بقلم العميد: عبد الستار بن موسى
إنَ الانتقال نحو الديمقراطية أصبح خيار العصر الحديث ومطلب كل القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني والانتقال نحو الديمقراطية إنما يعني الانتقال من دولة الاستبداد التي ليس بها مؤسسات مستقلة وليس بها تداول على السلطة، لا تحترم حقوق الإنسان ولا تضمن الحريات العامة والفردية إلى دولة القانون والمؤسسات، دولة الانتخابات الشفافة والنزيهة، دولة تضمن حقوق الإنسان في بعدها الكوني والشمولي.
ولما كانت حماية حقوق الإنسان هي أساس كل ديمقراطية فإن الأمم المتحدة منذ تأسيسها جعلت منذ سنة 1948 يوم 10 ديسمبر من كل سنة يوما عالميا لحقوق الإنسان.
ولما كانت الديمقراطية مطلبا ملحا فقد أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 8 نوفمبر 2007 يوم 15 سبتمبر من كل سنة يوما عالميا للديمقراطية ودعت الدول الأعضاء ومنظومة الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية والحكومية والدولية وغير الحكومية إلى الاحتفال بذلك اليوم.
تاريخيا كان يُنظر إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان كمفهومين منفصلين أما الآن فقد صارت الديمقراطية وحقوق الإنسان أمرين متلازمين ومتممين لبعضهما (I) إلا أنه لإنجاح ذلك الترابط الوثيق لابد من توفر عدة شروط (II)
I– الديمقراطية وحقوق الإنسان : التكامل والترابط :
1– الديمقراطية وحقوق الإنسان التلازم الطبيعي :
أ -الديمقراطية الإطار الأمثل لضمان حقوق الإنسان:
لم تعد الديمقراطية مجرد شعار يغني عن الممارسة أو كلمة تغني عن الواقع وهي ليست مؤسسة تنحصر في انتخابات ومجالس ممثلة ورئيس منتخب إنما أصبحت عبارة عن الممارسة اليومية الفعلية المرتبطة بالقوانين العادلة والمؤسسات المستقلة الهادفة إلى حماية الحقوق والحريات ولعل أبرز ما في الحياة الديمقراطية هو اطمئنان الفرد على حقه في الحياة والعيش الكريم وفي التعبير عن رأيه دون خوف أو تزلف.
لقد عرفت الموسوعة السياسية الديمقراطية بالنظام السياسي الاجتماعي الذي يقيم العلاقة بين أفراد المجتمع والدولة وفق مبدأ المساواة بين المواطنين ومشاركتهم في صنع النصوص التشريعية التي تنظم – مختلف مظاهر حياتهم أما إعلان فينا الصادر سنة 1993 فقد أكد بان الديمقراطية ترتكز على ترسيخ رغبة الشعب في تقرير نظامه السياسي الاقتصادي الاجتماعي والثقافي ومشاركته الكاملة في جميع نواحي الحياة .
لقد توسعت تعريفات الديمقراطية وانتقلت من مجرد ديمقراطية تقليدية (انتخابات – اجتماعات – حوارات) إلى ديمقراطية شاملة لمفاهيم جوهرية ومؤسسات فاعلة.
لقد أصبحت الديمقراطية ضرورة من ضروريات عصرنا الحديث فهي مقوَم أساسي لإنسان هذا العصر مثل الماء والهواء فالإنسان لم يعد مجرد فرد من رعية بل هو مواطن يتحدد كيانه بجملة من الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية مسألة لا تحدد من إمكانية ممارستها في مجتمع بل من ضرورة إرساء أسسها و إقرار آلياتها حتى يتمكن الأفراد فعلا من ممارسة حقوق المواطنة وتقييم شرعية الحاكمين والمسؤولين.
إن الديمقراطية إطار يمارس فيه الإنسان حقوق المواطنة وهو ما يجعلها سابقة للإجراءات التي تمارس بواسطتها والمؤسسات التي تمارس صلبها تماما كحق المريض في العلاج الذي هو سابق عن توفر الدواء والمستشفيات وسيارات الإسعاف والأجهزة اللازمة.
