أثارت الحادثة التي جرت بمسجد “أُحد” بحي التضامن يوم الجمعة 12 فيفري الحالي، وكان رئيس الجمهورية قيس سعيّد أحد أطرافها، جدلاّ متعدّد الأبعاد، تعلّق، من ناحية، بمواصلة رئيس الجمهورية التواصل المباشر مع فئات شعبية ليعبّر عن موقفه من القضايا السياسية والاقتصادية المطروحة في البلاد، ومن ناحية أخرى بالفضاء الذي اختار فيه رئيس الجمهورية التعبير عن موقفه السياسي، وهو فضاء للعبادة. كما طرحت الحادثة، التي لم تكشف تفاصيلها الحقيقية من مصادر متعدّدة، طبيعة قيس سعيّد في التعامل مع مخالفيه، ويتعلق الأمر برواية أحد الحاضرين بالمسجد الذي تحدّث لقناة “الزيتونة” عن تعرّضه للتهجّم من طرف الرئيس نفسه، ثم إلى الاعتداء بالعنف من قبل الحرس الرئاسي.

ولم يصدر إلى حدّ اليوم توضيح من رئاسة الجمهورية لملابسات الواقعة.

تسييس المساجد

أعادت أبرز النقاشات التي جرت على مواقع التواصل الاجتماعي حول تلك الحادثة، النقاش حول “تحييد المساجد” وتوظيف المجال الديني في السياسة.

واعتبر الصحفي البرلماني سرحان الشيخاوي، في تدوينة بموقع التواصل الاجتماعي فايسبوك، أنّ” ما حدث أعادنا 8 سنوات إلى الخلف، تحديدا أثناء مناقشة القانون الانتخابي، وفي أواخر فترة مناقشة الدستور (…)  المعركة حينها كانت تحمل عناوين مختلفة سواء في مضمون الدستور أو في القانون الانتخابي، تم الانتصار فيها وحسم الأمر لصالح إخراج المساجد من اللعبة السياسية تماما. أخطر ما يحدث الآن، إعادة استثمار المساجد سياسيا”.

ودوّن، في السياق نفسه سامي براهم، الباحث بمركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية “سيراس”، تحت عنوان “تحييد المساجد مجدّدا… معركة خِلْنَاها حُسمت”، مشيرا إلى أنّ “مئات الدّورات والمحاضرات وعشرات المدرّبين والمؤطرين الجامعيين ساهمت في  تثوير الخطاب المنبريّ والدّفع نحو تحييده عن كلّ التّجاذبات، لكن “اليوم نجد أنفسنا في حرج أمام هؤلاء الأئمّة مع ما صدر من رأس الدّولة القدوة والمستأمن على الوحدة الوطنيّة والسّلم الأهلي في أحد المساجد من خطاب تقسيم وتحريض ووعيد”، وفق تعبير براهم.

وينخرط قيس سعيّد في “شبهة” توظيف الدين في السياسة، رغم أنّه أشار في تصريحات سابقة إلى ضرورة التفريق بين “دين الأمّة” و”دين الدولة” مؤكّدا أنّ الدولة لا دين لها، وهي مسألة مفاهيمية ساهم بها منذ سنة 2012 في النقاش حول مكانة الشريعة الإسلامية في الدستور والقوانين، ولم ترفع الالتباس حول قناعاته وخلفية الفكرية إذ واجه سعيّد خلال الحملة الانتخابية سنة 2019 انتقادات من بعض منافسيه وأنصارهم مفادها أنّه يحمل مرجعية “محافظة” و”دينيّة”.

ويعود ذلك الموقف من سعيّد إلى ما عبّر عنه من رفض للمطالبة بتعديل مجلة الأحوال الشخصية في اتجاه إقرار المساواة في الإرث بين الجنسين، استنادا إلى أنّ “المسألة محسومة بالنصّ القرآني ولا مجال لتأويل نصّ قرآني واضح”، وفق تصريحه لإذاعة شمس اف ام يوم 23 مارس 2019، وهو موقفه قبل انتخابه، وأيضا بعد انتخابه، وذلك في خطابه بقصر قرطاج يوم 13 أوت 2020، بمناسبة الذكرى الرابعة والستين لإصدار مجلة الأحوال الشخصية.

دولة بلا دين منضبطة بدين الأمّة

وفي سنة 2012 خلال النقاشات الحادّة حول توطئة الدستور الجديد، اعتبر قيس سعيد أنّ حلّ الخلاف يقع بالمحافظة على الصيغة الواردة في دستور سنة 1959 “الدولة دينها الإسلام”، ومعنى ذلك، حسب قوله في تصريح لقناة الجزيرة، “أنّ الشريعة الإسلامية حاضرة وكانت حاضرة على مدى أكثر من نصف قرن، في التشريع، وحاضرة بمناسبة المصادقة على عدد من المواثيق الدولية إذ تحفظت تونس على عدد من الاتفاقيات التي رأت أنّها تتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية، كما أنّ الشريعة الإسلامية ومبادئها كانت حاضرة في فقه القضاء، فعديدة هي القرارات التي غلّبت فيها المحاكم مبادئ الشريعة الإسلامية”. كما اقترح سعيد مخرجا للخلاف “إضافة فصل جديد يمكّن من تغليب أحكام الشريعة كلما كان هناك نصّ يتعارض مع مقاصدها”، وهو ما ورد في تصريح لإذاعة اكسبرس اف ام في 22 مارس 2012.

وفي درس افتتاحي بعنوان “دينها الإسلام”، بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس يوم 12 سبتمبر 2018، تحدث سعيّد عن دوره في الإقناع بضرورة الإبقاء على الفصل الأول من دستور 1959 في دستور 2014. وهو ما تحقق عبر صيغة “تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها”.

