الفلاحى  بان تلك الوضعية أدت إلى نقص فادح  في إنتاج الأسمدة  الكيمياوية بسبب الاعتصامات في مواقع الإنتاج  مما أضطر  البلاد إلى توريد 33400 طن  من مادة الأمونيتر .

أما الأوضاع المالية  للشركات المختصة في النقل  فهي صعبة للغاية مثل شركة الخطوط التونسية  والشركة الوطنية للسكك الحديدية وغيرهما.

إن الوضعية  المالية الحرجة التي تمر بها البلاد تدفع بالدولة للاعتماد على التمويل  الداخلي  ومواصلة التداين  الخارجي . لقد اتضح من التقارير الصادرة من مؤسسات الإحصاء  أن بلادنا أصبحت تواجه  صعوبات  لتوفير السيولة  الكافية  لدفع رواتب  الموظفين  وبالتالي لجأت إلى الاقتراض من البنوك والمؤسسات المالية التونسية لخلاص الأجور .

إن حجم الدين الخارجي تضاعف  5 مرات  منذ سنة 2010 فقد كشف تقرير صادر عن البنك المركزي بان ديون  البلاد بلغت  نهاية  سنة 2020  أكثر من 97 مليار دينار  أي أكثر من 93 بالمائة من حجم الناتج المحلي الإجمالي للبلاد . يعتقد  بعض الخبراء  في المجال الاقتصادي بأنَ  الدين الخارجي قد تجاوز حجم 100 بالمائة  من حجم الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. كما أكد التقرير الصادر عن دائرة المحاسبات خلال مارس 2020 بأن تونس ستكون مطالبة سنة2021 بسداد 123 قرضا خارجيا تحصلت عليها ما بين 2012 و2016 وقدر التقرير قيمة سداد تلك القروض بألف مليون دولار سنويا وأشار التقرير إلى أن سداد  تلك القروض سيتواصل إلى حد سنة 2055 مما سيعرَض بلادنا إلى شروط قاسية  وملزمة  من الممولين الأجانب  قد تمس من السيادة الوطنية ، قد تُعرض الأجيال القادمة إلى الارتهان .

فهل بعد كل هذا يمكن الحديث عن انتقال اقتصادي  واجتماعي نحو الأفضل في ظل الهوان السياسي والاقتصادي؟ و ماهي سبل العلاج الناجعة ،العاجلة  والآجلة ؟

الخروج من نسخة الهاتف المحمول