إن أي أهداف تطرحها الدولة لا يجوز وضعها فوق حقوق الإنسان بل بالعكس يجب أن تكون جميع الأهداف نابعة من هذه الحقوق وفي خدمتها.
ولضمان حقوق الإنسان من البديهي أن تكون هناك دولة ديمقراطية أي نظام ديمقراطي قوامه مؤسسات مستقلة عن الحكام لا تخضع لأهوائهم ولا تخدم مصالحهم الضيقة بل تراقبهم وتسائلهم بخلاف الأنظمة الدكتاتورية أو الأنظمة التي تتزين بمساحيق ديمقراطية سواء بانتخابات صورية أو بأحزاب كارتونية حيث يستأثر فيها الحاكم بكل السلطات ويهيمن على كل شيء بواسطة مخابراته وعملائه و ينفرد بالقرار السياسي ويرسي مؤسسات موالية وينهب خيرات البلاد.
الم يكن لويس الرابع عشر يردد يوميا ” أنا الدولة والدولة أنا “
إن للدكتاتورية عيوب لا يمكن الحد منها وللدكتاتورية سلبيات لا يمكن تلافيها وللدكتاتورية أمراض لا يمكن معالجتها أما عيوب الديمقراطية فيمكن تقويمها وإصلاحها بالممارسة اليومية بالمساءلة المؤسساتية وبالانتخابات الدورية. وبالمراقبة المستمرة من لدن المجتمع المدني.
إن الديمقراطية أصبحت بمثابة نظام سياسي واجتماعي واقتصادي متكامل يستند إلى 3 أركان أساسية .
الركن الأول : التداول على السلطة قولا وفعلا
الركن الثاني : أن تكون الدولة دولة المؤسسات التي تعلو على الأفراد مهما علا شانهم ومهما كانت مراتبهم وانتماءاتهم الحزبية والعرقية والعقائدية .
أما الركن الثالث : والأهم فهو دولة القانون وحقوق الإنسان في الحرية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية .
– ب- ضمان حقوق الإنسان ضرورة لترسيخ الديمقراطية:
إن أهم الحقوق التي أكد عليها فلاسفة العصر الحديث هي الحق في الحرية والحق في المساواة ومنها تتفرع بقية الحقوق حتى أصبحت كونية وشمولية تنقسم إلى أجيال ثلاثة : الحقوق المدنية والسياسية، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والحقوق الثقافية والبيئية .
وإن الحرص على ضمان تلك الحقوق دون ميز على أساس اللون أو العرق أو الجنس أو الموقع الاجتماعي أو الوضع الاقتصادي من شانه أن يرسي دعائم الثقة بين المواطن والدولة.
ولما كانت تلك الحقوق مترابطة فإنه على الدولة توفير الظروف الأمنية والاقتصادية والاجتماعية لممارستها كتوفير الشغل والصحة والتعليم والثقافة وكل مقومات العيش الكريم وهو ما من شانه أن يرسخ دولة القانون والمؤسسات ويقوي دعائم الديمقراطية.
لقد شكلت مسألة دولة الحقوق والحريات معضلة في العالم العربي استعصى حلها على مرَ عدة عقود قبل الربيع العربي وحتى بعده ورغم الحركات الإصلاحية المتتالية ورغم نضالات القوى الديمقراطية.
فدولة الحقوق والحريات تم إجهاضها عبر تشريعات تخدم مصالح الأنظمة وتقمع الحقوق والحريات وعبر مؤسسات تشريعية وقضائية وإدارية غير مستقلة خاضعة للسلطة التنفيذية وتأتمر بأوامرها وبمباركة أحيانا من الدول الكبرى الأمر الذي أدى إلى تأزم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتسبب في حدوث عدة انتفاضات وثورات كثيرا ما يتم إجهاضها.