وأشار سعيّد إلى أنّ المجلس الوطني التأسيسي وضع حدا للحكم المتعلق بدين الدولة بحسم مسألة المضاف والمضاف إليه، والتأويل الذي يتبناه البعض بأن الضمير المتصل لا يتصل بالدولة وإنما بتونس، وأن الأمر لا يتجاوز مرتبة الإقرار بوضع اجتماعي دون ترتيب أي نتائج قانونية عليه.

وأضاف سعيّد “الإسلام لا يمكن أن يكون إلا دين الأمة وليس دين الدولة بالرغم من كل المحاولات لحصر الأمة داخل حدود الدولة في الفكر السياسي الغربي. سواء اعترف الفقهاء بالشخصية القانونية للأمة أو أنكروها، فإن الدين لا يمكن أن يكون موجًها إلا لجماعة من البشر”.

ثم عاد رئيس الجمهورية قيس سعيد يوم 13 أوت 2020 بقصر قرطاج للتذكير بهذه المحاضرة وشدّد على أنّ “الدين هو دين الأمة وعلى الدولة أن تعمل على تحقيق مقاصده”، لكنّه مضى يقول ردّا على المطالبين بالمساواة في الإرث: “النصّ القرآني واضح ولا يقبل التأويل ومنظومة الإرث في الإسلام لا تقوم على المساواة الشكلية، بل هي منظومة متكاملة تقوم على العدل والإنصاف”.

وهذا الموقف القطعي استنادا إلى القرآن، فُسّر على أنّ الرئيس اعتبر أنّه يجب على الدولة أن لا تعمل بما يخالف “دين الأمّة”، وهي المقاربة الفكرية الخاصة به في جدل الدين والدولة. ولذلك ندّدت الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات في بيان أصدرته يوم 15 أوت 2020، بعنوان “نرفض اغتيال الحقوق يوم الاحتفاء بالحقوق”، بخطاب رئيس الجمهورية الذي “اختار فيه معاداة المساواة”، وفق تعبير البيان.

واعتبرت الجمعية أنّ رئيس الجمهورية قدّم “قراءته الرجعية” للدستور، “مستوليا على دور المحكمة الدستورية، معتمدا خطابا ديماغوجيا يستثمر فيه فقر النساء مواصلا حملته الانتخابية مغازلا بذلك الخزان الانتخابي للتيارات الظلامية والمعادية للمساواة في الداخل والخارج”.

ووصفت الجمعية موقف الرئيس بأنّه “انتهج كمن سبقوه، أسلوب التضليل والتحنيط والمراوغة اللغوية الجوفاء لإفراغ قيم المدنية والمساواة والمواطنة والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية من كل مضمون، قيم يخال أنها مقتصرة على الفضاء العام وينكرها على النساء والأفراد في الفضاء الخاص”.

وفي اجتماع لمجلس الأمن القومي في سبتمبر الماضي، تطرق قيس سعيّد إلى النقاش حول عقوبة الإعدام، وحسم موقفه بالرجوع إلى عقوبة القصاص في النصّ القرآني، قائلا: “من قتل نفسا بغير حق جزاؤه الإعدام”.

الفتنة بين قصرين

تتوفر في المواقف الفكرية لقيس سعيد حول مكانة الدين في المجتمع والقوانين، مساحة كبيرة للالتقاء مع التيارات السياسية المحافظة في تونس، وفي مقدمتها حركة النهضة وائتلاف الكرامة اللتين تشكلان معا كتلة برلمانية وازنة. لكنّ هذين الطرفين السياسيين يتموقعان اليوم في مقدمة المناوئين لرئيس الجمهورية بعدما كانا من أهمّ مناصريه في حملته الانتخابية الرئاسية في الدور الثاني في أكتوبر 2019.

فقيس سعيد المنتخب بحوالي 72 بالمائة من المقترعين برقم فاجأ جميع المراقبين وبلغ مليونين و780 ألف صوتا، يستند إلى هذه “الشرعية الشعبية” الأوسع، عندما يذكّر من موقعه الدستوري أنّه يجب “الاستجابة لتطلعات الناس” وأنّ أداء السلطتين التشريعية والتنفيذية في باردو والقصبة دون ذلك حتى الآن، بل يذهب أكثر من ذلك مستخدما عبارات “خيانة الأمانة” و”الخيانة” و”النفاق”، بما تحمله من شحنات أخلاقية ودينية قادرة على التأثير في عموم الناس وحشدهم ضد خصومه. وقد ردّ بعض النواب من الكتلتين المذكورتين بعبارة حادة ايضا وخاصة بمناسبة رفض رئيس الجمهورية دعوة الوزراء الذين نالوا ثقة البرلمان لأداء اليمين الدستورية، وهو ما جعل التحوير الوزاري معلقا وموضوعا للتجاذبات بين قصري باردو وقرطاج.

فخلال الصراع على السلطة، مثلما بيّنت التجارب، لا معنى للمرجعية الفكرية الجامعة، حتى إن كانت دينية، وما مثال عمر البشير والجبهة القومية الإسلامية بزعامة حسن الترابي في السودان، إلاّ دليلا على ذلك، إذ صعد البشير بإسناد من الإسلاميين، ثم استقطب بعض قياداتهم لصفه وزجّ بآخرين في السجن وأنهى دورهم في السلطة.

أمّا في أفغانستان، فقد سارعت فصائل “المجاهدين” الأفغان، بعد تحرير بلادهم، إلى القتال الدامي، بما هيّأها إلى الغزو الخارجي.

لطفي حيدوري