2 – الديمقراطية وحقوق الإنسان : البعد الكوني
أ -الديمقراطية مسألة كونية :
ليست الديمقراطية نتاجا غربيا كما يدعي البعض، للمطالبة بتأجيلها أو إلغائها .
إن الديمقراطية مسالة عالمية ومطلب تناضل من أجله جميع القوى الحية في كامل أنحاء المعمورة .
إنه مطلب مستعجل لم يعد يقبل التأجيل سواء لأسباب إيديولوجية أو دينية أو قومية أو قبلية أو عرقية أو مصلحية .
إن الانتقال الديمقراطي يتم وفق طريقتين إما إجبار الحاكم على التنازل تحت ضغط القوى الديمقراطية المتطلعة للحق والحرية أو التدرج نحو الديمقراطية وذلك بفسح المجال للقوى الديمقراطية في المجمع لتنمو وتنشط والعمل من جهة أخرى على دمقرطة مفاصل الدولة وجعلها دولة مؤسسات لها تمثيلية حقيقية مع الفصل والتوازن بين السلطات وإطلاق الحريات وحماية حقوق الإنسان .
ولقد اختارت تونس بفضل الحوار الوطني الذي اشرف عليه الرباعي المتوج بجائزة نوبل للسلام
الخيار الثاني إلاَ أن التدرج مازال يمشي بخطى السلحفاة ويتعرَض إلا محاولات إجهاض بين الفينة والأخرى .
إن الديمقراطية ليست انتقالا من مرحلة إلى أخرى بل هي ميلاد جديد وبالتأكيد ميلاد عسير يتطلب تضحيات ونضالات من قبل الشعوب مثل الأم التي ترغب في مولود جديد من رحمها فهي مجبرة على تحمل أوجاع الوحم وحركات الجنين وعسر الوضع قد يستوجب عملية قيصرية .
ب / حقوق الإنسان مسألة كونية :
تستند حقوق الإنسان إلى أسس فلسفية واحدة في الثقافة الغربية والثقافة الشرقية وتستند غلى مرجعية واحدة قوامها الحق الطبيعي في الحرية والحق الطبيعي في المساواة وتتناقض بالضرورة مع الثقافة التي كانت سائدة في البداية والتي تكرس الاستبداد واللامساواة مهما كانت مرجعيتها العقائدية أو الفكرية
تقترن عبارة إعلان حقوق الإنسان في الفكر الأوروبي الحديث و المعاصر بوصف العالمية ( أي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) والمقصود بالعالمية هو الشمولية أي كافة الحقوق مدنية سياسية أو اجتماعية اقتصادية أو ثقافية بيئية وكل تلك الحقوق لكل الناس في مختلف أنحاء المعمورة مهما اختلفت أجناسهم وأعراقهم ومعتقداتهم .
ولقد أصبحت تلك الشمولية قاسما مشتركا بين البشر وهدفا يسعى الجميع إلى تحقيقه .
إن المثل العليا التي تمت ترجمتها إلى منظومة حقوق الإنسان تتصف بالعالمية وتوجد في كل مكان من العالم شرقه وغربه ، شماله وجنوبه .
II– شروط إنجاح التكامل والترابط بين الديمقراطية وحقوق الإنسان .
1- الديمقراطية وحقوق الإنسان مسالة إرادة فعلية
إنَ الانتقال الديمقراطي يتوقف على إرادة النخب والشعوب والإرادة مرتبطة بالوعي بضرورة الديمقراطية كأسلوب وحيد لتنظيم حياة المجتمعات .
في كثير من بلدان العالم هناك العديد ممن يرفعون شعار الديمقراطية لا يصدرونه عن وعي عميق بضرورة الانتقال نحو الديمقراطية بل الأهداف مختلفة فكثيرا ما تستعمل عدة قوى سياسية الديمقراطية كمصعد للوصول إلى السلطة ثم تتنكر لها وتستبد بالحكم. في عديد البلدان يستعمل الحكام الديمقراطية كشعار أجوف وينشؤون أحزابا كارتونية .وينظمون انتخابات صورية وينشؤون منظمات وجمعيات موالية يشجعونها ويمولونها ويمنحونها سلطة ونفوذا ويقمعون الجمعيات والمنظمات المستقلة المناضلة ولا يتركون مجالا للقيام بمؤسسات خارج الدولة أي خارج سيطرة السلطة الحاكمة مثلما حصل في تونس على امتداد عدة عقود وما الحصار على المنظمات والجمعيات المستقلة مثل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين ونقابة الصحافيين وجمعية القضاة إلا أكبر دليل على ذلك
كما أن بعض الأنظمة مدعومة بنخب موالية يلتجئ إلى تبريرات غير منطقية لتأجيل الديمقراطية كعدم نضج الشعب أو ضرورة توفير الديمقراطية الاجتماعية قبل إرساء الديمقراطية السياسية والحال أن نضج الشعب لا يتحقق إلا من خلال ممارسة الديمقراطية كالطفل الذي لا يتعلم المشي إلا من خلال ممارسة المشي كما أن البلدان السكندنافية نجحت في تحقيق الديمقراطية الاجتماعية والرفاهية لشعوبها علما بأن الامبريالية كثيرا ما لعبت دورا أسياسيا في إعاقة تطور الأوضاع نحو إرساء الديمقراطية في العديد من الدول للمحافظة على الأنظمة الموالية لها ولو كانت مستبدة وكثيرا ما كان المجتمع المدني في تلك الدول مستهدفا وضحية .
كذلك مسألة حقوق الإنسان في بعدها الكوني والشمولي في حاجة إلى إرادة القوى الديمقراطية في الذود دوما عنها وإرادة الحكام في احترامها نصا وممارسة قولا وفعلا .
فكل الدول تقريبا صادقت على المواثيق الدولية الملزمة وأمضت على الاتفاقيات التي تفرض احترام الحقوق والحريات إلا أنها تنتهكها يوميا خاصة تجاه المعارضة والأقليات .
أما بعض الدول العظمى فإنها كثيرا ما تكيل بمكيالين فتغض الطرف عن الممارسات القمعية والانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان التي تقوم بها بعض الأنظمة التي تخدم مصالحها في حين أنها تستعمل شعار حقوق الإنسان كسلاح إيديولوجي ضد الأنظمة التي تشق عصى الطاعة في وجهها والأمثلة على ذلك كثيرة.
2 الديمقراطية وحقوق الإنسان مسالة ثقافة ونضال :
يجب ألا تكون الديمقراطية وضمان حقوق الإنسان مجرد رغبة أو نزوة بل قناعة تامة كقناعة العقل بالضروريات البديهية .
ويجب أن تؤدي الديمقراطية إلى تغيير الذهنية حتى يصبح الإنسان مؤمنا إيمانا راسخا بها ساعيا إلى ممارستها ممارسة حقيقية وفعلية مدافعا عن الحق في الاختلاف والتعدد الفكري والحزبي بديلا عن العشائرية والطائفية الاثنية و العقائدية سواء داخل الأحزاب أو الجمعيات . يقول كارل ماركس “مهمة الطاغية أن يجعلك فقيرا أما مهمَة مستشار الطاغية فهي في جعل وعيك غائبا “
إن السلوك الديمقراطي الواعي المبني على احترام الآخر والدفاع عن الحقوق والحريات بعيدا عن الإقصاء والانتقاء وتكريس التداول على المسؤولية داخل السلطة وفي المعارضة وفي الأحزاب والجمعيات إنما يفسح المجال واسعا إلى مؤسسات المجتمع المدني لتأطير الصراع والحركة في اتجاه التقدم وبناء دولة القانون والمؤسسات والحقوق والحريات .
إن النخب الواعية والمثقفة يجب أن تكون قدوة فهي القادرة وحدها على تجذير تلك المفاهيم والترويج لها لأنها هي القادرة على الشعور بالمسؤولية وتحملها حتى تصبح الديمقراطية المسلك الصحي للجميع وهو ما يجنب الفوضى والصراعات والحروب الأهلية وكما يقول المثل الانقليزي ” إن بطاقات التصويت أفضل من إطلاق الرصاصات ” BALLOT IS BETTER THAN BALLS
إن منظمات المجتمع المدني المستقلة لعبت دورا أساسيا في مقاومة الاستبداد وساهمت بقسط وافر في إنجاح مرحلة الانتقال الديمقراطي. ذلك أن تونس تزخر منذ العهود السابقة بعديد المنظمات والجمعيات المناضلة مثل الاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين وجمعية القضاة ونقابة الصحافيين وجمعية النساء الديمقراطيات والمجلس الوطني للحريات وغيرها كل هذه المنظمات والجمعيات خاضت نضالات متواصلة ضد الاستبداد وضد قمع الحريات وضد انتهاك حقوق الإنسان .
فالاتحاد العام التونسي للشغل الذي تأسس سنة 1946 ساهم بقسط وافر في مقاومة الاستعمار الفرنسي وفي بناء مؤسسات الدولة على إثر الاستقلال وكان قوة اقتراح بناءة في المسائل الاقتصادية والاجتماعية وتضامن دوما مع بقية المنظمات والجمعيات إثر المحن التي مرت بها ووفر لها مقراته ودعمها ماديا ومعنويا مثل مؤازرة . الهياكل المهنية للمحاماة والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان .
أما هيئة المحامين فقد عرفت باستقلالها المتواصل عن السلطة الحاكمة وانخرطت في الدفاع عن ضحايا الحقوق والحريات مهما اختلفت انتماءاتهم الفكرية والإيديلوجية والحزبية كما أشرفت على تنظيم الدفاع في كل المحاكمات الكبرى ومنها محاكمات الحوض المنجمى التي كانت الشرارة الأساسية لاندلاع الحراك الثوري .
كما دافعت عن استقلال المهنة ووقفت سدَا منيعا ضد محاولات السلطة الحاكمة لتركيعها وتطويعها .
أما الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان فهي أول منظمة حقوقية في العالم العربي وفي إفريقيا تأسست يوم 7 ماي 1977 ودافعت عن الديمقراطية والحرية عن حقوق الإنسان في بعدها الكوني والشمولي رغم الحصار الذي فرضه النظام السابق على مقراتها ورغم المضايقات المتواصلة على مناضليها .
لقد ساهمت هذه المنظمات إلى جانب عديد المنظمات والجمعيات الأخرى في الحراك الثوري فكنت تشاهد النقابيين والمحامين والصحافيين والحقوقيين نساء ورجالا ومناضلي حقوق الإنسان يشاركون في المسيرات والتجمعات الشعبية في كامل أنحاء البلاد والمطالبة بالديمقراطية والحرية ولعبت المرأة دورا أساسيا في النضال وفي مقاومة الاستبداد.
وعلى إثر فرار الرئيس المخلوع يوم 14 جانفي 2011 إلى الخارج ساهمت تلك المنظمات والجمعيات في اعتصامات القصبة 1 و2 وأطرت التحركات الشعبية وشاركت في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي وهي هيئة بمثابة برلمان يقترح برامج الإصلاح الجوهرية ويدرس مشاريع المراسيم التي تحال على رئيس الجمهورية المؤقت قصد ختمها . وقد اقترحت تلك الهيئة عدة مراسيم صدرت ويقع إلى الآن العمل بها مثل مرسوم الجمعيات ومرسوم الأحزاب والمرسومين عدد 115 وعدد 116 المتعلقين بالصحافة والإعلام وهي مراسيم مصاغة وفقا للمعايير الدولية وتؤمن الحقوق والحريات على أساسها .
كما أنه على إثر الاغتيالات السياسية التي جدت سنة 2013 وطالت شهيدي الوطن الأستاذ شكري بلعيد المحامي ورئيس حزب الوطنيين الديمقراطيين في 6 فيفري 2013 والنائب بالمجلس الوطني التأسيسي ورئيس التيار الشعبي محمد البراهمي في 25 جويلية 2013 يوم الاحتفال بذكرى عيد الجمهورية تحرك المجتمع المدني والسياسي بقوَة.
لما كانت النخب السياسية مقسمة وانقطعت لغة الحوار بينها وأصبحت البلاد على حافة حرب أهلية أطلق الرباعي الراعي للحوار : الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والهيئة الوطنية للمحاميين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان مبادرة لتلخيص البلاد من الفوضى تتمثل في خارطة طريق تتضمن حلولا موضوعية جوهرية أهمها الإبقاء على المجلس الوطني التأسيسي باعتباره مجلسا منتخبا وحصر مهامه بالنسبة للمسار التشريعي في إصدار دستور في أجل محدد يرسي الديمقراطية على أسس سليمة أهمها التداول على المسؤولية والفصل بين السلط وضمان الحقوق والحريات في بعدها الكوني والشمولي وصيانة استقلال القضاء ، أما بالنسبة للمسار الحكومي فاختيار شخصية وطنية مستقلة لتكوين حكومة كفاءات تعمل على توفير الظروف اللازمة لإنجاح الانتخابات بما في ذلك تحييد المساجد والمدارس عن الدعاية السياسية والحزبية وعلى إثر لقاءات ونقاشات متعددة مع القوى السياسية تم الإمضاء على خارطة الطريق وتم انجازها في آجالها وانتهى مشوار الحوار بإصدار دستور من قبل المجلس الوطني التأسيسي رغم العديد من سلبياته فإنه يضمن الحريات العامة والفردية وحقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية على نقيض النسخة الأولى التي أعدها المجلس الوطني التأسيسي والتي تجعل من المرأة مكملة للرجل ولا تضمن الصبغة المدنية للدولة والحريات وحقوق الإنسان ما تمت دسترة العديد من المؤسسات الراعية للديمقراطية والحرية وعلى رأسها المحكمة الدستورية.
إن مسألة حقوق الإنسان يجب أن تكون ثقافة مسترسلة مستمرة وممارسة يومية تستمد من كونيتها وشموليتها باعتبارها نتاجا لكل الحضارات الإنسانية التي لم تعد تعتبر الإنسان مجرد فرد في مجتمع ما بل كائنا بشريا يجب أن يتمتع بحقوقه على قدم المساواة مع غيره .
ولكي تنمو الديمقراطية وتترسخ حقوق الإنسان يجب القيام بثورة ثقافية وتغيير الذهنيَة لدى الأطفال والشبيبة و يجب تعليمهم في كل مراحل الدراسة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية والممارسات الديمقراطية في تطورها التاريخي لكي تكون مرجعا أساسيا في السلوك الاجتماعي اليومي وفي ممارسات الأفراد داخل أوطانهم وخارجها . ذلك هو العلاج الفعال ضد الاستراتيجيات والبرامج التي تسعى إلى تقسيم المجتمع التونسي على أسس عُرفية أو دينية أو مذهبية وضد الممارسات المتطرفة من إرهاب وعنصرية وشوفبنية لإقرار الأمن والسلام.
يبقى من ناقل القول التأكيد على أن ترسيخ الديمقراطية وحقوق الإنسان بالتعلم والثقافة لا يكفي لوحده إذ لا بد من تمكين جميع الناس من حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية وهي الحقوق الأساسية حتى يتمكنوا من ممارسة بقية حقوقهم لان من ليس له شغل ودخل لا يمكنه ممارسة حقوقه المدنية والسياسية ( مثل التنقل والسفر والتعبير وتكوين الأحزاب والجمعيات )التي تبقى حبرا على ورق وكذلك حقوقه الاقتصادية الاجتماعية والثقافية التي تبقى سرابا خلابا فهل نجحت بلادنا بعد 10 سنوات من الثورة في الانتقال لوعي الديمقراطية وفي ضمان حقوق الإنسان ، ذلك ما سنراه في المقال التالي .
العميد: عبد الستار بن موسى